ماذا تخبرنا الفيزياء الحديثة عن مكونات الكون؟

ربما كان الفلاسفة اليونانيون القدماء هم أول من نظر بجدية في أصل الموجودات، وتوصل بعضهم إلى نتيجة تقول أن كل شيء في الكون بما فيه الضوء، يتكون أساساً من جسيمات صغيرة تتحرك في الفضاء الفارغ، وهو ما اتفق معهم فيه إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر، فكيف غيرت الفيزياء الحديثة فهمنا لمكونات العالم من حولنا، تعالوا معاً نتابع ما كتبه آرت هوبسون من خلال عرضه لكتابه “حكايات الكم” على مدونة جامعة أوكسفورد OUPblog

جسيمات ومجالات 

بدأت بوادر التساؤل حول مدى صحة مفهوم الطبيعة الموجية للضوء _الذي ينتقل في خطوط مستقيمة، مع تجارب العالم الإيطالي جريمالدي، الذي أثبت مبكراً عام 1660 ظاهرة حيود الضوء، ورغم أن تفسيرات نيوتن لتلك المشاهدات في إطار الطبيعة الجسيمية لم تكن مقنعة تماماً، إلا أن المجتمع العلمي المفتون بأقوال العظماء تغاضى عن ذلك احتراماً لشخص نيوتن. وظل الأمر كذلك حتى عام 1803 عندما أصبحت الطبيعة الموجية للضوء مقبولة على نطاق واسع.

بلغ الصراع حول طبيعة الضوء مداه في مستهل القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1801، مع تجارب توماس يونغ، والتي جاءت نتائجها مختلفة تماماً مع وجهة نظر نيوتن_ ومن سبقه، حول الطبيعة الجسيمية للضوء.

فمن خلال تلك التجارب تأكد الجميع من امتلاك الضوء  لخصائص التداخل والحيود المميزة للموجات حقيقة أن الضوء ذو طبيعة موجية،  أكدتها فيما بعد تجارب مايكل فاراداي، ونظريات جيمس ماكسويل، عندها تيقن العالم ان موجات لضوء هي عبارة عن جزء يسير من طيف واسع يضم  جميع انواع الإشعة الكهرومغناطيسية الأخرى مثل الأشعة تحت الحمراء والراديو، والتي  هي عبارة عن اضطراب  في “المجال الكهرومغناطيسي“، أو ببساطة هي عبارة عن الحالة التي يتخذها الفضاء في لحظة معينة، على غرار الطريقة التي يمكن أن يكون الدخان حالة من المساحة في جميع أنحاء الغرفة. وبحلول عام 1900، استقر إجماع علماء الفيزياء على تقسيم مكونات الكون إلى نوعين متميزين من الأشياء: المجالات، التي يتكون منها الإشعاع الكهرومغناطيسي كما الضوء، والجسيمات، التي تصنع الأجسام المادية كما هي الذرة ومكوناتها من بروتونات وإلكترونات.

صدمة الكم 

جاء التحول الأكثر راديكالية من وجهة نظرنا حول طبيعة المادة مع بزوغ فجر نظرية الكم على يد ماكس بلانك، ومن بعده ألبرت أينشتاين، الذي نال جائزة نوبل فقط لانه فسر نتائج تجارب الانبعاث الكهربي الصادر من بعض المعادن عند تعرضها للضوء علي أساس  أن الإشعاع الضوئي هو في حقيقته مجموعة  من الحزم المجهرية من الطاقة المشعة تسمى “الفوتونات“، وهو بذلك يماثل المادة التي تتكون من حزم مجهرية تسمى البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والذرات والجزيئات، فهل كان يعني ذلك بعث أفكار نيوتن من جديد؟

إعلان

بالطبع لا فقد  تبين أن حزم الإشعاع التي افترضنا اينشتاين  ليست جزيئات صغيرة تتحرك من خلال الفضاء الفارغ كما أفترض نيوتن وغيره من قبل،  وإنما هي عبارة عن حزم من الطاقة تدعى “كوانتا“، لكن فيزياء الكم، أخذتنا بعيداً حين افترضت أن هذا الامر ليس قاصرا علي  الإشعاع فقط  بل ان المادة ايضا – تتكون من حزم من الطاقة.

نرشح لك: أسئلة لم تُجب عنها الفيزياء الحديثة

لا حدود فاصلة بين المادة والإشعاع

في الفيزياء الحديثة نجد أن المادة والإشعاع متشابهان بشكل غريب، وبطرق لم تتخيلها الفيزياء التقليدية ما قبل الكم، فالمادة والإشعاع، كما يعتقد جُلّ العلماء اليوم يتكون كلاهما من “كمات” من الطاقة، شيء يشبه الحل الوسط بين المجالات القادرة على الانتشار في المكان والجسيمات ذات الحيز المحدود، واليوم أصبحت الطبيعة المزدوجة للجسيمات المادية حقيقة لا مراء فيها.

وتبلغ الغرابة مداها حين نعلم أن التجارب قد أكدت إمكانية وجود الإلكترون أو الفوتون الواحد، في مكانين منفصلين في وقت واحد، وأنه بإمكان كل منهما أن ينتشر عبر مساحة كبيرة بقدر ما يمكن للسحابة ملء غرفة كبيرة. ولكن يظل بإمكان الإلكترونات والفوتونات المفردة إثبات طبيعتها الجسيمية من خلال الآثار المادية القابلة التي تتركها على الشاشات الفلورية عند اصطدامها بها.

تجربة الشق المزدوج

تجربة الشق المزدوج
تجربة الشق المزدوج

من التجارب الشهيرة التي تظهر تمتع الجسيمات المادية  بخصائص  كل من الجسيمات والمجالات الكمية في تجربة واحدة، ” تجربة الشق المزدوج” التي استخدمها توماس يونغ لأول مرة لإثبات الطبيعة الموجية للضوء.

خلال التجربة يُسمح للضوء بالمرور عبر شقين رفيعين في حاجز مانع للضوء، عندها يصبح كلا الشقين بمثابة  مصدرين ضوئيين متشابهين مترافقين، وعند استقبال موجات الضوء الصادرة عنهما حاجزاً أمامهما تظهر أنماط تداخل تتميز بأهداب ضوئية شديدة الإضاءة وأخرى معتمة، في محاكاة واضحة لظاهرتي التداخل البناء والهدام للموجات المادية.

تم الحصول أيضا على نتائج مشابهة عند استبدال الحزم الضوئية (حزم الفوتونات) بحزم إلكترونية على يد ديفيسون وجيرمر عام 1927، وظهر أن الإلكترونات تظهر نفس سلوك الموجات، إذن نحن أمام دليل واضح  على أن كل شعاع من الإلكترونات يمر عبر الشقين كموجات “تتداخل” مع بعضها البعض بالطريقة المعروفة عن الموجات. ولكن عندما يتم تعتيم الشعاع تدريجياً وتبدأ الإلكترونات في المرور من الشقين واحداً تلو الآخر ، تُظهر الإلكترونات والفوتونات تأثيرات فردية يمكن عدها على الشاشة.

 

بعبارة أخرى يبدأ لغز “الجسيم-المجال”  في الظهور عندما تمر “كمة” واحدة من الإشعاع أو المادة (الكترون مثلا) من خلال الشقين في كل مرة ولدي تتبع نقاط الارتطام مع الشاشة، وتجميع  التأثيرات الفردية على الشاشة يظهر امامنا  نفس نمط التداخل، هذا يجرنا إلي استنتاج يقول أن  كل “كمة”  تمر بصورة ما عبر كلا الشقين في نفس الوقت، وكما قال عالم الكم العظيم بول ديراك، “كل فوتون لا يتداخل إلا مع نفسه؛” لكن هذا لا يقتصر علي الفوتونات والإلكترونات فقط ، لكننا متأكدون الآن أن جميع مكونات الذرة المادية بل والجزيئات عديدة الذرات،كذلك يفعلون.

بقي أن نخبركم أننا اقتصرنا في هذا المقال على مكونات الكون المعروفة لكن ما زال أمامنا الكثير لنتعلمه حول المكونات المجهولة للكون من قبيل المادة المظلمة والطاقة المظلمة، وربما كان للحديث بقية.

اقرأ أيضًا: دليلك البسيط لتعلم الفيزياء الحديثة

المصادر

1،2

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا