المخلص القادم السماء

الإنسان منذ تفجر وعيه المتطور مع بداية الحضارة، أُغرم بوضع تفسيرات بسيطة لكل الظواهر، مثلًا  كيف تحدث الصواعق؟ ماذا بعد الموت؟ ماهية الشر والخير؟
ولأنّ الوجود يسبق ماهية الأشياء بالضرورة، كانت فكرة وجود الخلاص حتمية، ضد الأزمات التي تمر بها المجموعات البشرية.
خلاص من أعداء طبيعيين يتربصون بموارد الجماعة مع كل لحظة، أو خلاص من وضع قائم فقرًا أو جفافًا أو ضد الأوبئة، فكانت الإحالة دائمًا في اتجاه نبؤات أسطورية تتلى في قصص شعبية يصبرون بها أنفسهم على الواقع الطاحن.
ورغم تطور المجتمعات عند ظهور الحداثة، لكن ظلت الفكرة البدائية تحت القشرة المتحضرة الطارئة.
في الثلث الأول من القرن العشرين، مرت المجتمعات البشرية بأزمة اقتصادية طاحنة عقب الحرب العالمية الأولى سميت بالكساد الأعظم، كانت صدمة استمرت أعوام، امتصت نخاع العالم الاقتصادي وكان لها أثر خطير على التركيبات الاجتماعية في العالم.

رغم كل هذا وطبول الحرب العظمى الثانية على الأبواب، تفتق ذهن الإنسان عن مخلص جديد، يأتي من السماء، يزرع الأرض عدلًا وينتصر للمطحونين.
في عام 1938، عكفا اثنان من الرسامين في وضع تصور للسوبر مان، أو الرجل الخارق.
مخترعا شخصية سوبرمان هما جيري سيغل (Jerry Siegel) وجو شاستر (Joe Shuster) أثناء عملهما لدى شركة ناشيونال كومكس (National Comics) والتي أصبحت اليوم تحمل اسم دي سي كومكس (DC Comics).
وبالطبع انتشرت القصة كالنار في الهشيم وأصبح السوبرمان هو مسيح القرن العشرين بلا منازع، بين العوام حتى تكونت مع مرور السنوات حول إسطورته، أفلام ومسلسلات وملابس وشعارات، غرام جماعي به يشبه تدشين ديانة جديدة.

وُلد سوبرمان في كوكب كريبتون. وهو حمل اسم كال-إل (Kal-El). وجاءت ولادته قبل عامين (أو ثلاثة) من انفجار كوكبه كريبتون وفنائه. قام والده العالم جور-إل (Jor-El) بوضعه في صاروخ وجهه إلى كوكب الأرض أطلقه قبل دمار كوكب كريبتون بثوانٍ قليلة. كان والد سوبرمان قد تنبأ بأن كوكب كريبتون على وشك الانفجار، على أن أحدًا من مواطنيه لم يصدقه، ولذا عمد جور إلى إنقاذ ابنه وزوجته لارا -والدة سوبرمان- لكنها رفضت أن تترك زوجها وآثرت البقاء معه (وقد  أملت أنها بذلك تزيد من فرص نجاة ابنها على متن سفينته الفضائية). سبب اختيار كوكب الأرض هو ضعف جاذبيتها الأرضية (مقارنةً بتلك على كوكب كريبتون) وبسبب الشمس الصفراء التي تضيء نهار الأرض.

انتهى الحال بسوبرمان الصغير بالهبوط على كوكب الأرض. وتحديدًا في مدينة سمولفيل، حيث عثر عليه وتبناه جوناثان كنت وزوجته مارثا كنت. وبينما سوبرمان الصغير ينمو ويكبر. بدأ الصبي يكتشف أن لديه قدرات خارقة تفوق مثيلاتها لدى البشر. أثناء عدم انشغاله بمحاربة الأشرار. عاش سوبرمان حياته كصحفي يعمل في جريدة ديلي بلانت. استخدمها كغطاء له يعينه على حياته المزدوجة (الأنا الأخرى)، وهو حمل اسم كلارك كنت ويعيش في المدينة الأمريكية “متروبوليس”.

بمن يذكركم سوبرمان؟
هل هو قنطرة بين عالم الإله (لوجوس) بالتعبير الأفلاطوني؟
هل ناسوته ولاهوته واحد بالتعبير الأرثوذكسي؟
هل هو مهدي منتظر منفذ لقدرة الإله بالتعبير الإسلامي؟
هل هو مسايا؟

إعلان

من هو المخلص القادم من السماء؟

المخلص ابن بيئته، وما هو إلا أحلام يقظة لواقع منبطح ومحبط في الأساس، فما هي حاجة الإنسان لفكرة المخلص؟
هنا اذهب إلى جذور المخلص الخارق القادم من السماء، الرسامان كأي فنان ينهل من ثقافته وخلفيته الميثولوجية الدينية، وكان الأصل هو الكتاب المقدس وخصوصًا العهد القديم أو التناخ كما يسمونه العبرانين.
تبدأ قصة سوبرمان بكوكب على وشك الانفجار والأم تقرر أن تضعه في مركبة فضائية على شكل مهد وتلقي به في نهر الكون، وهي مؤمنة أنه سيصل عبر التكنولوجيا إلى الكوكب الذي تحدد له الوصول إليه، كأنها إرادة إلهية لكن في تفسير قصص الفضاء وغزو العوالم، بما يذكركم هذا؟

نعود إلى أصل الحكاية، الجذر الأول، موسى نبي اليهود ومخلصهم الأول في الميثولوجيا العبرانية، أتت القصة في سفر الخروج التوراتي، هو أحد الأسفار المقدسة لدى الديانة اليهودية والمسيحية، يصنف هذا السفر كثاني أسفار العهد القديم التناخ، ولا يوجد خلاف حوله بين مختلف الطوائف المسيحية أو اليهودية حول قيمته المقدسة. يتحدّث هذا السفر عن كيفيَّة نجاة بني إسرائيل من استبداد وظلم وبطش فرعون مصر واستعباده إياهم، وذلك بقدرة وإرادة الله الذي خصّهم بالرسالة، وأرسل إليهم نبيه موسى ليعظهم ويُعلمهم، فقادهم في رحلةٍ طويلة عبر البراري حتى وصلوا جبل الطور في سيناء، حيث وعدهم الله أرض كنعان (أرض الميعاد)، وأخذ ميثاقهم، ثمَّ أنزل الشريعة على موسى، ليُعلمهم الدين.

ينسب سفر الخروج في التقاليد اليهودية والمسيحية إلى موسى، ويدعى إلى جانب أول أربعة أسفار في العهد القديم باسم أسفار موسى الخمسة أو التوراة أو الشريعة، حيث أن كلمة توراة في العبريّة تفسر بمعنى الشريعة، النسبة إلى موسى تفهم لدى علماء النقد الأعلى حديثًا بشكل مغاير عن المعنى التقليدي بكون موسى شخصيًا من كتب السفر، يرى بعض الباحثين المُعاصرين أنَّ سفر الخُروج كُتب من تقاليد شفهية خلال عهد السبي إلى بابل أي في القرن السادس قبل الميلاد، وأنَّ صيغته النهائية وضعت في العهد الفارسي اللاحق للسبي أي في القرن الخامس قبل الميلاد. تقول الباحثة كارول مايرز في تعليقٍ لها على السفر أنَّه أكثر أسفار الكتاب المُقدس أهميَّة، فهو على حدّ تعبيرها: يُمثّلُ  التفاصيل التوضيحيَّة للهويَّة اليهوديَّة، فيعكس ذكريات ماضٍ  مليء بالشقاء والهروب، وميثاق أخذه الله على بني إسرائيل وفضَّلهم بعده على العالمين، وتعاليمه التي بعث بها موسى ليُعلّمهم أسس بناء مُجتمع جديد وكيفيَّة الحفاظ على ديمومته.

بدءًا من الفصل الثاني يذكر السفر قصة موسى، فهو من سبط لاوي، أخفاه أهله ثلاث أشهر ثم اضطروا أن يضعوه في النهر، حتى وجدته ابنة الفرعون فربته وأسمته موسى لأنها انتشلته من الماء، ورغم تربيته المصرية ظل موسى مخلصًا لشعبه الأصلي. اضطر موسى للهرب إلى مديان حيث تزوج ابنة كاهن القرية، وبعد سبع سنوات، ظهر له ملاك الرب في وسط عليقة تشتعل فيها النار ولا تحترق، ثم ظهر الله له في العليقة فغطى موسى وجهه مخافة أن ينظر إلى الله، ويذكر هنا مصطلحين سيكون لهما عميق التأثير في الديانة اليهودية وهما يهوه، والتي تعني “أنا هو”،ومصطلح إله الآباء: إله إبراهيم وإسحق ويعقوب.

بحسب السفر، فقد عيّن  الله موسى لكي ينقذ شعب إسرائيل من العبودية، وقد فعل موسى كما طلب الله منه، وبحسب السفر أيضًا فقد جعل الله عصا موسى تتحول إلى أفعى، كلما ألقاها موسى على الأرض، لكي تكون دليلًا  لبني إسرائيل على حقيقة دعوة موسى. وعين هارون أخاه لمساعدته، وبالفعل التقى موسى وهارون بفرعون، لكنه رفض إطلاق سراح الشعب، بل شدد من قسوته عليهم، وعندما التقى موسى وهارون مرة جديدة بفرعون، اجترح موسى عجيبة العصا التي تحولت إلى أفعى. لكن فرعون رفض إطلاق سراح بني إسرائيل من مصر فأخذت المصائب تتتالى عليه وعلى شعبه: فتحولت مياه الأنهار إلى دماء، ثم غزا الذباب والضفادع جميع أماكن مصر، تلى ذلك غزو الجراد لمحاصيل مصر وإتلافها، وكذلك البرد، وأخيرًا ماتت جميع بكور المواشي والأبناء في مصر. وهنا يذكر السفر أن الرب قد ميّز بين مواشي وأبناء بني يعقوب ومواشي وأبناء المصريين، وعندها فقط وافق فرعون على إطلاق سراح بني يعقوب من مصر.

طبقًا لهذا السرد يتضح التشابه بين شخصية سوبر مان وموسى النبي بداية النشأة والتربية، بعيدًا عن الأهل الأصليين كيف كانت لكل منهما أنا أخرى يستتر خلفها الهدف الأسمى وهو إنقاذ المظلومين والقضاء على الفساد في الأرض.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عمرو جنيد

تدقيق لغوي: مريم زهرا

اترك تعليقا