نظرية داروين.. بإنصاف – من رحلة البيغل إلى رحلة اليقين
مراجعة لسلسلة "رحلة اليقين" للدكتور إياد قنيبي - 1
إذا كنت من المهتمين بالمواضيع العلمية في مجتمعنا العربي على الإنترنت -وبالأخص التطور-، فأغلب الظن أنك قد مررت على حلقات رحلة اليقين الخاصة بالدكتور إياد قنيبي، والتي يقول متابعوه أنه قد نسف التطور فيها نسفًا وأثبت كذب التطوريين وكشف خداع المجتمع العلمي بأكمله. وسواءً إن كنت من المؤيدين لما يقدمه إياد قنيبي أو من رافضيه أو لم تتابع حلقاته، فدعنا في هذا المقال وما يليه نستعرض وننقد حلقات الدكتور إياد قنيبي التي يزعم ناشروها أنه قد أثبت خطأ التطور بها.
من هو الدكتور إياد قنيبي؟
الدكتور إياد قنيبي هو شيخ وداعية إسلامي ودكتور جامعي. حاز على بكالريوس الصيدلة من جامعة العلوم والتكنولوجيا في الأردن بتقدير ممتاز وحصل على منحة كاملة من جامعة هيوستن الأمريكية؛ وحصل على درجة الدكتوراة في علم الأدوية Pharmacology عام 2003. له 24 بحثًا علميًا منشورًا بالمشاركة في عدة مجلات علمية، كما أن له براءتا اختراع في مجال اكتشاف خاصية زيادة التئام الجروح.
بدا لي أن الدكتور إياد متخصص ومتمكن من مجاله فعلًا، لكنني آثرت أن أتريث حتى أرى ما يقول.
توقعت عندما قرأت بداية الأمر عن إنجازات الدكتور إياد –والتي بلا أشك أثني عليها وعلى علمه- أنّ نقده للتطور سيكون مبنيًا على أبحاثه، من حيث أنه اكتشف عدم فاعلية إحدى آليات التطور مثلًا، ولكن بعدما تابعت بضع حلقات من سلسلته وجدت أنه يعتمد على مبادرة الباحثون المسلمون ومنشوراتهم. لم أرَ أي إشارة لأبحاث الدكتور إياد شخصيًا، فساورني الشكُّ حتى دخلت على صفحة الدكتور على Google Scholar لأرى أبحاثه، ففوجئت أنّ أيًا منها لا يذكر كلمة Evolution -ولو من باب الدحض أو الاستنكار حتى- ولو مرة وحيدة يتيمة! على ماذا إذن بنى الدكتور إياد قنيبي حلقاته لنقد التطور وكشف كذبه؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي الإجابة عنه قبل الإحالة إلى أبحاث وإنجازات الدكتور إياد، فإن كان الاعتبار بالتخصص فتقريبًا كل المتخصصين في العالم أجمع يقرّون بصحة التطور.
ما هي منهجية إياد قنيبي في “رحلة اليقين”؟
تدور رحلة اليقين أساسًا على تثبيت الإيمان بمنهجية علمية. ولكن القنيبي تطرّق فيما بعد لمناقشةِ نظرية التطور وإثباتِ أنَّها “علم زائف” على حد تعبيره وأنها ليست سوى خرافة، واصفًا حلقاته بأنها لضبط البوصلة، ثمّ اتجه فيما بعد لعرض رؤيته الشخصية للعلم وكيف ينبغي أن يكون “منهجًا مقرًا بالخالقية” (في محاولة كما يبدو لوضع فلسفة جديدة للعلم الحديث). يجب التنويه هنا أنّ هذه المقالات لن تتعرض لأي من آراء القنيبي الدينية أو السياسية ولسنا في موضع مهاجمته والنيل منه بل له منا الاحترام كدكتور جامعي، لكن هذا المقال بصدد نقد منهجيته في التعامل مع نظرية التطور لا أكثر من باب الإنصاف.
أغلب الظن أن للدكتور إياد قنيبي مشروع ما لعلمٍ إسلامي ضمن رحلة اليقين، فهذا معناه –في الغالب أيضًا- أنه لن يقبل بالاحتكام للعلم الغربي ومؤسساته ومنهجه التجريبي (الذي، حسب التطوريين، قد أثبت صحة التطور حتى كاد يرتقي به إلى مستوى الحقيقة العلمية). فأبرز انتقاد يوجه لمعارضي ومنكري التطور هو أنهم يتوجهون بأبحاثهم وخطاباتهم إلى العامة بدل أن يقدموها للمختصين والهيئات والمؤتمرات العلمية؛ ويكون الرد غالبًا بأن هناك إرهابًا ضد من يعارض التطور وأنه لن يسمح بمناقشته. وفي حالة الدكتور إياد فأغلب الظن كما أسلفنا أنه يرفض أُسُسَ هذا العلم (المخطوف، كما وصفه في إحدى حلقاته الأخيرة) فلن تكون هذه أرضية مشتركة تسمح لنا بالنقاش حولها. إلا أن هذه النقطة تستدعي تساؤلًا هامًا: ما دام الدكتور إياد عالمًا مخضرمًا بالشكل الذي يقدمه متابعوه، ألا يمكنه حتى إقامة مؤتمر في جامعته ليعرض أدلته ضد التطور على متخصصين مسلمين مثلًا بعيدًا عن الإرهاب الفكري، أو محاولة تقديم حلقاته هذه إلى أي مؤتمر بصفته باحثًا، كي نرى ماذا يحدث حينها؟! مجرد مناقشة هذه الأدلة من متخصصين تُغني عن جدالات مواقع التواصل!
لكن دعنا أولًا قبل الدخول في هذا النقاش الذي لا طائل منه أن نبرز بعض أوجه المغالطات المنهجية التي قام بها للأسف إياد قنيبي في “رحلة اليقين” حسب منهجيته هو شخصيًا ونستعرض بعض الأمثلة لها، وسأحاول قدر الإمكان ألا أُغرقَ في التفاصيل العلمية كي يكون العرض سهلًا:
-
النظرة الأحادية الاختزالية
مهّد القنيبي في بدء عرضه ونقده لنظرية التطور بحلقة بعنوان “نظرية داروين بإنصاف” وحاول فيها عرض نظرية داروين التي وضعها عام 1858 في كتابه أصل الأنواع. انتقد البعضُ القنيبي قائلين أن نقد التطور لا يكون بنقد ما قاله داروين قبل 150 عامًا بل بنقد النظرية الحالية. إلا أن هذا العرض كان من باب “ما بُني على باطل فهو باطل” كما قال القنيبي بنفسه في نهاية الحلقة.
ولكن هذه الحلقة (والمفترض أنها تعرض نظرية التطور بإنصاف) كان بها من الأخطاء ما صدمني بصراحة، فبعيدًا عن أن الدكتور إياد لم يتطرق البتة لتاريخ التطور قبل داروين ولا للتصور الشائع عن الحياة حينها (فالتصور القائم والشائع وقتها كان أن الكائنات الحيّة “مصممة” ولا تتغير بمرور الزمن، وقبل داروين بعدة عقود افترض بعض العلماء تغير الكائنات بمرور الزمن إلا أن أحدًا لم يقدم آلية مُرضية لحدوث هذا التغيير). فالغريب أن الدكتور إياد قنيبي لم يذكر أي مصدر تطوريّ لما قال أنها أعمدة التطور الرئيسية، والأغرب أن طوال الحلقة والحلقتين التاليتين -المخصصة لعرض النظرية وتغيراتها- لم يذكر الدكتور إياد مبادئ التطور التي وضعها داروين بالفعل؛ وهي التكاثر، التنوّع، والانتقاء (Variation, Heredity, Selection) كما تذكرها عدة مصادر كموقع جامعة بيركلي وكتاب كامبل الجامعي للأحياء[1] على سبيل المثال. بل إن القنيبي لم يذكر نهائيًا أهم ملاحظة لداروين وهي أن أفراد أي جماعة من الكائنات الحية يتمايزون في صفاتهم الموروثة، ولم يذكر نهائيًا أيضًا عبارة داروين الشهيرة التي وصف بها نظريته: descent with modification، أو الانحدار مع التعديل، وهي بالضبط ما قصده داروين من كل ملاحظاته.
عوضًا عن هذه المبادئ أقام الدكتور قنيبي نظرية التطور –في نظره طبعًا- على أُسس أخرى تمامًا، مثل نشوء الكائنات الحية من الجمادات (وهو مبحث آخر لا علاقة لنظرية التطور به يشمل نظريات كالـabiogenesis والتوالد الذاتي)، وقام بهذا بناءً على رسالة أرسلها داروين إلى أحد معارفه. ولا أدري كيف حدث هذا القفز الاستنتاجي من أن ما ذكره داروين في رسالة (وبصيغة يُقال أيضًا، فداروين غيّر رأيه عدة مرات بخصوص نشأة الحياة) إجابةً على سؤال أحدهم هو من أسس نظريته، مع أن داروين -وباعتراف القنيبي نفسه- لم يتطرق لمفهوم التوالد الذاتي في كتاب أصل الأنواع أو غيره، ومع أن النظرية اليوم لا تهتم بنشأة الحياة أصلًا!
كما ذكر الدكتور من مبادئ التطور في نظره أن “الطبيعة تكسب الكائن صفاتًا جديدة تحوّله من نوعٍ لآخر”، وذكر أن داروين قد اتفق بهذا مع افتراض لامارك أن الإستعمال والإهمال هما ما يعززان أو يضعفان صفات الكائن. وداروين قد اتفق بالفعل مع لامارك أن الطبيعة قد تؤثر على الصفات وأن الصفات المعدلة قد تورّث، لكن داروين ذكر هذا في نظرية الـPangenesis التي قدمها لمحاولة تفسير كيف يحدث التنوع في الصفات بين أفراد الجماعة، بعد الاعتراض أن نظريته للتطور لا تفسر كيف يتم هذا التنوع. لكن نظرية الانتخاب الطبيعي التي وضعها داروين لتفسير كيف تتغير الكائنات بمرور الزمن ليست قائمة على توريث الصفات المكتسبة، بل على انتقاء واستبقاء المفيد من التنوع الموجود أصلاً (كيفما حدث)؛ وهذا هو إنجاز داروين الأكبر فعلًا، لا أنه افترض تغير الكائنات بمرور الزمن ولكن أنه قدّم آلية مقبولة لوصف هذا التغيّر. فاعتبار الدكتور إياد أن هذا من أسس النظرية قد لا يكون دقيقًا.
مع العديد من المغالطات التي سنعود لها في المقالات التالية، صوّر الدكتور إياد قنيبي نظرية داروين على أنها مجموعة من السخافات، حتى أنه لم يذكر سيرةَ داروين ولا ملاحظاتِه ولا رحلاتِه –التي اكتفى بوصفها أنها كانت كبرنامج به مدخلات كثيرة لكن معادلاته خاطئة!- ولا التحديات التي واجهت نظريته في بدايتها.. ومع كل هذا كان من المفترض أن يكون هذا عرضًا منصفًا!! وهذا وجهٌ واحد من عرض الدكتور غير المنصف والمتحيز ابتداءً، وفي مقالٍ لاحق سنستعرض كيف عرضَ أدلة التطور بهذا الأسلوب غير المنصف.
-
التبخيس والاستهزاء بالرأي الآخر – مغالطة رجل القش
لا يذكر الدكتور القنيبي لفظ التطور إلا ويسبقه بكلمة “خرافة”. ولكن إذا كان 99% وأكثر من علماء الأحياء مقتنعين بخرافة فما تفسير هذا ومن نصدق بعد ذلك؟ ما هو الجزء الخرافي من نظرية التطور بالضبط؟ التطور بأبسط تعريفاته يعني التغيّر التدريجي للأنواع، فهل هذا أيضًا خرافة؟
في الحلقة 21 من رحلة اليقين، وصف إياد قنيبي نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين بأنها “أسخف وأغبى فكرة في التاريخ”، ولن ندخل في نقاش عن احترام العلماء ومجهوداتهم –ولو كانت خاطئة- ولكن العجيب أن القنيبي في بداية عرضه لنظرية داروين وصفها بأنها “تغير الكائن تغيرات بسيطة متراكمة، والطبيعة تغربل”. فبغض النظر عن أن التطور يحدث على مستوى الجماعات لا الكائنات المنفردة فهذا تلخيصٌ جيد ولو أنه مُخل، فالانتخابُ الطبيعي هو ما يتخلص من الصفات الضارة ويستبقي الصفات المفيدة التي تحسن من فرص الكائن للبقاء، وهي أساس فكرة الانتخاب الطبيعي. غير أنه في نفس الحلقة عاد الدكتور إياد ليصف الانتخاب الطبيعي –مستهزئًا- بأنه ليس فكرةً جديدة، فالكل يعلم “أن الكائن الأضعف سيكون من الصعب عليه التكيف مع الظروف البيئية الصعبة”! والأغرب أنه ما من أحدٍ شرح نظرية التطور إلا وقال أن عبارة “البقاء للأقوى” غير صحيحة، فالحشرات بالتأكيد أضعف من البشر على سبيل المثال لكنها مثال صارخ للتكيّف رغم الظروف الصعبة. فالأصح هو “البقاء للأنسب”. وبعد هذا العرض المتناقض يصف الدكتور إياد الانتخاب الطبيعي كما وصفه!
لم يكتفِ الدكتور بهذا العرض المتناقض، بل قال لاحقًا في نفس الحلقة أن “خيال” داروين جعله يتصوّر أنّ الشبهَ بين الحوت الذي يفتح فمه وبين الدب، معناه أن الحوت تطوّر عن الدب. مع أن الصيغة التي ذكرها داروين هي أنه لا صعوبة في تخيّل أن يتغيّر جنسٌ من الدببة (وليس دبًا واحدًا، فالتطور لا يعمل على الأفراد بل الجماعات) عن طريق الانتخاب الطبيعي لتصبح هياكلهم وعاداتهم أكثر ملاءمةً للماء، وتصبح أفواههم أكبر وأكبر حتى ينتج مخلوقٌ عملاقٌ مثل الحوت [as monstrous as a whale]. وبغض النظر أكان مثالُ داروين مناسبًا أم لا لشرح فكرته عن التطور، فهو لم يقل بأن الدب تطورَ إلى حوت بل كان يقارن حجم المخلوق الناتج بحجم الحوت. ومن الجدير بالذكر أن هذه العبارة قد حذفها داروين من النسخ التالية لكتاب أصل الأنواع، ومن الجدير بالذكرِ أيضًا أنه في العام 1863 استهزأ أسقف مدينة ويللنغتون في نيوزيلندة بنظرية داروين لنفس السبب الذي ذكره الدكتور إياد، ورد عليه صمويل بتلر أنه أساء فهم الفقرة من كتاب داروين بشكلٍ مشين (رغم أن بتلر لم يكن مؤيدًا لنظرية داروين بالكامل).
كما أنه في حلقة لاحقة تعرّض الدكتور لكتاب ريتشارد دوكنز (أعظم استعراض على وجه الأرض، والذي ترجمه الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي -رحمه الله- إلى العربية) ووصفه بكل بساطة بأنه “أعظم استعباط”، دون أن يناقش الكثير مما ورد في الكتاب. وبغض النظر عن قول الدكتور أن كلَّ ما في الكتاب أمثلة على التكيّفات لا التطور، فهو لم يتطرق البتة إلى فصول الكتاب الخاصة بالأحافير -خصوصًا البشرية- والخاصة بالجغرافيا الحيوية على سبيل المثال، ولنا معها وقفة في مقالٍ لاحق.
ولست هنا في موقف الدفاع عن دوكنز أو غيره، ولكن ما أحاول التعليق عليه هو عدم احترام الطرف الآخر أو حتى محاولة تفهّم وجهة نظره. فالمقتنعون بالتطور في نظر القنيبي مؤجرو عقول وأتباع خرافة، وكثيرًا ما يسخر منهم أثناء حلقاته دون عرض ما يقولون بشكلٍ منصف حتى، وسنعرض بعض الأمثلة لهذا لاحقًا. وللأسف فإن الكثير من متابعي الدكتور صار يتّبع نفس الأسلوب في الاستهزاء بالعلماء وبمن يقبل التطور واعتبارهم جهلة وكذابين دون محاولة فهم ما يقولون.
نكتفي بهذا القدر على أن نستكمل مراجعة سلسلة رحلة اليقين الدكتور إياد قنيبي في المقال التالي.
[1] Biology: A Global Approach, 10th edition; Pearson. p. 511