نيتشه وتهمة العدمية، حكم بعدم سماع الدعوى!
يعتبر العديد أن الفيلسوف الألماني فريديرك نيتشه من بين أهم ثلاثة فلاسفة مؤثرين في عصره، ورغم أن نيتشه قد ذاع صيته بعد وفاته إلا أنه يعتبر من ” أخطر الفلاسفة ” في عصره وفي تاريخ الفلسفة عمومًا، ويستند هؤلاء الذين يصفون نيتشه بالخطير إلى أفكاره التي يرونها ” سامة ” هدَّامة وعنصريّة. وهذا التأويل للطرح النيتشوي جعلهم يضعونه في خانة رواد الفلسفة العدمية، هذه الفلسفة التي تهدم جميع المعايير الأخلاقية والاجتماعية والدينية وتتبنى مبدأ واحد يقول أن الحياة لا معنى ولا قيمة لها، فلسفة يمكن وصفها بالتشاؤمية ولا ترى سوى السواد والظلامية في العالم، تعتبر أن الإنسان لا قيمة له في الكون، وأن كل محاولة لإضفاء المعنى لحياة البشر هي من قبيل الوهم.
وقد يخطئ الكثير في الخلط بين ثلاثة مفاهيم أساسية:
العدمية كما عرفناها ومفهوم الوجودية.
الوجودية التي تعتبر مدرسة فلسفية كاملة تنطلق من الإنسان كموضوع لها، وتعتبر أن الوجود سابق للماهية وأن الوجود الإنساني هو ما يحدد ماهية الإنسان، فكرة قد تعود بنا للطرح الماركسي ” المادية هي التي تحدد الوعي “. ويعتبر سورين كيركجارد أول فيلسوف وجودي رغم أنه لم يتبنى مصطلح الوجودية, وقد يحتاج مسألة شرح الفلسفة الوجودية إلى مقالات طويلة لذا نؤكد أن كفلسفة تؤكد على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ” يقلق ” حول وجوده ومعنى وجوده في هذا العالم, لذا إن العدمية والوجودية مدرستان منفصلتان.
والعجيب أن فريديرك نيتشه يعتبر فيلسوفًا مهما في كلتا المدرستين كأنه عدمي ووجودي في الآن نفسه, لكن كثيرًا ما نرى اتهامات موجهة لهذا الفيلسوف على أنه الرائد الأول للعدمية بالاستناد إلى أفكاره التي يرونها ” عدمية ” والأثر الذي خلفه أب التشاؤمية آرثر شوبنهاور في نيتشه, لا يختلف اثنان على أن طرح شوبنهاور هو طرح تشاؤمي وبامتياز يرى كل ما في الوجود شر محض, ولا يمكن أيضا إنكار أن نيتشه قد درس شوبنهاور خاصة مؤلفه الشهير ” العالم إرادة وتمثلًا ” وتأثر به باعترافات نيتشه نفسه, لكن هذا لا يعني بتاتًا أن ” فيلسوف المطرقة ” تبنى نفس ذلك الطرح و روج له في كتاباته.
الطرح النيتشوي
يحمل الطرح النيتشوي بوادر من الأفكار التي قد تبدو ظاهريًا أفكارًا عدمية, وخاصة في فلسفة الأخلاق لدى نيتشه, منذ التاريخ تجرئ العديد من الفلاسفة على نقد المفاهيم الأخلاقية, على نقد معاييرها وتقديم مفاهيم ومعايير جديدة لها, ولكن لم يتجرأ أحد على هدم الأخلاق السائدة وضربها صوب الحائط واعتبارها من الأوهام والأكاذيب كما فعل نيتشه, فقد حمل هذا الفيلسوف مطرقته الثقيلة وألقى بها على كل مفهوم أخلاقي سائد, على كل فلسفة مثالية سابقة, على كل دين وأعلن ” موت الإله “مما جعل البعض يصفه أشبه بالقنبلة الموقوتة في عصره.
ماذا ترك لنا نيتشه كمعنى للعالم ؟ هكذا يتسائل أعداءه, أليس هذا طرحًا عدميًا من الدرجة الأولى؟ في الحقيقة يمكن الرد بالنفي.
بالعودة إلى فلسفة الأخلاق يعتبر نيتشه أن كل مفاهيم للخير والحب والسلام والرحمة والتضامن وغيرها من المفاهيم التي توصف ب”الخيرة أو الجيدة ” ما هي إلا ” أخلاق العبيد” , مفاهيم يخفي وراءها الضعفاء عجزهم وضعفهم, يحتاجون لهذه المفاهيم وإلى الإله ليبرروا لنا هذا الضعف, وأن هذا الصنف من الأخلاق هو المتسبب الأول في انتشار العدمية, ومن ناحية أخرى يعتبر نيتشه أن ” أخلاق السادة ” هي ما ترفع من قيمة وشأن الإنسان, حيث التمتع بأخلاق السادة يجعل الإنسان بلا حاجة للإله وأخلاق العبيد, وأن التمتع بأخلاق السادة هي وسيلة الإنسان للارتقاء وبلوغ مرحلة الإنسان الأرقى.
براءة نيتشه من تهمة العدمية
وهذه المرحلة المفصلية في الفكر النيتشوي , ” فلسفة الإنسان الأرقى أو السوبرمان ” هي دليل براءة نيتشه من أي إتهام له بالعدمية, تقوم هذه الفلسفة على الإيمان بأن الإنسان يعيش في حالة تطور عبر التاريخ حتى بلوغ مرحلة الإنسان الأرقى, ولعل فكرة التطور هذه اقتبسها نيتشه من ” أصل الأنواع ” لتشارلز داروين مؤسس نظرية التطور البيولوجي , حيث من المعلوم دراسة نيتشه لهذه النظرية, إذا يعتبر هذا الأخير أن الإنسان في وضعه الحالة كائن يوصف بالضعف نتيجة لتمسكه بأخلاق العبيد, وأن عليه الارتقاء والتطور عندما يعتنق أخلاق السادة التي ستعلي من شأنه ومن شأن الحياة وتمنع تغلل أي من الأوهام والأكاذيب داخل الإنسان, إذا بالنسبة لنيشته السوبرمان هو مشروع لا بد أن يتبناه الإنسان للسير نحو الأفضل.
فالسؤال هنا، كيف لفيلسوف عدمي أن يؤسس مشروعًا فلسفيًا مثل هذا يتناقض مع كل ما يمكن اعتباره عدميًا؟
فإذا أردنا أن نعتبر نيتشه عدميًا عندما يحدثنا عن أخلاق العبيد فمن واجبنا كذلك أن ننتبه إلى سعيه لتجاوز هذه العدمية من خلال تكريسه لأخلاق السادة ومشروع الإنسان الأرقى, فحتى لو اعتبرنا استحالة تحقق المشروع النيتشوي لأسباب عديدة فهذا لا يعني بتاتًا إنكاره كدليل على تنزيه فيلسوف المطرقة من الطرح العدمي.
ختام
قد لا تتفق مع الطرح النيتشوي في مجمله، وقد ترفض أفكاره التي قد تعتبرها سامة وخطيرة، قد تتهمه بالتنظير لأفكار عنصرية، عنيفة وعنصرية كالفكر النازي, لكن لا يمكن وصف نيتشه بالعدمي! وهذا الوصف لا يستقيم مع ما يقدمه نيتشه من مشروع فلسفي يمثل محاولة للارتقاء بالإنسان نحو الأفضل حسب وجهة فيلسوف المطرقة.