في البدء كانت المادة
ليس منا مَنْ لم يقف متسائلًا أمام الظواهر الطبيعية التي تدور حوله من برق ورعد وكسوف وخسوف…وغيرها. فعلى الرغم من أن المشاغل الحياتية تجرفنا عن أي تأمل أو تفكّر إلا أن هناك لحظات استراحة من تلك المشاغل؛ تجعل تلك التساؤلات تقفز إلى أذهاننا جميعًا، فتَجُرّ كثيرًا من الأسئلة بصيغةٍ أو بأخرى.
صحيح أن الثقافة الدينية قدّمت أجوبة جاهزة عن بعض تلك التساؤلات، لكن النص الديني وحده يكون في عبارات مكبوسة تحمل في طياتها الكثير من المعاني التي تحتاج بتعبيراتها إلى تأمل آخر لفهم معانيها، إلى جانب أن عصر العلم الذي نعيش ذروته اليوم قد قدّم فِكَرًا وأجوبة بالصوت والصورة حول حقائق الكون الفسيح أصابت عقولنا بالمزيد من الذهول، لكن هذا الذهول راكم هو الآخر المزيد من التساؤلات حول ما قدمه العلم وكيف توصل إليه؟ ولماذا؟
لا يُفهم من كلامي هذا تجاهل النص الديني، إنما محاولة لفهم محتواه بأسلوب العلم الحديث بما يسمح لنا أن ننطلق من إدراك الكون المنظور في فهم النص المسطور؛ لأن الركون إلى النص الديني وحده دون الالتفاف إلى عطاءات العلم الحديث – خصوصا المتعلقة بالأمور الكونية – هو نقص في فهمنا لتلك الأمور الكونية، وكذلك يكون تفسير النص الديني المتعلق به هو الآخر منقوص.
من الأسطورة إلى العلم:-
يحدثنا التاريخ أن الإجابات (المعلّبَة) لتلك الظواهر الكونية التي قدمتها الأساطير في الأزمنة القديمة -على كثرتها- لم تشبع نهم الإنسان، ففكرة أن البرق والرعد سببه طرقات الإله زيوس وأن الأرض رابضة على قرني ثور إذا نطحها كانت الزلازل، وإجابات أخرى مماثلة مازالت تحتفظ بها ذاكرة الإنسان إلى اليوم كأساطير ُتـحكى.
إن نبْذ تلك الأساطير (Mythos) والتوجه إلى تأمل واستنباط يقوم على العقل أو اللوجوس(Logos) أو الكلمة، كان الشرارة الأولى للبحث العلمي الذي شيد المعمار العلمي الشامخ الذي نعيشه في هذا العصر.
ونذكر هنا أن كلمة نظرية Theory الشائعة اليوم في لغة العلوم كانت في اليونانية تعني أولًا تأمل منظر طبيعي، بل أن كلمة لوجوس السابقة الذكر اشتق منها لفظة المنطق logic وكذلك المقطع logy الذي يُضاف إلى الكلمة ليفيد معنى العلم مثل علم الحياة Biology وعلم الكونيات Cosmology وعلم المعادن Mineralogy …الخ.
ما هو أصل الأشياء من حولنا؟
هذه المواد التي تدركها حواسنا ما هو أصلها؟
أليس هذا السؤال البسيط هو نقطة الانطلاق للبحث عن خفايا الكون الذي نعيش فيه؟!
مرت البشرية بفترات أثارت مثل هذه التساؤلات التي بدأت ضمن مجال الفلسفة، لكن بمرور الوقت تسلمت العلوم الطبيعية الدفة في إيجاد إجابة عنها، وبالعودة إلى التاريخ نجد أن حب الاستطلاع لدى اليونانيين القدامى أعطاهم المكانة الفريدة والأهلية لتقديم إجابات عن تساؤل ما هو أصل الأشياء أو لنقل محاولة الإجابة.
في مدينة ملطية Miletus القديمة انبثقت حضارة فكرية في القرن السادس قبل الميلاد فكان أول فلاسفتها هو طاليس Thales (639 – 440 ق.م)، لقد كان الاعتقاد في زمن طاليس أن العناصر التي يتكون منها الكون أربعة: الهواء والماء والنار والتراب. كل شيء محسوس يتكون من هذه العناصر الأربعة، لكن طاليس كان يقول إن هذه العناصر الأربعة لابد أن يكون لها أصل واحد فما هو يا ترى؟
فاقترح أن الماء هو الأصل الذي انبثقت منه كل الأشياء.
إن اختيار الماء ليس غريبًا لرجل يعيش في مدينة ساحلية؛ فهو يرى دورة الماء أمامه من تبخر فتكثف فأمطار فسواقي وهكذا.
لكن الفيلسوف أناكسيمندر Anaximander(610 – 546 ق.م) انتقد رأي طاليس هذا، فما الداعي لاختيار الماء بالذات؟
فالمادة الأصلية التي انبثقت منها المواد الأخرى لا يمكن أن تكون على صورة واحدة من صور المواد، بل ينبغي أن تكون شيئًا مختلفًا عن المواد جميعها وسابقة للمواد جميعها؛ لأن أشكال المواد المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع وهذا التنازع سيجعل في النهاية للمادة الأساسية شكل محدد عن باقي الأشكال الأخرى، لذا يقترح اناكسيمندر أن المادة الأساسية لا محدودة ولا متناهية في الشكل، بل ولا متعينة أطلق عليها اسم الأبيرون Apeiron، وكل المواد التي نعرفها انبثقت منها على حسب القوانين التي تعاقبت من حرارة ورطوبة وبرد وجفاف.
يأتي بعده أناكسيمنس Anaximenes (585 – 525 ق.م) الذي يعيدنا مرة أخرى إلى مادة واحدة أساسية وهي- من وجهة نظره- الهواء، فكل أشكال المادة التي نعرفها تنشأ من الهواء -كما يقول- عن طريق التكاثف والتخلخل، وجاءت هذه الآراء من ملاحظته للمطر الهاطل من الغيوم حيث يتم تكثيف الماء من البحار والماء يتحول إلى هواء – بخار – بواسطة التبخر، وظن هذا الفيلسوف أن كثافة الهواء تقرر تحوله إلى مواد طبيعية أخرى.
الطريق إلى التجريد:-
بعد هؤلاء يأتي الفيلسوف المعروف لدينا جميعًا وهو فيثاغورث Pythagoras (572 – 500 ق.م) -صاحب نظرية مربع الوتر في النسب المثلثية- الذي يحرف البحث عن أصل الأشياء من التنقيب عن مادة ملموسة ومدركة بالحواس إلى التجريد Abstract؛ فهو يرى أن السبيل إلى معرفة المادة هو معرفة أوصافها لكن هذه الأوصاف ليست عامة في كل الأشياء ماعدا وصف واحد موجود في كل الأشياء وهو العدد، فالعدد أساس الكون وأساس مادته والتناغم أو التناسب بين هذه الأعداد بعضها إلى بعض، هو الذي يضع التوازن والانسجام بين الأضداد؛ لذلك فالفيثاغورسيون أعطوا الأشياء في الكون دلالات الأعداد، فرمزوا لكل شيء بعدد بل وقدسوا بعض تلك الأعداد مثل الرقم عشرة؛ لأنه مجموع الأرقام الأولى الأربعة وسموه الرَبوع الإلهي!
إن التجريد في التعامل مع الأشياء هو جوهر علم الرياضيات نفسه القائم عليه إلى أعلى درجة، أما التناغم بين الأعداد قاد فيثاغورث إلى إدراك التناغم بين الأنغام الموسيقية.
ومن تراكم ما سبق يأتي الفيلسوف هراقليطس Heraclites (535 – 475 ق.م) ليجمع بين رأي أناكسيمندرAnaximander عن المادة اللامحدودة التي تحوي الأضداد المتنازعة وبين التناغم عند فيثاغورث، ليخرج برأي أن صراع الأضداد يكون وفق مقادير محسوبة، فيكون هذا التناغم الخفي الذي لا نراه جوهر العالَم، فهذا الصراع هو سبب بقاء العالَم على حاله، لذا يقول هذا الفيلسوف: ” الحرب هي أم الأشياء”؛ أي الصراع وليست الحرب العسكرية كما نفهم.
مبدأ الصيرورة لديه جعلته يطلق تلك العبارة الشهيرة ” إنك لا تستطيع أن تنزل في النهر نفسه مرتين لأن مياها جديدة تتدفق عليك بلا انقطاع “؛ فالنهر هو نفسه وليس نفسه في الوقت ذاته!
بمعنى هو نفس النهر الذي نزلت فيه، لكن بسبب تدفق (تغير) مياهه فهو ليس نفس النهر الأصلي.
وبناء على هذه الصيرورة فقد اختار هذا الفيلسوف النار لتكون أصل الأشياء؛ لأنه يرى أن: ” الأشياء جميعًا تتبادل مع النار، والنار تتبادل مع الأشياء جميعًا، كما تتبادل السلع مع الذهب والذهب مع السلع”.
ورغم تشابهه مع الفلاسفة الأوائل في اختيار مادة واحدة لتكون أصل الأشياء إلا أنه يختلف عنهم بإضافة تناغم فيثاغورث كعلاقة الأشياء فيما بينها البين فتظل الأشياء على ما هي عليه رغم الصيرورة.
من بعده يأتي الفيلسوف بارمينيدس Parmenides (515 – 440 ق.م) الذي دفع بالتجريد إلى أقصى حد، حيث أنكر كل فِكَر التغير والتعدد؛ لأن التغير أو التحرك يفترض انتقال المادة من مكان لآخر فارغ، لكن كيف نتصور أو نفكر فيما لا وجود له (فارغ)؟
وهكذا فلا يوجد مكان فارغ من المادة، مما دفع هذا الفيلسوف إلى الاعتقاد أن المادة تملأ العالَم كله؛ لذا يتصور العالَم كرة مادية مصمتة متناهية متجانسة بلا زمن ولا حركة ولا تغير، والذي تقرره حواسنا من صفات للمادة هي زائلة ومتغيرة إلا شيء واحد هو: الكينونة existenceالتي هي أصل الكون، ولا نصل إليه بالحواس بل بالعقل المجرد، وكل شيء خلافه هو وهم!
فأصبح العالَم عالمين: عالَم الوهم وهو المواد المتغيرة التي تدركها حواسنا، وعالَم الحقيقة وهي الكينونة الثابتة أو الجوهر الذي لا يتغير وغير قابل للانقسام ولا يُدرَك إلا بالعقل المجرد، وهذا ما نجد أثره عند أفلاطون في نظرية المُثل.
الطريق إلى الذرة
انقسام العالَم الذي وضعه بارمينيدس إلى عالَم متغير ضمن دائرة الحواس وآخر ثابت لا يُدرك إلا بالعقل المجرد؛ جعل خلفاء بارمينيدس يحاولون التوفيق بينهما، فكان أولهم الفيلسوف إنبادقليس Empedocles (495 – 440 ق.م) الذي جعل صفة الجوهر الفرد الثابت الذي لا يتغير في الذرات التي يتكون منها الكينونة لدى بارمينيدس، في حين الظاهر الذي يحدث هو في الأجسام من حيث الصورة.
ويجمع إنبادقليس للوجود عنده كل المواد لدى الفلاسفة السابقين وهي: الماء والهواء والنار ويضيف التراب، ويطلق عليها اسم الجذور Roots، التي سيطلق عليها أرسطو بعد ذلك اسم العناصر Elements التي سيطرت على علم الكيمياء لمدة ألفي سنة.
هذه الجذور توحّدها قوة الحب وتفرقها قوة النضال أو الكراهية؛ حيث تقوم هاتان القوتان مقام الفراغ الذي تجنبه بارمينيدس؛ فعند تفرّق الجذور الأربعة تكون قوة الحب في الفراغ وعند اجتماع الجذور الأربعة تظهر قوة الكراهية للتخلص من الفراغ، فكأن القوتين هما مادتان مضافتان للمواد الأربعة الأساسية.
صحيح أن إنبادقليس أضاف مواد جديدة غير موجودة سابقًا، لكنه مهد الطريق لمنْ يأتي بعده بإدخال مفهوم الجوهر الفرد الذي لا ينقسم.
التقط فكرة الجذور الفيلسوف أناكساجوراس Anaxagoras (500 – 428 ق.م) فجعل منها ذرات لانهائية بدلًا من أربع، لكنه يرى أن الذرة قابلة للانقسام إلى ما لانهاية، وأن كل شيء يحوي في ذاته على بذور كل الأشياء فيقول: ” في كل شيء يوجد قدر من كل شيء “.
لكن هذه الجذور مختلطة وغير منظورة بسبب اختلافها، وما التغيرات الظاهرة إلا إعادة تجميع أو اندماج تلك الجذور، وهي تحتاج إلى قوة دافعة – لا كما اعتقد إنبادقليس قوة الحب والكراهية- بل كما يقول أناكساجوراس هي عقل رشيد Nous يكون نقي غير مختلط بالمواد، لكن هذا العقل في النهاية يظل مادة وإن كانت شديدة الرقة والشفافية وهو أصل كل حركة.
إن فكرة قابلية الانقسام إلى ما لانهاية سنجد أثرها في المذهب الذري Atomism عند إسقاطها على المكان.
يعيد الفيلسوف مليسوس Melissus (470-430 ق.م) للفراغ اعتباره؛ فوصف الكينونة عند بارمينيدس أنه فلك متناهٍ يوحي أن هناك شيء خارجه، وهذا الفراغ الذي بدونه سيكون الكون المادي غير متناه فلا بد من وجود الفراغ.
فخطونا خطوة إلى التأسيس للمذهب الذري على يد ليوقيبوس Leucippus(480– 420 ق.م) فالذرات Atoms تعني: الأشياء التي لا يمكن تجزئتها المطابقة لفلك بارمينيدس تتحرك في المكان القابل للانقسام رياضيًا بلا حدود، لذا يرى الفيلسوف ديموقريطس Democritus (460 – 370 ق.م) أن العالَم يتكون من ذرات تتحرك في الفراغ وائتلاف هذه الذرات هو الذي يعطي للأشياء صفاتها، وهذه الذرات متناهية الصغر بحيث لا يمكن رؤيتها.
ظلت هذه الفكرة تسبح في الذاكرة البشرية لقرون حتى جاء العالم الإنجليزي جون دالتون Dalton Jon (1766 – 1844م) في القرن الثامن عشر الميلادي ليضيف إلى ذلك أن هذه الذرات تتجاذب متحدة لتصنع المركبات، وقدّم هذا العالم قانونه الشهير في تفاعل الغازات.
الأصل والصورة في المادة
قدّم أفلاطون Plato (427 – 347 ق.م) نظرية المُثل Ideas كتتويج لتجريد بارمينيدس؛ فرأى أفلاطون أن المواد التي ضمن حواسنا ما هي إلا أشياء مقلدة عن مثالها الأسمى في عالم الحقيقة الذي لا يُدرك، فالصورة الجميلة ما هي إلا تقليد لمثال الجمال ذاته وهذه المُثل لا تُدرك إلا بالعقل.
عرض أفلاطون مثالا لتقريب ذلك إلى الأذهان في تشبيه الكهف؛ فقد تخيل أننا سجناء في كهف لا نرى إلا ظلال الأشياء المنعكسة على بوابة الكهف فنظنها الأشياء نفسها لكن أحد المسجونين يهرب من الكهف فيكتشف أن الأشياء في الخارج هي الحقيقية وما نراه في بوابة الكهف ما هو إلا ظلالها.
وأخيرا نصل إلى أرسطو Aristotle (384 – 322 ق.م) بفكرته حول الصورة والمادة، وقد قال أرسطو:” لكي نفهم التغير يجب أن نفرِّق بين الصورة والمادة أو الشيء”.
حسب اعتقاد أرسطو، فإنَّ التغير هو أن تكتسب المادة نفسها شكلًا جديدًا، وقد عدد أرسطو أسبابًا أربعة للتغير:
1- السبب المادي
2- السبب الصوري
3- السبب الفعَّال
4- السبب النهائي.
مثلاً السبب المادي لتمثال منحوت هو المادة المصنوع منها التمثال، والسبب الفعَّال هو النشاط الذي بذله ناحت التمثال، والسبب الصوري هو الشكل الذي صيغت فيه مادة التمثال والسبب النهائي هو الخطة أو التصميم الذي كان في ذهن النحات، فالمادة هو السبب المادي أما الصورة فهي الأسباب الثلاثة مجتمعة، وما التفريق بين هذه الأسباب إلا في أذهاننا؛ لأن الصورة هي الخلّاقة التي تعطي لهذه المادة الخام خصائصها وتحولها إلى شيء.
أثرت هذه الفلسفات كلها على مجريات البحث عن المادة في العصور اللاحقة وبالتحديد في عصر النهضة العلمية في القرن السادس عشر في أوروبا، ولعل علم الفيزياء أخذ النصيب الأكبر من ذلك كما يتضح في نظرية ميكانيكا الكم Quantum mechanics- إحدى أهم النظريات الحديثة في القرن العشرين بل والقرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه-، حيث ركزت هذه النظرية على تركيب الذرة وما في داخلها من عالم غريب.
تلك الذرة التي بدأت فكرة قبل ألفين وخمس مئة عام.
المراجع:
1/ برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، ج1، العدد 62(الكويت: سلسلة عالم المعرفة، فبراير 1983).
2/ زكي نجيب محمود وأحمد أمين، قصة الفلسفة اليونانية، ط2(القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1935).
3/ بول ديفيز، الله والعقل والكون، ترجمة: سعد الدين خرفان ووائل بشير الاتاسي، ط3(دمشق: منشورات دار علاء الدين، 2004).
4/ ويل ديورَانت، قصة الحضارة، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرون، مج42 (لبنان: دار الجيل،1988).
5/ رولان أومنيس، فلسفة الكوانتم، ترجمة: أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، العدد 350(الكويت: سلسلة عالم المعرفة، إبريل 2008).