هيباتيا السَكندريَّة: شهيدةُ الفلسَفةِ وضحيَّةُ التعصُّبِ الدِّينيِّ

هيباتيا السكندرية

وُلدت هيباتيا السَّكندرية الفيلسوفة وعالمة الرياضيات بمدينة الإسكندرية المصرية  عام 370م  على الأرجح. رغم أن الكثير من الباحثين يُرجعون تاريخ ميلادها إلى عام 350م.  وكانت هيباتيا ابنةً لعالم الرياضيات وآخر أساتذة جامعة الإسكندرية، ثيون Theon؛ والذي نقل إليها كل ما في جعبته من علوم. فقد علَّمَها الرياضيات والفَلك والفلسفة الطبيعية؛ التي تُعرَف اليوم  في عَصرِنا الحديث بالعلم – Science.

صورة 1: رايتشل وايز في دور هيباتيا السكندرية – Agora 2009

أما عن والدتها، فلا نعرف الكثير، كما تَنقُصُنا المعلومات حول حياتها. ويُؤَكِّد ذلك  قول الباحث مايكل أ.  ديكن:

«إنّ الروايات الأكثر تفصيلًا ودقة عن حياة هيباتيا، هي تلك التي تحكي عن حادثة قتلها. ونحن نعرف عن موتِها أكثر  بكثير مما نعرف عن أي منحى آخر من مناحي حياتها من خلال المخطوطات.» (ديكن، 49)

قُتِلت هيباتيا على يد الحشود المسيحية التي هاجمتها في شوارع الإسكندرية عام 415 م. ودُوِّنَت أحداث وفاتها في المَخطوطات على أنها مأساة تراجيدية، حتى الكتَّاب المسيحيون المُعادون لها والذين وصفوها بالساحرة، قد أظهروا قدرًا كبيرًا من التعاطف لتلك المأساة. وتُصور تلك الروايات هيباتيا عادة على أنها امرأة سخية وشغوفة بالعلم؛ كما عُرفت بخبرتها في تدريس مواضيع مختلفة في الأفلاطونية الجديدة والرياضيات، إضافة إلى العلوم والفلسفة.

تأسيس الأسكندرية ومراحل تطورها

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية المصرية على آثار ميناء راقودا أو كما يعرف أيضًا بـ «راكوتيس» عام 331 قبل الميلاد. ويُقال أن خطط بناء المدينة وتصميماتها قد وضعها الأسكندر نفسه. ثم أسند بناءها إلى القائد كليومينيس، بينما تفرغ  هو لمواصلة حملاته العسكرية. وقد بنى كليومينيس المدينة الأصلية؛ ولكنّها بلغت أوج تطورها في عصر بطليموس الأول، الذي حكم مصر بعد وفاة الإسكندر في الفترة ما بين 282 إلى 323 قبل الميلاد.

ويُنسب إلى بطليموس الأول تأسيس مكتبة الإسكندرية والمتحف ومعبد سيرابيس (أو السيرابيوم)، وتحولت المدينة في عصره إلى مركزًا ثقافيًا من الطراز الأول.  ويُعَقّب الباحث ليونيل كاسون:

إعلان

«في العصور القديمة، دَرَجَ استخدام كلمة متحف للإشارة  إلى مؤسسة دينية  أو معبد  لتقديس آلهة الإلهامThe Muses، وابتدع بطليموس الأول هذا النوع الرمزي من المعابد لتمجيد آلهة الإلهام،  ليكون بمثابة مكان لصقل الفنون التي ترمز إليها تلك الآلهة. وقد كان بمثابة مركزًا بحثيًا بدائيًا: واعتاد البطالمة تأليف المجلس من الكتّاب والشعراء والعلماء والبُّحاث ذوي المكانة والشهرة، مقابل أجر كبير وإعفاء ضريبي مدى الحياة (لم يكن هناك أعباء كثيرة في المملكة البطلمية، حيث توفر لهم  السكن والطعام مجانًا). ولم يُخشى نفاذ الدعم المادي يوماً؛ حيث أنه قد خُصِّصَ للمؤسسة وقفًا من قبل بطليموس الأول منذ قرار إنشائها.» (33)

واستمرت الإسكندرية في جذب العديد من العقول النابغة في العلوم والرياضيات والفلسفة وغيرها من التخصصات الأخرى.

ويُذكر أنه قد دَرَس بالأسكندرية عالم الرياضيات العظيم أرخميدس، الذي عاش من 212 إلى 287 قبل الميلاد؛ ويُعتقد أنه قام بتدريس العديد من المقررات هناك أيضًا. ويُزعم أن الفيلسوف والجغرافي اراتوستينس (194-276 قبل الميلاد) قد توصل إلى حساب محيط الأرض في فترة إقامته وتدريسه بها. كما قام عالم الرياضيات إقليدس والذي توفي عام 300 قبل الميلاد بالتدريس هناك أيضًا، ومن الجدير بالذكر، أن المهندس العبقري والرياضاتي العظيم هيرون السكندري قد عاش وعمل فيها مابين 10 إلى 70 ميلاديا.

وازدهرت الإسكندرية في ظلّ أول حاكمين من سلالة البطالمة، ولكن سرعان ما بدأت بالإضمحلال حتى تم السيطرة عليها واحتلالها من قبل الرومان عقب معركة أكتيوم في العام الحادي والثلاثون قبل الميلاد. وعندما فرض الامبراطور الروماني قنسطنطين العظيم المسيحية كديانة رسمية للدولة، شعر مسيحيو الإسكندرية – الذين طالما تم اضطهادهم  – بأنه قد واتتهم الفرصة لرد الصاع صاعين لأعدائهم  الوثنيين. وفي عصر هيباتيا، احتد التعصب وقسَّمت الخصومات الدينية المدينة وساعدت على اندلاع الفتن وتفشي أعمال العنف باستمرار.

صورة 2: مشهد يصور هيباتيا تقوم باختبار إحدى الآلات الفلكية- Agora 2009.

هيباتيا ومدينتها

في مدينةٍ نمى فيها التنوع الديني بشكل متسارع  (والتي طالما كانت قبلة للثقافة)، كانت هيباتيا صديقة عزيزة للمحافظ الوثني أوريستيس، وكان يراها كيرلس المسيحي ورئيس أساقفة الأسكندرية، سببًا رئيسيًا  وراء رفض المحافظ أوريستيس لـ  «الإيمان الحقيقي».

وطالما نُظر إليها «كعقبة كبيرة» تُحيل دون دخول الكثيرين في المسيحية، وذلك نظرًا لما تتمتع به من كاريزما وسحر مكنتاها من شرح المفاهيم الرياضية والفلسفية الصعبة  بشكل مميز وجعلها يسيرة ومفهومة لطلابها؛ تلك المفاهيم التي تناقض إلى حدٍ كبير تعاليم الكنيسة الجديدة.

لا شك في أنّ هيباتيا كانت امرأة استثنائية بكل المقاييس، ليس فقط بالنسبة لعصرها بل لكل العصور؛ كمتحدثة عامة  ذات شعبية كبيرة. يستشهد مايكل ديكن بوصف المؤرخة القديمة داماسسيوس لمحاضراتها العامة:

«مرتديةً التريبون [وهو رداء العلماء، ويُعتبر في الأساس مظهرًا خاصًا بالرجال]، كانت تطوف السيدة في أنحاء وسط المدينة، لا تكف عن شرح أفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة للمهتمين من العامة…وكان هناك تجمهر واحتشاد عظيم حول أبواب منزلها، بَلْبَلَةٌ ووجوهٌ غفيرةٌ من الرجال والخيول وأُناس يروحون جيئة وذهابًا أو واقفون ينتظرون هيباتيا الفيلسوفة لتطل وتخطب فيهم أمام منزلها.» (58)

ومن الملاحظ أن ثيون لم يفرض على ابنته الدور التقليدي لبنات جنسها آنذاك، بل رفضه وآثر تربيتها كما لوكان سيربي ابنًا وفقًا لتقاليد المجتمع اليوناني القديم؛ أي بتعليمها مهنته. وقد كتب الباحث ويندي سلاتكين عن هذا يقول:

«اقتصر دور النساء اليونانيات من جميع الطبقات على نفس نوع العمل؛  الذي يتمحور معظمه حول تلبية الاحتياجات المنزلية للأسرة. فقد قامت النساء برعاية الأطفال الصغار، وتمريض المرضى، وإعداد الطعام.» (34)

وعلى العكس من ذلك، فقد عاشت هيباتيا حياة الأكاديمي المحترم في جامعة الإسكندرية؛ وهو منصب كان لا يحق إلا للذكور بشغله من قبلها. ويشير ديكين إلى الشهادات القديمة التي أثبتت تألقها وتفوقها المُتجاوِز حتى لوالدها، الذي طالما حظي باحترام كبير أيضًا. ويذكر أنها لم تتزوج قط وظلت بتولًا (عزباء) مُكرسة نفسها للعلم ونشره.  ويتفق المؤرخون القدامى -حتى المسيحيون منهم والمعادون لها أمثال جون نيكيو- على كونها امرأة ذات قوة فكرية عظيمة. فيعلق ديكين أيضًا قائلًا:

«إن تعدد اهتماماتها كان الأكثر إثارة للإعجاب. ففي تخصص الرياضيات مثلًا،  كتبت وحاضرت في علم الفلك  ( بما في ذلك الجوانب القائمة على الملاحظة بالأسطرلاب)، وحاضرت في الهندسة (حيث كانت متقدمة جدًا في عصرها)، وفي علم الجبر (الذي اتسم بالصعوبة البالغة أيضًا في ذلك الوقت)، وأحرزت تقدمًا مبهرًا في تطوير أساليب الحساب، وكل هذا إضافة إلى  شغفها بالانخراط  في الفلسفة الدينية واجتهادها في تطوير أسلوب كتابة جيد. وكانت كتاباتها – من أفضل ما يمكن قراءته– باعتبارها ثمرة تدريسها للفروع الفنية في الرياضيات. في الواقع، لقد اتبعت برنامجًا بدأه والدها وكان هدفه تكريس الجهد الواعي للحفاظ على الأعمال الرياضية العظيمة في التراث السكندري، وشرحها.» (112)

كان هذا الإرث الثقافي مثيرًا للإعجاب لدرجة أن الإسكندرية نافست أثينا في ذلك الوقت لكونها جوهر التعلم والثقافة. ومنذ عهد بطليموس الأول، تطورت الإسكندرية حتى أصبحت نموذجًا يحتذى به للحياة المدنية المتحضرة بكل جوانبها؛ حتى في مراحل تدهورها، ظلت الإسكندرية أعجوبة مجتمع البحر الأبيض المتوسط. ويصف الكتّاب الأوائل مثل سترابو (63 قبل الميلاد – 21 بعد الميلاد) المدينة بأنها «مذهلة»، كما حظيت الجامعة بإجلال شديد لدرجة استمرار تدفق العلماء إليها من جميع أنحاء العالم على الرغم من الخصومات الدينية والعنف المنتشرَيْن. ويُشاع عن مكتبة الإسكندرية العظيمة احتفاظها في ذلك الوقت  بما يقرب الخمسمائة ألف كتاب على أرفف مبناها الرئيسي؛ وأكثر من ذلك حتى في مبنى مجاور. وكان بإمكان هيباتيا -بصفتها الأكاديمية وكأستاذة بالجامعة- الاطلاع على كافة المصادر بشكل يومي، ويظهر أنها حققت أقصى استفادة من ذلك.

الموت بسبب التعصب الديني

قد يعجبك أيضًا

كانت الإسكندرية لا تزال منارةً للعلم والتعلم في مراحل انتشار المسيحية الأولى، ولكن مع تزايد أتباع الدين واتساع سلطته، أصبح الانقسام متزايدًا بين الفصائل الدينية المختلفة. وليس من المبالغة بأي حال إنْ أيَّدْنَا الادعاء القائل بأن الإسكندرية، باعتبارها مركزًا للثقافة والعلوم قد دمَّرها التعصب الديني. وأن هيباتيا أصبحت –منذ ذلك الوقت- تجسيدًا ورمزًا لهذه المأساة؛ لدرجة اعتبار موتها بمثابةِ نهايةٍ للعالم الكلاسيكي.

ويبدو أن شعبية هيباتيا وصداقتها للمحافظ أوريستيس كثيرًا ما أزعجت كيرلس -رئيس الأساقفة- وسببت إحباطه. ويُناقش المؤرخ المسيحي جون نيكيو الأمر من وجهة نظر كيرلس، فيقول:

«وظهرت في تلك الأيام فيلسوفة وثنية تُدعى هيباتيا، وكانت مُكرسة جلّ وقتها للسحر والموسيقى ومراقبة الأفلاك، وقد خَدعَتْ بحيلها الشيطانية الجميع حتى محافظ المدينة -يقصد أوريستيس – والذي خدعته بشعوذتها حتى وصل به الحدُّ إلى تكريمها. ومن ثم توقف عن زيارة الكنيسة كما اعتاد سابقًا.» (ديكين، 148)

ازدادت حدة التوتر، عندما عاقب أوريستيس رجلًا يُدعى هيراكس -وهو مسيحي متعصب وأحد رجال كيرلس- بتهمة التحريض على العنف. وقد انزلق هيراكس داخل أحد المعابد اليهودية إثر محاولته للتجسس على اليهود لإيجاد ما يُثبت تورطهم في مؤامرة ضد المسيحيين. وما إن لاحظه اليهود، حتى رفعوا شكواهم لأوريستيس الذي بدوره أمر بعقابه. عندما تنامى الأمر إلى علم  كيرلس، حرّض المجتمع المسيحي لمهاجمة اليهود. فقُتل اليهود إثر هذا الهجوم وُطرد النَّاجون من المدينة شرَّ طردة، بينما استولى المسيحيون على ممتلكاتهم وتم تحويل المعابد اليهودية إلى كنائس. وفي ذروة صخبهم الديني الذي سببه «انتصارهم» هذا على اليهود، ذهبت الحشود تقتفي أثر هيباتيا.

وفي عام 415 ميلاديًّا، حيث كانت هيباتيا  في طريقها إلى منزلها عقب إحدى محاضراتها اليومية بالجامعة، تعرضت هيباتيا للهجوم من قِبَل جموع الغوغاء، التي تألفت بشكل كبير من الرُّهبان المسيحين، جُرَّتْ ببشاعة من عربتها إلى الشارع وسُحِلَتْ حتى الكنيسة، ثم جُرِّدَتْ من ملابسها وتم تعريتها وضربها  حتى الموت ثم حُرقت. يَصف الباحث مانجاسار م. مانجاسريان الحادثة كما دونها المؤرخون كالتالي:

«في صباح اليوم التالي، عندما ظهرت هيباتيا في عربتها أمام بيتها، ظهر خمسمائة رجل، مرتدين ملابس وقلانس سوداء، خمسمائة راهب تم تجويعهم في جوف رمال الصحراء المصرية، خمسمائة فارس من فرسان الصليب، تمامًا مثل إعصارٍ أسود، اقتحموا الشارع وانقضوا على عربتها وقاموا بجرِّها من مقعدها وسحبها من شعرها  إلى -كيف لي أن أقول تلك الكلمة؟- إلى الكنيسة.»

يُلمِّح بعض المؤرخون أن الرهبان قد طلبوا من هيباتيا أن تقبّل الصليب فتصبح مسيحية وتنضم لدير الراهبات إن كانت تبتغي الإبقاء على حياتها. على أي حال، فقد أقدم هؤلاء الرهبان،  بقيادة «بيتر القارئ»  مساعد القس كيرلس، على تجريدها من ملابسها بشكلٍ مخزٍ. وهناك، بالقرب من المذبح والصليب، قاموا بسلخ لحمها المرتجف بقشور المحار. وعلى إثر ذلك الفعل الشنيع، اختلط اللون الرخامي لأرضية الكنيسة بدمائها الدافئة، حتى المذبح والصليب قد تم تلطيخهم جراء العنف أثناء تمزيق أوصالها، حيث قدمت أيدي الرهبان، في ذلك الوقت والمكان، مشهدًا تجزع له  النفس وتعجز عن وصفه الألسنة.  ثم اُشعِلَتْ النيران في الجسد المشوَّه والذي شهد على الكراهية والتعصب الذي فاض من نفوسهم.» (66)

في أعقاب قتل هيباتيا، تم نهب جامعة الإسكندرية وإحراقها بأمر من كيرلس، كما أمر بتدمير كل المعابد الوثنية؛ وتلى ذلك نزوح وهجرة جماعية للفنانين والمثقفين من الإسكندرية. وفي وقت لاحق لتلك الأحداث الهمجية، وتقديرًا لجهوده في قمع الوثنية والجهاد من أجل الإيمان الحقيقي، أعلنت الكنيسة كيرلس الأول قديسًا. ومن وقتها، اعتبر مقتل هيباتيا وأحداث التمثيل بها، نقطة تحول وعلامة فاصلة في التاريخ، نقطةً تُميِّزُ العصرَ الكلاسيكي للوثنية من العصر المسيحي.

صورة 3: مشهد موت هيباتيا المأساوي.

يقصُّ الفيلم الروائي Agora 2009  حياة هيباتيا ومأساة موتها. ويصور بدقة الاضطراب الديني في الإسكندرية عام 415 م، والعصر ذاته الذي ارتبط بأحداث من حياة الفيلسوفة (مثل تلك التفاصيل المتعلقة بموتها). وقد أثار الفيلم منذ عرضه جدلًا واسعًا في المجتمع المسيحي، الذي عارض بشدة  تصوير المسيحيين الأوائل كأعداء متعصبين للثقافة ونشر العلم.

ورغم ذلك، فالتاريخ واضح وضوح الشمس، ويقص علينا قصة الإسكندرية وكيف فقدت بريقها كمنارة للثقافة والعلوم، تزامنًا مع انتشار المسيحية وازدياد سلطتها. ومنذ ذلك الحين، أصبح موت هيباتيا السكندرية يجسِّد الحضارة البائدة، التي اندثرت بفعل العنف والتعصب الديني وكل الدمار الذي أورثه.

المصدر
Great Philosophers: Hypatia 
The Martyrdom of Hypatia of Alexandria by M. M. Mangasarian
Deakin, M. A. B. Hypatia of Alexandria. Prometheus Books, 2007
Dzielska, M. Hypatia of Alexandria. Harvard University Press, 1996
Slatkin, W. Women Artists in History. Pearson, 2000
Casson, L. Libraries in the Ancient World. Yale University Press, 2002

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ندى حمدي

ترجمة: ريهام عطية

اترك تعليقا