هل نحن نَكْرَه الديمقراطية؟ / لـ بشير التكلة

في تَتبُّعنا لبداية نشوء مصطلح الديمقراطية نجد أنه من أصولٍ يونانيَّة إغريقيَّة مأخوذ من شقين (ديموس: تعني الشَّعْب) و (كراتوس: السُّلْطة أو الحُكْم)، أي حُكْم الشَّعْب.

حين أسَّس الإغريق ديمقراطيتهم وتفاخروا بها وَصَموا حينها الشُّعُوب غير الإغريقيّّة بالبَرْبَر، حيث قسَّموا العَالَم حينها إلى عَالَمٍ مُتحضِّرٍ ديمقراطيٍّ وهو بلاد اليونان، وعَالَم بربريّ وَحْشيّ هو عَالَم المشرق. وربما هذا ما يُفسِّر زحف الإسكندر المقدونيّ الكبير تلميذ أرسطو نحو الشَّرق لإخضاعه للسيطرة اليونانيَّة.

بالتوازي مع ذلك ومن خلال بحثنا عن جَذْر كلمة politic نجدها مشتقة من كلمة يونانيَّة الأصل polis ومعناها دولة المدينة، بالمقابل نجد أن الترجمة العربيَّة للكلمة بلفظة سياسة مشتقة من الفعل ساس يسوس، بمعنى رعى الغنم وقادها، ومنها سائس الخيل.

فالترجمة العربيَّة المُبكِّرة لهذه الكلمة تبدو كأنها سوف تصوّر بشكلٍ نمطيٍّ فيما بعد للعَلاقة بين التابع والمتبوع، بين السائس وخيله، والراعي وقطيعه، وكأن تلك الترجمة العربيَّة جيء بها خصيصًا كي تُنمِّط هذه العَلاقة المُعقَّدة بين الحَاكِم والمحكوم إلى الأبد على هذه البقعة من العَالَم.

الإسلام كثَوْرةٍ سياسيَّة واجتماعيَّة

بدأ الإسلام كثَوْرة سياسيَّة واجتماعيَّة عَارِمة في مواجهة العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعيَّة التي أصَّلت التبايُن بين البشر، فهناك في دار الأرقم دعا النبي محمد أن يجلس العبد مع سيده يتعلما آيات القرآن التي تدعو إلى العدل والمساواة، ويؤسِّس فيما بعد في المدينة بعد الهجرة لنمط حُكْم ديمقراطيّ رفيع المستوى ونادر بشكلٍ لافت، استمر بعده لعهد خليفته أبو بكر الذي اعتاد قبل توليه مقاليد الحُكْم أن يَحْلِب للضعفاء من جيرانه أغنامهم رفقًا بحالهم، فلما تولَّى السُّلْطة سمع جارةً له تقول: “اليوم لن يَحْلِب لنا أبو بكر”، فأجابها: “لعمري لأحلبنها لكم”، وأخذ يحلبها فعلاً.

إعلان

وتطاول عليه بعضهم في أحد الأيام فقال له من كان معه: “يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه“. فأجابه أبو بكر: “اجْلِس، ليس ذلك لأحدٍ إلا لرسول الله“.

أي إن كان ذلك لأحدٍ فهو للرسول المؤيَّد بالوحي، أما وقد أصبحنا في حُكْمٍ مدنيٍّ يترأسه بشر فليس لي أن أقتل رَجُلاً بمجرَّد تطاوله عليّ.

في خلافة عمر وَقَفَ أحدهم يقول له: “والله لو وجدنا فيك إعوجاجًا لقوَّمناه بحَدّ السَّيْف. فقال عمر: “الحمد لله الذي أوجد في هذه الأُمَّة من يُقوِّم إعوجاج عمر“.

وعمر بهذا القول يُقنِّن العَلاقة بين الحَاكِم والمحكوم، فالشَّعْب يملك صلاحية خَلْع الحَاكِم الفاسد إذا ما أظهر الفساد.

ورغم ما كان في خِلافة عثمان من فِتَن، إلا أنه كرئيس دَوْلة كان هَينًا لَينًا مع الرَّعيَّة، فنراه يطلب من رَجُلٍ أن يَقْتَص منه بعد أن رماه عثمان أرضًا ظانًا به السُّوء.

أما علي ففي طيب تعامله كرئيسٍ للدَّوْلة ما يعجز عنه المقال، لعل أبرزها حِلْمه في مُناظراته الطويلة مع الخوارج، وصبره وحِلْمه وأَنَاته عليهم وعدم قتالهم حتى بادروه هم بسيوفهم، وهذا عبد الله بن عمر يأبى بَيْعَته ويطلب الإذْن بالسَّفر، فلما طُولِبَ بكفيلٍ يَكْفَله قام علي يَكْفله بنفسه.

هذا النموذج الديمقراطي الحضاريّ الذي جاء به النبي وحاول الخُلفاء الرَّاشدون تمكينه في النُّفُوس من بعده، ما لبث أن نسفه النظام الأُمَويّ وأعاد بناء صَرْح الأرستقراطيَّة النُّخْبويَّة من جديد، والتي ما كانت لتعود لولا وجود بيئة حاضنة في نُفُوس الحُكَّام والمحكومين على السَّواء.

فالأمر أعقد بكثيرٍ من قصة طُوبَاويَّة نرويها كي ننام بسعادةٍ وهناء، فتغيير تقاليد وعادات وأعراف مجتمع عمرها مئات بل آلاف السنين هي أصلب من أن يُغيرها شيء، أصلب بكثير من أن يُغيرها قانون أو تعاليم، ولو كان ذلك القانون من رَبّ السَّماء ولو كان دِينًا!

لقد وَضَع الأُمَويون الخَدَم والحِجَاب بين الحَاكِم والمحكوم، واستأثروا بالسُّلْطة لأنفسهم وورَّثوها أبناءهم من بعدهم، وجعلوا بيت مال المسلمين بيت مال الحَاكِم يَمِّن به على من يشاء ويمنعه عمن يشاء، فاقتلعوا طلائع الديمقراطية السياسيَّة والاجتماعيَّة الإسلاميَّة قبل أن تبلغ عامها الأربعين.

دَوْر رِجَال الدِّين

تأصَّلت تلك العَلاقة الشَّرعيَّة بين الحَاكِم المُتسلِّط والمُحكوم الذَّلِيل بواسطة الكثير الكثير من الفَتَاوَى التي جُعِلَت لتُنَاسِب فساد الحُكَّام وتُحيطهم بهالةٍ من القَدَاسة، وتُكَفِّر من يَشُق عصا الطاعة، وباتت هي السمة الغالبة لمعظم الحكومات القائمة في هذه البُلدان العربيَّة المشرقيَّة.

فنجد أن رِجَال الدِّين على مَرّ العُصُور قد استعدوا لنوعين من الفَتَاوَى، منها ما يُناسِب الحَاكِم في زمن قوته وجبروته، فتُحرِّم الخروج على الحاكم وتُوجِب الرضا بظلمه لمواجهة خطر شَقّ عصا الطاعة للمسلمين، ونوع آخر من الفَتَاوَى الجاهزة المُخبَّأة والتي تظهر في حال انتصار الثَّورة على الحَاكِم وخَلعه وتكون في سبيل تمكين القبول بالوضع الجديد الذي يدعو لتوحيد راية الأُمَّة وجمع كلمة المسلمين!!

نظام سياسيّ فاسد أم مجتمع فاسد؟!

مما يُلْفِت الانتباه في هذا المجال أننا كمجتمعٍ بشريٍّ شرقيٍّ، قد تكيفنا مع هذا الواقع المُمتد لعشرات القرون فأضحى سمةً مميَّزة فينا، فنحن شُعُوب لا تُحِبّ الديِّمقراطيَّة.

بعيدًا عن المِثَاليَّة، فالديمقراطية تُسبِّب لنا الأرق في مفهومها العام، بأنها “أسلوب حياة” كما قيل عنها، فمن منا كشرقيين يؤمن بمبدأ المساواة بالحقوق والحُريَّات والواجبات؟

ومن منا يسعى للاكتفاء بحاجاته فقط ويترك الفرصة للآخرين يأخذون ما يحتاجونه أيضًا؟ من منا أقام صَرْح الدِّيمقراطيَّة في نفسه وبيته وفي تعامله مع زوجته وأبنائه وفي عمله ونقاشاته مع الآخرين حوله؟!

للأسف فشلنا في ذلك أيما فشل، وحتى ذلك العربيّ المشرقيّ المُهاجِر الرَّافِض للحالة السياسيَّة المُترديَّة في وطنه الأُمّ، نراه قد أبْدَع في مجالات العلوم والتكنولوجيا والنقل والطاقة والفَنّ والرياضة في مهجره الدِّيمقراطيّ، لكننا بالمقابل نراه ينزع بطبعه إلى بيئته المشرقيَّة الكارهة للدِّيمقراطيَّة في كثيرٍ من تصرفاته الاجتماعيَّة اليومية، وقد يظهر ذلك جليًّا في وسائل التواصُل الاجتماعيّ التي ساعدت على كشف كثير من خبايا وأسرار النُّفُوس من خلال التعليقات والتفاعُلات.

متى سوف نتصالح مع أنفسنا ونقبل بواقعنا الكارِه للديمقراطية المُحِبّ للتسلُّط؟! ومتى سوف نعيد إدارة هذه الجُهُود الجبَّارة التي نحاول عبثًا من خلالها أن نصبغ أنفسنا مُكرَهين بصبغة الديِّمقراطيَّة ونوجِّهها إلى طاقاتٍ خلاقة أكثر فائدة ونضجًا ونفعًا لمجتمعاتنا العربيَّة التي تبحث عن هُويتها؟!

متى سوف نرفض بشجاعةٍ محاولتنا في إجبار أنفسنا لارتداء قميص الديمقراطية الزاهي الذي لا يناسب أجسادنا العربيَّة البدوية ولا يناسب لون بشرتنا السَّمراء، وننطلق بعقلية جديدة مناسبة ومتفهمة ومتحرِّرة من كل قَيْدٍ خارجيٍّ وبوجهٍ يملأه الرضا بأننا شُعُوبٌ “نكره الدِّيمقراطيَّة”؟!

قد يعجبك أيضًا

هل من الممكن في يومٍ من الأيام أن نُصارِح أنفسنا بكُرهنا للديمقراطية؟! أم أننا سوف نبحث عن ديمقراطية تُناسِب طبيعتنا المَشرقيَّة بصياغةٍ جديدةٍ أكثر تفهُّمًا لواقعنا العربيّ الفَظّ المُتجذِّر فينا منذ قرونٍ طويلة!

ربما جواب هذا السؤال سيحتاج منا الكثير من التصالُح والتسامُح مع أنفسنا، والكثير الكثير من الفهم لطبيعة مجتمعاتنا والعمل بِجَدٍ على تهيئة مُنَاخ شَفَّاف حاضن للديمقراطية العربيَّة المنشودة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشير التكلة

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا