هل تنتج الحروب وغياهب السجون فلاسفة ومفكرين؟
عندما تندلع الحروب ويعلو دوي المدافع فوق كل الأصوات والآلام، لا يظن الناس أن بين ثناياها وضحاياها من يجد الوقت للتفكر والتأمل الفلسفي والأمل بإعلاء الضمير والإنسانية فوق المصالح وصراعاتها وأمواج نيرانها العاتية التي لا تبقي ولا تذر.
الآن وفي خضم أكبر المعارك الدائرة رحاها بين روسيا، أكبر دولة في العالم، وجارتها أوكرانيا، لا بد أن ثمة مفكرين تعتمل الأفكار والمبادئ في مخيلاتهم ولا بد أنها ستقدم للبشرية بعد حين ثمرة تجربتها الأليمة، لتغني التجربة الإنسانية لعقود مقبلة، وبالطريقة نفسها التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. والنماذج التي ظهرت بعد تلك الحرب الكونية كثيرة جداً منها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي يعرّفه تلميذه وصديقه اللبناني الدكتور جورج زيناتي بأنه فيلسوف “الإنسان المقتدِر”.
هنا محاولة لسرد تجربة ريكور بعد خروجه سالماً من تلك الحرب، و”التأويلية المفتوحة” لديه، طبقاً استناداً إلى ما يرويه جورج زيناتي الذي أشرف ريكور على أطروحته الرئيسية عن “الحرية” في ستينيات القرن المنصرم في فرنسا.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانيةـ، في العام 1940 سيق ريكور الذي كان حينها مجنداً برتبة ضابط احتياط، إلى سجن نازي في بولونيا. إلا أن الفيلسوف “الأسير” كان أوفر حظاً من أبيه الذي قضى نحبه خلال الحرب العالمية الأولى.
وريكور قبل أن يجند ضابطاً في العام 1939 ويزج في السجن مع فلاسفة آخرين، نال دكتوراه دولة في فرنسا التي لجأ إليها إبان الحرب الأولى، واحتضنته الدولة كما احتضنت سواه من الأيتام. وخلال فترة سجنه التي امتدت 5 سنوات كاملة، تمكن ريكور من ترجمة كتابه الأساسي عن الفينومولوجيا، وهو الكتاب الذي كان أطروحته الثانية للدكتوراه، كما أسس نوعاً من الجامعة داخل السجن.
إلا أن باريس التي احتضنته يتيماً صغيراً وساعدته حتى ارتقى سلالم الفكر والثقافة، لم تبق كما عهدها بل دفعته إلى هجرها كبيراً إلى لوفان ومنها إلى شيكاغو حيث بقي سنوات، لأن “الموضة الباريسية” لم تتقبله بعدما وجه سهام نقده إلى فلاسفة كان فكرهم مهيمناً خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كما لم تمنحه شرف التدريس في كلية “كوليج دو فرونس” (College de France) التي كان التدريس فيها هدفاً يسعى إليه كثيرون لما تشكله من وجاهة منذ تأسيسها في القرن السادس عشر وكان اسمها “كوليج رويال” (College Royale)، وكذلك من مردود مالي يفوق ما يتقاضاه أساتذة السوربون وبساعات تدريس لا تتجاوز الـ50 سنوياً. سعى ريكور إلى هذا المنصب مرتين وفشل، ويقول إن التدريس في تلك الكيلة “كان أحد طموحاتي التي لم أستطع أن أحققها”.
باريس وفلاسفة الريبة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت موجة “الوجودية” طاغية في باريس. لكن بعد ذلك تغير الوضع وأصبحت تحت تأثير ثلاثة فلاسفة يسميهم ريكور بـ “فلاسفة الشبهة أو الريبة” وهم ماركس ونيتشه وفرويد الذين وجه إليهم سهام نقده. وكذلك لم يكن يحب سارتر الذي بدأ الفيمونولوجيا في فرنسا قبله، ومنها، أي الفيمونولوجيا، بدأت تأويلية ريكور.
إلا أن تأويلية ريكور تقوم على نوع من الوصف، ثم إبعاد كل ما هو مادي ليبقى فقط العنصر الذي يمكن أن يختزل. أهم ما في الفلسفة التي بدأها ريكور، سعيه إلى إظهار الفيلسوف بمروره عبر ما يسميه “الطريق الطويل” أي عدم البقاء في داخل نص معين أو إصدار حكم سريع على الأشياء. ومن هنا كانت اعماله ومنها “فلسفة الإرادة” و”شاعرية الإرادة” تحمل هذه المعاني.
وفي أحد مؤلفاته التي لم يصدرها ثم عاد إليها لاحقاً، يقدم مختصراً عن وظيفة الخيال الذي لا يرى فيه “مجرد تصور لشيء غائب ولا هو بمفهوم مبهم بل هو عنصر فعّال على صعيد الفرد والجماعة، أي على الصعيد الاجتماعي والسياسي”، إذ برهن التحليل النفسي الفرويدي على أهمية الحلم وكل خيالية الاندفاع الغريزي. ويقول: “الخيال هو الذي يأتي من اللغة ويجعل المعنى مفهوماً والعالم قابلاً لأن يقال والعمل قابلاً للتنفيذ”. بل يذهب ريكور بعيداً، اذ يؤكد أن “الحوار بين الإيديولوجيا المهيمنة أو السائدة واليوطوبيا (اللامكان، أصلها مفردة توبوس التي تعني المكان باليونانية) يكون. بفضل الخيال”. فهناك من جهة حاكم يريد أن يبرر ديكتاتوريته – مثل هتلر – ومن جهة ثانية هناك اليوطوبيا، وهنا يؤدي الخيال دور اليوطوبيا.
ويقول ريكور: “لا يمكن أحداً أن يسيطر على الزمن إذا بقي في المكان، بل يجب أن يصبح خارج الزمن لكي يسطتيع أن يصدر حكماً”. إذاً خارج المكان أو اللامكان – كما تدل على ذلك اليوطوبيا التي استنطبها الانكليزي توما مور- يستطيع الانسان أن يتخطى المشكلة التي ليس لها حل بحسب ريكور. (الأبورية وفق أرسطو، والاستعصاء بحسب زيناتي). وكذلك الزمن لا نستطيع أن نتحكم به إذا لم يصبح مساحة أو أي شيء يمكن عدّه وقياسه، وهذا ما فعله الانسان إذ سيطر على الزمن عندما اخترع الساعة أي عندما حوله الى الحركة.
فإذاً، هذا اللامكان يجعل عبقرية الشاعر متاحة ويسمح له أن يكون هذا الصانع في داخل اللغة ليولد صوراً منبثقة من داخل اللغة وحدها، وهذا في النهاية أمر مهم جداً.
وكان ريكور يرى أن البشرية ستسير في يوم من الأيام نحو أكثر ما يحبه الناس وهو الشعر والشعراء. أي يصبحون جميعاً يعيشون نوعاً من الشعر ويصبح هذا الشعر مبجلاً. هنا نجد أنفسنا داخل تأويلية ريكور، وهي قارة الإنسان المختبِر، وهنا تلتقي الفيمونولوجيا والتأويلية.
ريكور هو فيلسوف الإنسان القادر، الحالم بعالم جديد، المتصالح مع ذاته، الرافض لكل أشكال الهيمنة والأخطار المسبقة. ويعتبر أن الحب وحده يستطيع أن يجمع البشرية، كل البشرية في إنسانية جديدة بعد أن بدت قدرتها التدميرية قادرة على إفناء المرعب.
فهو يتطلع – في كتابه المهم الثورة – إلى بناء مستقبل أقل عنفاً باستمرار وإيجاد أرض ميعاد تشارك فيها الإنسانية كلها، إنما هذا الأمر يتوقف (تحقيقه) على إنسان مختبر ليس بالنسيان وتخطي الماضي بل بإنسان مقتدر على الغفران والصفح عن الماضي.
ولكن يبدو أن مشروع ريكور هنا يصطدم بالعيدد من الافكار المسبقة والسيطرة والهيمة، خصوصاً أن الغفران الذي يتطلع إليه يقترب من مفهوم السماح وليس التسامح، هذا السماح الذي يصل إلى تخطي الماضي من أجل التصالح مع المستقبل. التقدم التقني قد أزال المسافات كلية وخلّص الانسان في كل الكرة الأرضية من مسألة المسافات لكنه لم يستطع أن يلغي شيئاً من الزمان المثقل بكل أفكار السيطرة والهيمنة. والإنسان أصبح يملك قدرة تدميرة غير مسبوقة، قدرة على تدمير الحياة كل الحياة على الكرة الارضية، فيما هناك ملايين من الناس يقاسون من الجوع والامراض والقوى الكبرى تتحكم بمجريات الامور.
الانسانية كلها نص كبير نقرأه جميعاً، وعلينا جميعاً أن ندرك أمام ما ينتظرنا من دمار، أن طريق الهيمنة مسدود ولا تقود إلا إلى السير نحو الهاوية وبخطى متسارعة. نحن جميعاً في قارب واحد ولا يستطيع أحد أن ينجو بنفسه. لقد زالت المسافات الخارجية ومن أجل إزالة المسافات الداخلية الفردية والمتوارثة، لا بد لنا جميعاً أن نكتشف خشبة الخلاص الوحيدة وهي المقدرة على المحبة لأنها الوحيدة تجعل منا أصدقاء متعاونين لبناء انسانية جديدة تضيئها العدالة ويجليها الجمال لأن أسوأ ما في العنف قبحه. وبحسب ريكور، نحن أمام تاويلية تجعل كل البشرية نص.
مقارعة فلاسفة الارتياب
الأصل في تأويلية ريكور أنها ضد فلاسفة الارتياب او الريبة وأنصار البنيوية. أي أنه قارع خصمين في ذلك الزمن (الستينيات).
عندما وجه ريكور نقده إلى فرويد انتفض في وجهه لاكان وتلامتذه حتى أخرجوه من فرنسا. كان لاكان يقول كان هناك ماركس ثم جاء لينين فأصبحت هناك ماركسية لينية. وهناك فرويد وهناك لاكان، وبعد اليوم ليس هناك سوى الفرويدية اللاكانية.
أما في ما يتعلق بماركس فكان صدامه معه أقوى ومع أركيسور الذي كان يؤول ماركس. وأكد ريكور أن ماركس الأول لم ينته، فيما كان يقول أركيسور إنه يترك المؤلفات الأولى لماركس لأنها ليست علمية.
أما عند نيتشه فوجد إرادة القوة والتغلب على الخوف. إلا أن مشكلة نيتشه أنه كان مريضاً طوال الوقت ورغم ذلك أثر تماماً بالفرنسيين بدرجة هائلة. كان هناك تفسيران لنيتشه: تفسير يساري وهو نقد لكل الايديولوجيا السائدة المهيمنة، وتفسير بيولوجي تبناه النازيون.
يقرر ريكور أن هؤلاء المفكرين الثلاثة قد هشموا بعض الشيء يقينية الكوجيتو الديكارتي. ريكور يدافع باسمترار عن “الأنا أفكر” خصوصاً أن الكوجيتو الديكارتي ساوى بين التفكير والوجود أي وعي هذا الكون، غير أنه لم يستطع تحطيم الفلسفة التفكرية.
ظل ريكور مؤمناً بالفلسفة التفكرية فيما كانت “الموضة البارسية” السائدة حينها تسمى بـ “البنيوية”. البنى هنا تأخذ الشيء بما هو في زمن معين فقط ولا تهتم بتطوره التاريخي، كما أنها عبارة عن مجموعة علاقات، ويقول دريدا: في اللغة ليس هناك فرق بين الاخر. لماذا الشاي شاي لأنه ليس القهوة. ولماذا القهوة قهوة لأنها ليست الحليب. ولماذا الحليب حليب لانه ليس الخبز وهكذا ليس هناك من شيء يجمعها فيما بينها بل هناك عناصر ترتبط بمجموعة من العلاقات فيما بينها.
وكذلك بالنسبة إلى فوكو الذي أدخل في كتابه “الكلمات والأشياء” القبلية التاريخية (الأبستيميه). ويقول إن الابيستميه هي الاساس أي ان هناك شيء يتحكم بالعصر الحديث وهذا الشيء قبل كل شيء أمر متغير لا يبقى كما هو. اذا تغيرت الابستميه أي القبلية التاريخية، يزول الانسان نفسه كما لو كان رملاً وذهب ويقول “الانسان سيندثر مثل وجه من الرمل على حد البحر”.
وفي مواجهة هؤلاء – فلاسفة الشبعة وكذلك الآتون من البنيوية – يعرب ريكور عن صدمته بـ “اللجهة الاسبينوزية لماركس ونيتشه فرويد”. ويقول: هم يحدثوننا عن “الضروروة وقد فُهمت” – ماركس – وعن “حب القدر” – نتيشه – وعن مبدأ الواقعية – فرويد- هذه السبينوزية الكلانية الشمولية الضرورية، غير أن هناك ما هو أفضل (مما يقولونه) وهو نعمة الانبعاث. أي أن الانسان يبقى قادراً في النهاية على الانبعاث.
وما كان يهدف إليه ريكور داماً هو الشاعر إذ كان يعتقد أنه سينهي تفكيره كفيلسوف بما سماه “الشاعرية”، شاعرية الارادة.
وذكر ريكور في “الذات عينها كآخر” أن الانسان يتمتع بقدرات عدة منها القدرة على القول أي التواصل مع الآخر وفهمه، والقدرة على سرد القصص ورواية الوقائع عن الآخرين والقدرة على السرد الذاتي.
هنا توصل ريكور الى نوع من السردية للانسان يجد فيها هويته، الهوية السردية. فكل واحد منا عنده ذاته باقية وشيء متغير، ولكن يبقى دائماَ شيء لذاته هو عينه ويستطيع كل منا إذا أراد أن يسيطر على هذا وأن يجعل حياته كأنها رواية، لها بداية ولها أحداث ولها نهاية. فالسرد هو الذي يعطي لأي واحد منا هوية خاصة به حينما يستطيع أن يسرد حياته ويجعلها كما لو أنها رواية.
وهناك أيضاً مقدرة تكشفها الفلسفة التفكرية وتسمى “التبعية” أي اقراري بأنني اتحمل النتائج الأخلاقية التي تنجم عن عمل اعترف بأني اتحمل أخلاقياً مسؤوليته، وأقبل مبدأ التعويض عن فعلتي أو العقاب بسبب ما اقترفت. هذا القول يقودنا مباشرة إلى الأخلاق إذ لا يمكن لنا أن نتحمل أعباء فعلنا من دون العودة إلى مفهوم معين للأخلاق. ويختصره ريكور على أنه استهداف للحياة الخيرية مع الآخر ومن أجله في مؤسسات عبارة. فهو دائماً يتحدث عن الحياة ويشدد عليها ويصفها بالخيرية. إلا أن ريكور يتطرق إلى أمر مهم جداً وهو أننا لا يمكننا أن في الحياة أمراً قاطعاً يجب أن نفعله، بل دائماً يجب أن نأخذ الظرف في الاعتبار، وبالتالي ليس هناك خير مطلق يدلنا. فالدخول إلى الحياة عن طريق الأخلاق الجيدة يقينا من اللجوء إلى الهوية الذاتية، إذ يكفينا أن يدرك الفاعل لعمله بأنه خير. والحركة التفكرية هي الأساس والفرد يقدر ذاته، غير أن هذا يتطلب منه تقدير ذاته ولا بد هنا من بنية حوارية مع هذا الآخر تقوم أساساً على احترامه ورعايته. فإذا أنا مجبور باحترام الآخر لأنه مثلي وقيمته الحقيقية هي من قيمتي. دائماً يجب أن احترم نفسي وأن اقدر الآخر. الاحترام والتقدير يسيران معاً. وهذا يتطلب إذا كان هناك حوار مباشر، أن تكون هناك صداقة. وإذا لم يكن هناك حوار مباشر فلا بد أن تكون هناك مؤسسات عادلة هي ثمرة تاريخ طويل قائم على تراكمية، وهذه تقوم على الانجازات التي تخدم مقاييس الامتياز وتسمح لنا أن نطلق صفة جيد على منجزها.
مثل هذه الأعمال البارعة والخارقة في الحياة العملية تقينا من كل تأويل. أي أن ريكور يشدد على أن كل أخلاق هي أخلاق تقوم بها مع الآخر القريب أو مع الآخر الذي لا نعرفه. الآخر القريب يكون معه صداقة وعطف، أما مع الآخر البعيد فتكون هناك المؤسسات العادلة، وبالتالي يكون هناك طابع تعاوني. الحياة الخيرة هي مجموعة كبيرة من الأخلاق التي يتحقق بعضها ولا يتحقق بعضها الآخر. غير أن “الآخر” قد يكون غير “الأنت”، ومن هنا كانت ضرورة التعيين. فلكل واحد حقه، وبالتالي لابد من مؤسسات تحفظ هذا الحق.
كل هذه المقدرات جزء لا يتجزأ من التأويلية عند ريكور، ومن دونها ليس هناك من ذات فعالة. فإذا هذه المؤسسات تقوم على مبدأ الحصص العادلة.
وكذلك فإن تأويلية ريكور تتحدث عن الموت كما تحدثت عن الحياة. إلا أن حديث ريكور عن الموت ينطلق من نقده لهايدغر الذي يقول أن الإنسان كان ناضجاً بالموت منذ ولد. ويقول ريكور يخطئ تماماً هايدغر في هذا، لأن المهم هو الحياة والولادة.
ويؤكد ريكور أن كل فلسفته هي الحياة وعيشها حتى اللحظة الأخيرة وكان يقول أنه سيظل متمسكاً بهذه الحياة حتى اللحظة الأخيرة.