يوم ماتَ أبي

– أين الله يا أبي؟
– الله فيك ما دمتَ رحيما.
– وإن لم أكن؟
– يا بنيّ، لا تكن.

ما سر قلمي هذا؟ يظل كالجثة ساكنا، أو واجما وجوم الحزين، ثم يجري بغتة، يسود بياض أوراقي، يجري هوينا كأن الحياة تولد فيه وتسري دبيبا، ثم يعدو كلاما أعرف منه وأنكر. ثم ما هو سر أن أمسكه لك، أو أمسكه عليّ، أو أن يساورني الحزن بغتة، وأن يعتمل في قلبي؟ يا مسكين، أنا مسكين مثلك، والمسكين ليس قليل اليد فقط، بل إن من الفاقد مسكينا، وإن من المكروب مساكين.. أعرف سرَّ هذا كلِّه، وأعرف، ولكني كديني أنكر؛ حتى أهنأ بشيء من خداع الوهم.

ويحي، كلما كِدتُ أنسى بترادف الأيام، وتَتَابُع الحوادث، أطلَّتْ الذكرى على بنيان عقلي، ملعون طلعُها؛ كأنَّها رؤوس شياطين! هذه الكلمات التي تقرؤها كانتْ في أصلها رسالة أرسلتُ بها إلى أحد أصدقائي، ممن يلسعني حرفه كلما كتب عن أمِّه المَفقُودة. شاركتُه معاناتي؛ لأنَّه سيفهم، وأفضيتُ إليه بألمي؛ لأنَّ ألمَه من جِنسِ ألمي. لعنتُ إطلاله؛ لأنَّ إطلاله إطلالي! ملعون أنتَ يا صديق، ومطرود من الرَّحمة مثلي عندما أظلَّتْنا آلام الفقد، ولم تبرح أبدا عن سمائنا. قلتُ له: ما شأني وشأنك؟ إنني أقرأ إفضاءَك؛ فأقطر على نفسي عطفا، وغضبا على القدر، وعليك؛ لأنَّك وخز الذاكرة اللعينة!

***

يارب، أعرف أنَّ الحكم نافذ، وأنه لا رادَّ لقضائك إلا قضاؤك، ولكن، عندي سؤال؛ سؤالُ عَبْدٍ مُعَاتِب، فلا تطردني من حضرتك كما طردتَ إبليس! لِمَ تُعطيني ما دمتَ تأخذ؟ يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، أو ليتني ما كنتُ أصلا، أف لي، أَأُريده أن يتقلَّب في الفقد تقلُّبَي؟! أن ينفطر كبده بسقم الداء وموت الابن؟! بئس قطعتَه أنتَ… ليتني كنتُ في كَتْمِ العَدمِ باقيًا!

اشفه أو أرحه، اشفه أو أرحه، اشفه أو أرحه؛ الجو يضيق كالقبر، وسماء نفسي تتلبَّد بالغيوم، وتضطرب أركاني كبيت صغير يخبطه زلزال؛ هل يموت؟ ما له لا ينظر إليّ كما أنظر إليه؟ أجم وجومه، وأصفرُّ اصفراره، وأرقد على سرير الألم كما يرقد هو على سرير يلد الموت، يا أمي، يا أخي، يا أختي، يا أنا، يا طبيب، يا ممرضة، أفسِحوا له، إنه يعاني غمرات الانتقال، لا تسقيه الدواء يا أمي، إنه يتجرع بأس الألم، وأنتِ تتجرعين يأس الأمل، إنني أعرف أنه يموت، ولكني أُكَذِّبُ نفسي، ابتعدوا، ويلكم، إنكم تستنشقون روحه!

إعلان

كأني بهذا الشيخ المُعَمَّم يأتيني، هل أنتَ ابنه؟ نعم، أو لا، حسب ما تريد، وأنا أعرف الذي تريد؛ أن تخبرني أنه في ساعاته الأخيرة، وأن ألقنه لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! اخرج يا لعين، اغرب عن وجهي، ائتِ بخير أو اذهب، ولا خيرَ إلا أنْ يعود، لو كان يرى وجهي وهو يربدّ لعلم من الميت؟ ولكنه لا يرى!

***

اسقه كأس الحياة يا دكتور ليكون كَرَّة، أتقدر؟ اسقيه كأس العطف يا أمي ليحيا مرة، أتقدرين؟ أين الله الآن يا أبي ؟ أهو ها هنا داخلي كما أخبرتَني قبل، أتكون مني رحمة، ويكون منه ذلك؟ يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك! قد أدركتَ أباك وأنا أدركتُ أباك، ورأيتُك تنفض ترابه كما أنفض ترابك أنت اليوم، يا أبتِ أين الله؟! من فَرَّق بيني وبينك؟ ومن قطعني منك؟ يا أبتِ هل رأيتَ ربك؟ أو هل تسمعني؟ إن كنتَ فأخبره أن يأخذني إليك، أو أن يجمعني بك في رؤية أتقوَّى بها على داء الوجد؛ اجتماع في الوهم أو الحقيقة؛ أيّ اجتماع، لا يهمّ! آه، هل تدرك ما أقول؟ الله لا يستجيب دعائي، فهل يستجيب دعاءك؟! لعمري، أين هؤلاء الذين كُنا نُلَقَّن أنهم لو أقسم أحدهم على الله لأبرّه! أين؟ كذبوا، إنما هي الحياة؛ تجري بسنن، وتسير بنظام، ولن يخترم العالم من أجل أخرق مثلي!

***

– يا ولدي، تعال إلى المستشفى، يريد أبوك أن يراك.
– حاضر يا أمي.

إن هذا الذي يريد أن يراني لم يعرفْني، لم أجده إلا ظمئا للرحيل، أواه، إنه لا يعرف أحدًا؛ أبي أنا ابنك؛ بقيّتُك، وهذه أمي، وهذا أخي، وهذه أختي، وهذا صاحبك، الكلّ هنا، بحق الله لا تتنكّر لنا. يا لَله، مالك يا أبي تمدّ أناملك إلى يد القضاء تريد أن تصافحها؟ بل مالك تبسط رقبتك لمن يدقّ عنقك؟!
هذا مَلَك الموت، أو كما سميتُه يومئذ مَلَكَ الراحة، قد أتى وما أتى! أجاء هذا الشيء يحمل كأس الرحيل، فشربتَه عن طيب خاطر منك، أم جاء يُجَرِّعك إياه كما كنتَ تبلع ماء الدواء عنوة؟! آه لو رأيتُ هذا اللعين التَّعِس، لأوجعتُه، أو لأوجعني، وهو مُوجعني لا محالة، موجعني في كل حال! لقد قطعك مني بسكينِه، وانتزعك قطعةً من روحي، فعدتُ ناقصَ الروح، أف للقدر، أف للقدر!

***

ذهبتُ إليه كعادتي إلى مستشفى التأمين الكئيبة، قبل ذلك اليوم المشؤوم، وفي تلك الليلة سألني أن أنام جانبه، ارتقيتُ سريره الذي يكفيه بالكاد، وارتقى هو قلبي وأحاط به، وذقتُ طعم روحه أحلى ما تكون، وكان ينظر إلي يحتضنني بالعين كأنه يورِّي موتَه ويرنو إلى قاعي، وكأنه قد مضى العَقْد لتوّه، ومضى أن يجود بروحه. ليتَني كنت أعرف معرفتَه تلك الليلة، أو ليتني ما أنكرتُ معرفتي وكذّبت نفسي. يا الله، لِمَ قد تذيق فتى في السادسةَ عشرة من عمره مذاق الفقد؟ لِمَ تمتحن من راهق سنَّ البلوغ لتوِّه، وتحمله على إرادة الموت رجاء أنْ ينقلب إلى أبيه وحبيبه في غير حياة؟ لِمَ تترك ستة أبناء -لا يجدون العول التامَّ- في مهالك هذه الدنيا؟ لمه؟!

***

قل لي بحق الله، كيف أحبس المعنى في حدود اللفظ؟ أو هل أستطيع أن أرمي المعنى العظيم في الألفاظ والأشكال؟! لا أراني أستطيع، ألِضعف في لغتي، أو لأن المعانيَ إن تكاثرتْ وعظمتْ أبتْ أن تُحَدّ، وصَدَّت كاتبها تقول: كل المعاجم لا تليق بها؟ ما لي أتوثّب على المعنى الذي لا يريد أن يكون في لفظ، أم هو اللفظ يرفض أن يكون معنى؟!
أقف خافضا طرفي، خاشعا كمُصَلٍّ، قُدْسا كنبي يتلقّى نورا، راضيا بالقضاء رغم رَعَشَات أركاني، عارفا ما يكون وإن كنتُ في ريبة بقلبي، فذهابه لم يكن من بَغَتَات الزمن، ولا من نوازل الله التي تفجأ، أنظر إليه وقد صار بصره حديدا، قالت أمي: هل تعرفني يا محمد؟ فنظر إليها يريد أن يقول: وأحبك، ولكنّ لسانه محبوس لا يُرسَل. ينظر إلينا بعين كاسفة ينطفئ نورها، يريد أن يقول: آسف يا بني، آسف يا أبنائي، إن لُبْثي في الداء قد طال، وأنا أريد أن أتحرّر، سبحان الله! انتُصِفنا بالموت بين عالمي الشهود والغَيْبة.

***

روحي تتصاعد تصاعُد روحه، إلا أنَّ روحه ما توقفت عن الصعود، أما أنا؛ فارتدّتْ خاسئة إلى الأرض، أتقلقل: يا لَأبي، هل ذهبتَ حقا؟ آه، كفى يا قلمُ، إنني لا أستطيع أن أتجشّم عناء الوصف، أو أن أتحمّل سياط المعنى يجلدني بلفظه، ولكني أقول كلاما موجزا إيجاز نفاذ القدر: غسَّلتُه، وكَفّنتُه، وصلّيتُ عليه، ودَفَنْتُه، وأنا صبي قد اختطَّ شاربُه النَّاعم أمس، ولكن روحي قد شاخت فجأة؛ أمستْ بلِحية بيضاء مُمْتَدَّة! كيف أصف، وقد أتاني من الرموز أعقدها، ومن الرسوم أقبحها؟ عزّ النعت وأبى!
عاد الناس وقد تباكوا، ناح من ناح، وصاح من صاح، وأنا ساكن أصدع بالصمت، حتى لجأتُ إلى فراشي مُكَسّر البنيان، عائدا نصف روح، وشيئا من إنسان، لم أعد آبه -بعد الرزيّة تلك- بألم يتعاورني، فقد تعوّدتْ روحي -التي بين عِطفيّ- ارتياض الألم، فلا ألم يفوق آلام يومئد! واستحالتْ تلك النفس -التي كانت تشتعل حياة- نفسا مُلتاعة، مسترابة، تخشى كل ضروب الحب؛ تخاف الفقد ملء نفسي وملء العالم!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد العاطي طلبة

الصورة: نهى محمود

اترك تعليقا