نظرة حول الفكر الاعتزالي
مقدمة عن المعتزلة
تعد فرقة المعتزلة من الفرق الإسلامية التي نشأت في البصرة في حدود نهاية المئة الأولى للهجرة، ويسمَّون كذلك بأصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية. ولقد توقف العديد من المفكرين المعاصرين بدراسة تراثهم الفكري، حيث أن سمة الفكر الاعتزالي سمة عقلية برهانية، فقد كان المعتزلة أول من أدخلوا النزعة العقلية في الفكر الإسلامي.
ولقد وجدنا أن كثيرًا من الدراسات المعاصرة قد حمّلوا الفكر الاعتزالي دلالات لا تقولها متونهم، وذلك استجابة للقراءات المنحازة التي وقع بها التراث.
وفي هذا البحث نحاول قراءة الفكر الاعتزالي من خلال آلية قراءة التراث التي قدّمها المفكر محمد عابد الجابري، بحيث نشهد الدور التاريخي الذي حققته الحركة الاعتزالية، ونعي من جانب آخر كيفية تحقيق هذا الدور في شكله المعاصر.
نحن والتراث
يشكل التراث امتدادًا للإنسان ووعيه الذاتي عبر التاريخ، كما ويعطيه شعورًا بخصوصيته وهويته، وتمايز “الأنا” عن “الآخر”، إلا أنّ التعقل الواجب تجاه هذا التراث يكون باستيعابه هذا واحتوائه لا أن يحتوينا هو، فـ “اندماج الذات في التراث شيء، واندماج التراث في الذات شيء آخر. أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر”(1)
والتراث هو “مجموعة من المفاهيم والقيم والمعتقدات والتقاليد ومحددات السلوك والأعراف.”(2) وعلى ذلك لا يصح حديث الذي ينادي بإحداث قطيعة إبستمولوجية مع التراث، وهو حديث لا هو بالعلمي ولا التاريخي على حدّ تعبير الجابري، فليس التراث قطعة أثرية ترمى في المتاحف ليتراكم عليها الغبار.
وتبرز إشكاليات عدة عند التعامل مع التراث لتجعل منه عبئًا بدل أن يكون الركيزة والمنطلق في سلم التحديث والحضارة. ومن هذه الإشكاليات:
- القراءة الإسقاطية للتراث، والتي تعمل على إلباس العصر عباءة الماضي، وتأمل بأن “ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل.”(3)
- القراءة التي تمثل “متخيلاً رغائبيًا” بتعبير بلقزيز، بحيث تتصور التراث كبضاعة يمكن أخذ البعض منها، وترك البعض الآخر، كالذي يريد إحياء ابن رشد وحرق كتب ابن تيمية، أو البحث عما يمكن أخذه من أفكار الشيعة أو المعتزلة أو الفلاسفة، وهذا “عمل غير تاريخي، لا يؤدي إلا إلى حلقات مفرغة.”(4)
ومن خلال هذه القراءات، شكّل التراث عبئًا وأعطيت دلالاته غير الدلالات الحقيقية التي أرادها العلماء والمفكرون المتقدمون؛ فبدل أن تقرأ موضوعات التراث ضمن سياقها وظروفها التاريخية، أي من خلال ربطها بواقعها والمشاكل السياسية والاقتصادية التي نتج عنها، تم اقتطاعها من سياقها وحمّلت دلالات لا تتفق مع الدلالة الأصلية.
ولقد قدّم الجابري آلية في التعامل مع التراث، تعيننا على تفادي الإشكاليات التي تقدم ذكرها، ويكمن ذلك عبر التحليل التاريخي، والطرح الأيديولوجي. كما ويمكن تمثّل هذه الآلية في الحديث عن المعتزلة بالشكل التالي:
- التحليل التاريخي؛ دراسة المرحلة التاريخية التي ظهر بها الفكر الاعتزالي، وأبعاد هذه المرحلة الثقافية والاجتماعية، وبذلك يمكن استيعاب الفكر الاعتزالي داخل إطاره ونسقه، مما “يجعلنا على بيّنة مما يمكن أن يتضمنه النص، وما لا يمكن أن يتضمنه.”(5)
- الطرح الأيديولوجي؛ ويكون عبر الكشف عن الوظيفة والواجب الذي قام به المعتزلة في ذلك العصر.
لمحة تاريخية عن المعتزلة
أورد الشهرستاني أن رجلاً دخل على الحسن البصري يستفهم منه عن فاعل الكبيرة ما إن كان كافرًا كما قالت الوعيدية، أو إن كان مؤمنًا، فقال واصل بن عطاء وقد كان في مجلس الحسن: لا أقول أنه مؤمن مطلقًا فلا يضرّ مع الإيمان معصية كما ذهبت المرجئة، ولا كافر مطلقًا، وإنما في منزلة بين منزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثمّ قام واعتزل إلى زاوية في المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي ومن وافقه بالمعتزلة.(6)
ولبعض المستشرقين والمفكرين كلام آخر في أصل التسمية، إلا أن ذلك ليس محله الحسم هنا، لكن يمكن لنا من خلال لفظ “الاعتزال” أن نتبين عدم إمكانية فهم هؤلاء الذين اعتزلوا إلا من خلال الاطلاع على المحيط الذي اختاروا البعد والانفصال عنه، فقد نشأ الفكر الاعتزالي في ظل شرط تاريخي كانت للصراعات المذهبية والأحزاب المعارضة من الخوارج والشيعة دور في بلورة أفكارهم للرد على سائر هذه الفرق، كما عمل الأمويون في تبنيهم للجبرية لإضفاء الشرعية على حكمهم دور كبير كذلك، عدا عن ردّ المعتزلة على النصوصية والحشوية الذين قدّسوا ظاهر النص ومنعوا التأويل، وأجازوا على الله التشبه بصفات المخلوقات- سبحانه-، فخرج المعتزلة في ظل هذا التنوع والخلاف المذهبي، وصاغوا أفكارهم.
أصول المعتزلة
للمعتزلة خمسة أصول صاغوها، ولم تكن قد تبلورت في عهد المؤسس واصل بن عطاء، ولم تُعرف إلا في زمن العلاف حيث وضع كتابًا في هذه الأصول، وقد كان الكتاب كإشارة تعريفية بينهم، فكانوا يتهامسون فيما بينهم: قرأت الأصول الخمسة؟
ويمكن الملاحظة أن هذه الأصول مستقاة من الجدل والخصومات التي كانت بين المعتزلة وغيرهم من الفرق، وهنا يمكن لنا فهم الطرح الأيديولوجي الذي قدمه المعتزلة لخدمة عصرهم.
- التوحيد، قولهم بالتوحيد جاء بنفي التشبيه والتجسيم عن الله، وهذا في ردهم على المشبهة والمجسمة في ذلك العصر، وقالوا: أن الله حي بذاته، قادر بذاته، فجعلوا صفات الله عين ذاته، حتى ينفوا عن الله التركيب، وعن قدم غيره من الصفات.
- العدل، وهذا في ردهم على الجبرية الذين نفوا أن للعبد الخيرة في فعله، فرأت المعتزلة أنّ الجبرية تصف الله بالظلم وعدم الحكمة، فلماذا يخلق الله أفعالنا ثم يحاسبنا عليها؟
- الوعد والوعيد، أوجبت المعتزلة على الله أن يكافئ المؤمن بالجنة، والكافر بالنار، ويفعل الله ما وعد به، ومحال على الله الكذب أو الخلف كما قال القاضي عبد الجبار.
- المنزلة بين منزلتين، وذلك في الرد على المرجئة والخوارج.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد صاغوا هذا المبدأ من الخوارج، وذلك أنهم سلكوا معهم إنكار الظلم، ومقاومة السلطة الظالمة.
جذور الأنسنة عند المعتزلة
المبحث الإنساني مبحث فلسفي أصيل، ويقدم على مبحث الألوهية في كثير من الفلسفات، وقد اهتم الفكر الاعتزالي بالإنسان، وجعلوا من عقله أساس تكليفه، فولّوا عظيم جهدهم للتأكيد على هذا الجوهر الإنساني، كما جعلوه مسؤولًا ويمتلك حرية خياراته. وتفصيل ذلك كالتالي:
1- العقل عند المعتزلة
- لقد قررت المعتزلة العقل كميزان يقاس عليه النقل، فإن وافق المنقول صريحَ العقول كان مقبولًا، أما إن كان ظاهر النصوص الصحيحة مخالف لصريح العقول قاموا بتأويله “فالعقل قبل ورود السماع.”
- وجعلوا معرفة الله واجبة عقلاً، ومعرفة الحسن من القبيح من الأفعال من خلال العقل.
وبذلك يمكن تبيّن المدى الذي قدمه الفكر الاعتزالي من ثراء للمنهجية العقلية، والبرهنة على الدين ونقله من التقليد إلى التحقيق، وتجاوز النمطية النقلية في التفكير.
2- مسؤولية الفرد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يروي الجاحظ أنّ رجلاً قال لصاحبه أبوك الذي جهل قدره وتعدّى تطوره، فشقّ العصا، وفارق الجماعة، لا جرم قد هزم ثم أسر ثم قتل ثم صلب! فقال له صاحبه: دعني من ذكر أبي، ومن أسره، وقتله، وصلبه، أبوك، هل حدّث نفسه بشيء من هذا قط؟(7)
الأمر بالمعروف والسياسة:
- قام الفكر الاعتزالي بتطويق نظرية الجبر التي استند عليها الأمويون، فرفض أن يكون الحاكم باختيار الله، وأجازوا الخروج على الحاكم الفاسق، كما وقفوا إلى جانب زيد بن علي في ثورته ضد الأمويين، ورفضوا أن تكون ثمة قوى ميتافيزيقية تسند الحاكم، فالخليفة عندهم بالاختيار، لا بالنص والوصاية.
- الحاكم مسؤول عن دولته ورعاياه وجنده، ففي حين أرا د أبو جعفر المنصور التنصل من ظلم ولاته ووزرائه، رد عليه عمرو بن عبيد “تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا ينفذونها؟”
الأمر بالمعروف والمجتمع
أكد المعتزلة على أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمسؤولية جماعية تقع على جميع الأفراد، فالإنسان كائن اجتماعي لا يمكن له أن يغض الطرف عما قد يسيء إلى المجتمع الذي يسكن فيه، فالشر حينها سيغمر الجميع، فيقع إذا تحقيق الخير المجتمعي علينا، “فحاجة الناس إلى بعضهم صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم” كما يقول الجاحظ.
ووجب علينا التأكيد على هذا الأصل في عصرنا، بدلا من شيوع الفردانية والتمركز حول الأنا وخلاصها الفردي، وبذلك نضمن سلاما اجتماعيا، ونغرس روح المواطنة الإيجابية، والمسؤولية تجاه مجتمعاتنا.
لقد كان هذا الأصل الخامس تطبيقا عمليا للفكر الاعتزالي، وأكدوا به أن التجريدات الفلسفية لا تنفع إذا لم يلحقها العمل والتغيير، والتصدي لكل من يريد إطفاء نور الله.
3-الحرية والمسؤولية في الفكر الاعتزالي
تعتبر مسألة الحرية من أعقد المباحث الفلسفية، وقد أخذت الحرية دلالات مختلفة في تراثنا، فمن الجانب الاجتماعي تشير إلى الرجل الشجاع، والمرأة الحرة هي المرأة الشريفة، ومن الجانب الفقهي فالحرّ هو الإنسان المكلّف الذي يقابل العبد، ومن الجانب الكلامي فهي تعني الاختيار.
إذًا لقد عولجت مسألة الحرية في مبحث الجبر والاختيار، ففي حين كان يرى الجبرية أنّ الله خالق أفعال العباد وليس للعبد الخيرة من أمره، ذهب المعتزلة إلى أن الإنسان هو الخالق لأفعاله، وما دام قادرًا على الاختيار فبالتالي هو المسؤول وحده عن مصيره وقراره.
ولقد صاغ المعتزلة دليلاً أنطولوجيًا لرأيهم، ونقلوا بذلك الحرية من إطارها الميتافيزيقي إلى الإطار الأنطولوجي، ففرقوا بين الحركات الاختيارية للإنسان، وبين الحركات الاضطرارية، فالرعشة على سبيل المثال خارجة عن اختياره، أما تحريك يده فذلك من اختيار الإنسان.
كما قدّموا برهان التمانع، وخلاصته أن الإنسان إذا أراد شيئًا وأراد الله خلاف ذلك الشيء، فإن دواعي فعل الإنسان متحققة، وكذلك الإله، فيحصل بذلك تمانع وتناقض، ويحال الجمع بين مؤثرَين على مؤثر واحد، وعليه فإرادة الله لا تتدخل في الإرادة الإنسانية.
الشر والفساد في الكون
“ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”(8)
ترى المعتزلة أنّ أصل الشرور هو الإنسان وهو المسؤول عن أفعاله، وأما الأمور الخارجة عنه من أعاصير وزلازل وجدب وقحط فهي شر على المجاز لا الحقيقة، كما يذهب الخياط المعتزلي.
ويذهب القاضي عبد الجبار أن ما تكرهه النفس ويبدو في ظاهره قبيحًا لا يكون كذلك على الحقيقة، وقد يكون متضمنًا للخير، فالدواء مر لكنه يحقق منفعة وصحة.
وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني ليبنتز حيث رأى بعض المفكرين تأثره الواضح في الفكر الاعتزالي، فقد كان يرى أننا نظرنا إلى كثير من الأحداث على أنها سلبية، ثم اتضح لنا خلاف ذلك النظر ورأينا الخير في الأحداث.
كما أنّ الظروف المشروطة التي تحيط بالإنسان من قوانين لا تعد جبرية، بل ثمة فرق ما بين الحتمية والجبرية، فالنتائج التي تحدث في ظل شروط معينة لا تعني انعدام الفاعلية الإنسانية، بل يستطيع الإنسان التحكم في بعض هذه الظواهر وتسخيرها لخدمته، فقد تحرر من الكثير من الأوبئة المميتة عبر الاكتشافات العلمية، كما نجد ارتفاعًا لأعمار الإنسان في بيئات معينة لاتخاذ أسلوب حياة يساعد على ذلك، من نظام غذائي صحي وممارسة الأنشطة الرياضية، وعليه يبقى للإنسان الحرية والقدرة على تسخير القوانين لصالحه.
نرشح لك/ “كنوت هامسون”: حياته، وسياسته، ورواياته
المراجع. الجابري، نحن والتراث. أبو زيد، النص والسلطة. الجابري، نحن والتراث. المرجع نفسه. المرجع نفسه. الشهرستاني، الملل والنحل. الجاحظ، الحيوان. سورة الروم، 41