مواطن بين الشَغَف والشَّظَف
(1)
هذا أنت لا تزال تواصل فعل المضارع (يعيش) في هذه الجغرافية المنسيّة!
ماذا قلت؟ يعيش؟!
أحسبُ أن كلّ كائنات المملكة الحيوانيّة تمارسُ نفس الفعل المضارع رغم عدم إدراكها لعلمٍ اسمهُ النحو!
وأنت تعيشُ في ظروفٍ استثنائيّةٍ فرضتها هذه الحرب أو بالأصحّ ما قبل الحرب؛ لأنّ الحربَ نتيجةٌ وليست سببًا؛ بحيث جعلت من الحياة كفافًا.
أظنّ أن لفظة (الكفاف) هي اللفظة المناسبة لهذه المرحلة التي تعيشها؛ فأنت في البدء أدرتَ ظهرَك للكماليّات، وها أنت تدير ظهرك لبعض الأساسيّات التي لا تقيم أودَ الحياة اليوميّة!
الحياة اليوميّة في اليمن كانت ولا تزال روتينًا مُملًّا ، وأنت تراقب الناس بما فيهم أنت و…، ألست واحدًا منهم؟!
بلى، واحدٌ من سبعة مليار نسمةٍ هم سكّان الكوكب في هذا القرن الميلاديّ.
كنت أقول وأنت تراقب الناس يعيدون نفس الطقوس يوميًّا من الاستيقاظ والتمطّط ثم الإفطار، وبعدها بدء رحلة البحث عن الرزق- كيفما اتفق- ثم سوق القات، فالعودة منه لبدء الغيبوبة اليوميّة التي تمتدّ حتى صباح اليوم التالي، وهكذا تمرّ الأيام والسنوات والقرون!
يتساوى في ذلك الأغنياء والفقراء والعامّة والخاصّة والساسة والمتفيقهون وووو إلخ، ولكن بفوارق في جودة الطعام والقات وضيق المكان والزمان واتساعهما!
بل قد يُحشر كل هؤلاء في مجلس قات واحد يتنادمون في أريحيّةٍ مذيبةٍ للطبقاتِ والفوارق، ويتبادلون الطرائفَ والحكاياتِ والخلافاتِ التي تبلغ عنان السماء ثم تهبط إلى الأرض على لا شيء، وهم يستقطعون النهار بطوله وجزءً من الليل حتى ينفض السامرُ ويعود كل حيٍّ إلى حافرته!
لكن، ماذا عنك؟
أنا تركت كل هذه المجالس وصرتُ (حِلْسَا) بقعر بيتي، أعيش في عوالمي مع حاسوبي وكتبي وأوراقي، باستثناء لقاءاتي ببعض أصدقائي كلما سنحت لنا فرصة من غوافل الدهر الخؤون.
(2)
يجرفني الشَغَف فأمارسه في نشوة مراهق لم يدخل دنيا، وأكاد استقطع من قوت العيال من أجل هذا الشَغَف المتنوّع الذي قد لا تعرفه هذه الجغرافيّة!
لماذا هذا الاستقطاع؟ فما هي أوجه شَغَفِك؟
إن الفيزياء وصوت أبي بكر سالم بلفقيه والتنقيب في تاريخ هذه البلدة المنسيّة والأدب (شعر مولانا البردوني خصوصًا وروايات العمّ نجيب محفوظ) تمثّل القواعد الهيدروجينية الأربع لحمض الدي إن إيه الحياتيّ لشَغَفي!
حمض الدي إن إيه؟!
أعرف أنك لا تميل لعلم الأحياء كثيرًا.
صحيح، لكنّ الشافعَ له أنه يحملُ لفظةَ (علم) وهي لفظةٌ مقدّسةٌ لديّ، بل إنّي اعتبرها كلمةَ الله العظمى.
كنت في البدايات أردّدُ بسذاجة الأطفال: العلم نور، دون علمي بمحتوى هذه العبارة وما النور الذي يحمله العلم، كان مجرد ترديد ببغائي، تمامًا كما يعيد الأطفال في (المِعْلامة) ألفاظ القرآن الكريم بعد الفقيه معلّمهم بدون فهم ماذا يردّدون، لكنني اليوم – في منتصف العقد الخامس من العمر- أصيح بملء شدقي في يقين من لا يشك: العلم نور، بل أنوار تضيء ظلمات السماوات والأرض وما بينهما، أما الجهل فلا تحيا عليه جماعة… كيف الحياةُ على يدَيْ عزريلا، كما قال شوقي أميرُ شعرائنا
هذا إنْ كان الجهلُ يحملُ حياة!
ألم يقل شوقي:
والجهلُ موتٌ، فإنْ أُعطيتَ معجزةً… فابعثْ من الجهلِ، أو فابعثْ من الرَّجَمِ؟
والرَّجَم هو القبر.
(3)
يجرفك الشَغَف بعيدًا إلى عوالم بعيدة فيردّك الشَّظَف لواقع الحياة اليوميّة، وأنت بين هذين الحدين في أخذٍ وجذب، كأنّك المعتزليُّ الظانّ بمرتكب الكبيرة أنه في منزلة بين منزلتين، وأنت مرتكبُ كبيرةٍ مجتمعيّةٍ اسمها التطلّع، لذا أنت في منزلةٍ بين منزلتين؛ بين شَغَفِك المطوِّحِ بك بعيدًا عن عوالم الحياة اليوميّة الروتينيّة المملّة المكرّرة، فتحلّق بروحك حيثما تحب وتهوى؛ ممارسًا فعل الحياة كما تراها حياة، وبين الانغماس في البحث عن لقمة العيش وسط هذا الشَّظَف حيث لا جديد سوى القديم، ولا إبداع أحسن مما كان، خصوصا في هذه الغابة الأرضيّة المسماة الوطن العربيّ (الكسير)، حيث يعمل قانون الديناميكا الحراريّة الثاني بكفاءةٍ منقطعةِ النظير – فوق ما توقعه كلاوزيوس نفسه – صانعًا فوضى لا مثيل لها في نظام معزول كمثل هذه الجغرافية المنسيّة!
لكنك تعود لمعتقدك الديني لتسلي نفسك أن القرآن الكريم ذكر الشَغَف وأغفل الشَّظَف؛ فقال: قد شَغَفها حبًا؛ أي بلغ الحبُّ شِغاف (غلاف) قلبها، والحديث هنا عن امرأة العزيز زليخا.
فأنت لم يستحوذ العلم على مكانة الدين لديك، فالعلم سبيلٌ لا فكاكَ عنه كما هو الدين كذلك، وخرافةُ الصراع بينهما إنما صنعته أهواء البشر التي لم تفهم العلم ولم تفقه الدين، وإنما بحثت من هذا وذاك على أدلّة لما يقوّي أهواءهم ضدّ خصومهم خلال القرون المتعاقبة، والبشر – خصوصا الساسة والكهنة معًا – لا يزالون يمارسون ذلك تحت مظلة الأيديولوجيات المتباينة.
فما لك ولهذا العبث!
تكاد العربيّة لغتُك الأم تخبرك بجمالها وهي تصك ثلاثة مصطلحات بذات الجَرْس: الشَغَف والشَّظَف والتَرَف، ولعل الثالثة بعيدة المنال؛ فلا ترفَ في جغرافيّتنا المنسيّة!
دعونا نعود للشَغَف؛ فذلك أفضلُ بكثيرٍ من أحلام اليقظة التي لا تتحقق!
إن الشَغَفَ هو المحرّك الذي يجعل جذوة الحياة مشتعلةً في نفسٍ تحيا في أرض الموات، إنّه السبيلُ الذي يجعلك تحسُّ أنك لا تزال إنسانًا ولست مجرّد (كائن) بيولوجيٍّ يعيش في زمرة المملكة الحيوانيّة!