مفاتيحُ الجنة.. الجدلُ دائمُ الاخضرار
منذُ اليومِ الأولِ الذى تعرّفت فيه على الإنترنت وهناك بضعة مواضيع جدلية تتجدد تلقائيًا كلَّ حينٍ ولا يبدو أنّ حسمها ممكنٌ بحال وعلى رأسها ذلك الجدل الذى يرفع رأسه كالعنقاء كلما مات أحد المشاهير حول مصيره الأُخرويّ. وعلى الرغم من غرابة موضوع هذا الجدل الظاهرية إلاّ أنّه يحمل بين طياته إشكالاتٍ عديدةً .
قد يبدو الأمر محسومًا مسبقًا فاعتناقك لديانة ما يقتضى منك أن تؤمن بقواعد هذه الديانة وعلى رأسها مصير الإنسان الأُخرويّ بها، فإنّ كنت أرثوذكيسيًا فأنت تؤمن بأن قبولك المسيح مخلصًا يجعل مصيرك إلى الجنة وملكوت الله ورفضك له لا يجعل لك نصيبًا فيها ولا شىء فى المنتصف (من آمن واعتمد خلص ومن لا يؤمن يدن) (وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبَدَة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني).
بينما إن كنت كاثوليكيًا فقد كان الأمر كذلك حتى عام 1965م حيث أقرّ مجمع الفاتيكان الثاني في دستوره العقائدى ما يشابه مفهوم (أهل الفترة) عند المسلمين حيث نَصَّ (الذين يجهلون بلا ذنب إنجيل المسيح وكنيسته، ويبحثون عن الله بقلب سليم، ويسعون بأعمالهم، تحت تأثير النعمة، إلى إتمام مشيئته الظاهرة لهم، فيما يمليه عليهم ضميرهم، يستطيعون أن يصلوا إلى الخلاص الأبدىّ ) فأقر بإمكانية دخول غير الكاثوليك الجنة وسكت عن الكيفية.
أما فى الإسلام فغزارة النصوص وكثرة المجتهدين فى فهمها أضفى على المسألة الكثير من التفصيل..
بدايةً، فالجنة ليست حكرًا على المسلمين بل هم جزءٌ من أهلها كما قال النبيّ: “إنِّي لأَرجُو أَنْ تَكُونُوا نِصفَ أَهْلِ الجَنَّة، وَذَلِك أَنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنتُمْ في أَهْلِ الشِّركِ إِلَّا كَالشَّعرَةِ البَيضَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَسْودِ”. متفقٌ عليه
وإن كان الإجماع مُنعقدًا على نجاة المؤمنين من أهل الرسالات السابقة على الإسلام فالخلافُ حولَ غيرهم ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام أو بلغتهم على غير حقيقتها قائمٌ، وليس الخلاف بجديد، ولعل أول ذكره عندما سألت أم المؤمنين عائشة عن ابن جدعان حيث قالت:” يَا رَسُولَ اللّهِ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ فأجابها النبي قالَ: لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ”. صحيح مسلم
والأرجح أنّ قول النبي بعدم نجاة ابن جدعان كان وحيًا وليس فهمًا للوحي، مثله كقوله في الذي قاتل فى إحدى الغزوات قتالًا شديدًا أعجب الصحابة حتى قِيلَ:” يا رَسولَ اللَّهِ، ما أجْزَأَ أحَدٌ ما أجْزَأَ فُلَانٌ، فَقالَ: إنَّه مِن أهْلِ النَّارِ، فَقالوا: أيُّنَا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، إنْ كانَ هذا مِن أهْلِ النَّارِ؟ فتبعه رجل حتى جرح جراحًا قاتلة فقال له هنيئًا لك الجنة فقال ما قاتلت عن دين قَاتَلت إِلَّا على الحفاظ، أَلا تسير قُرَيْش إِلَيْهَا حَتَّى تطَأ سعفتنا، ثمَّ أقلقته الْجراحَة فَقتل نَفسه، فَجَاءَ الرَّجُلُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: أشْهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، فَقالَ: وما ذَاكَ. فأخْبَرَهُ، فَقالَ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ، وإنَّه لَمِنْ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ، وهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ”. (صحيح البخاري – كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي)
ذلك أن النبي كرر مرارًا أنه لا يعلم من مصائر الخلائق إلا ما أُوحِي إليه به فعندما مات عثمان بن مظعون رضى الله عنه، قالت امرأة من الأنصار: “رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله”. فقال النبي:” وما يدريك أن الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه والله اليقين والله إني لأرجو له الخير وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعَل بي”. صحيح البخاري
وغنيٌّ عن البيان القولُ بأن القطع بكون ((شخص بعينه)) من أهل الجنة أو من أهل النار دون نص من كتاب أو سنة يفيد بذلك هو محض سخف يناقض مقتضيات الإيمان فلا يوجد تصور لوجود إله يَخضع فيه لأحكام العباد وإنما نتصرف بحسب الظاهر فإن مات مسلم صلينا عليه صلاة المسلمين على الرغم من أنّنا لا نعرف يقينًا إن كان مات مسلمًا حقًا أم لا والعكس صحيح ونتمنى النجاة وحسن ثواب الآخرة لمن نحب ونرتضي بحسب عقولنا وما نعرف عنه دون أن نتجرىء على الله فنحدد له ما هو العدل الذي يجب عليه فعله وما هي الرحمة التى يجب عليه الأخذ بها!
وقد اختلف أهل السنة فى أهل الفترة الذين من لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم خطأ أو منعهم مانع عقلى من إدراكها فقال الأشاعرة بنجاتهم ونصّ البعض على دخول أطفال المشركين الجنة كابن حزم والنووي والبخاري وابن الجوزي والقرطبي أما أهل السلف كابن تيمية وابن القيم والبيهقي فقالوا إنهم يُمتحَنون فى عرصات يوم القيامة كقول ابن تيمية فى درء التعارض (ومن لم تقم عليه الحجة فى الدنيا بالرسالة كالاطفال والمجانين وأهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ما جاءت به الآثار إنهم يُمتحَنون يوم القيامة فيُبعَث إليهم من يأمرهم بطاعته فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإن عصوه استحقوا العذاب) ذلك أن الحديث الذى نص على أن أهل الفترة ومن لم تقم عليه الحجة أنهم (يُرسَل إليهم أن ادخلوا النار فوالذى نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا ) ثبت عندهم ولم يثبت عند آخرين فلم يأخذوا به.
والحساب الأُخرويّ فى الإسلام لا يقتصر على الجنة والنار فحسب بل يسبق ذلك المصير النهائى مراحل حساب متعددة في يوم القيامة يُقتَص فيها للمظلوم من الظالم وتُكفَّر فيها الذنوب كقول النبي: “لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجَلحاء من الشاة القَرناء”
و كقوله:” مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ (يَعْنِي شِدْقَيْهِ) ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ”، ثُمَّ تَلا ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الآيَةَ سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان 180). صحيح مسلم
وهكذا فجماع الأدلة يرسم صورة واضحة للمسألة فى التصوُّر الإسلامي حيث حقيقة الإيمان هي التسليم لله تعالي فلا حد لرحمته ولا لعذابه يقضى بين الناس وعليهم بالعدل و يعاملهم بالإحسان إن شاء ولا يوجد استحقاق يضمن لصاحبه دخول الجنة بل هي رحمة الله وحده ولا يمكن تصوَُر أن يعامل الله الناس بغير العدل لأن الله من يحدد قيمة العدل ذاتها (والله يحكُم لا مُعَقّب لحكمه).
ويُحاسَب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة بالعدل ويُحسِن الله لمن يشاء ويدخله فى رحمته التي وسعت كل شىء ولا يحدها إلا العدل فلا يكون المحسنين كالمجرمين ولا يعترض على حكمه إلاّ الكافرون فيكون قولهم (وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصارْ ) فلا يتصور “عاقل ” أن حكمه على الناس أعدل من حكم الله فيهم ولا أنه أرحم بالناس من خالقهم.
فما مصدر الجدل إذن؟
يمكننا القول إن محرك هذا النوع من الجدل ثلاثة أسباب مترابطة.
الأول: طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي التى تحفز رغبة الشخص فى الحصول على التقدير والاعتراف من الآخرين والشعور بالانتماء إلى فريق ما من خلال الانخراط فى السجالات السياسية والاجتماعية والدينية وهذا أمر طبيعي إن كان فى حدود معقولة ولكن غيبة الشخصيات العامة ذات القبول الواسع بين كافة الأطراف أدي لحالة استقطاب حادة أكسبت المتجادلين حول كافة القضايا العامة ذهنية مشجعى فرق الكرة! يسعي كلُّ فريقٍ مشجعٍ لرأى إلى الحطِّ من الطرف الآخر وهزيمته بشتى الطرق للوصول إلى الحق من خلال تكوين رؤية سليمة منطقية للأمور مما ينذر بفقدان الرأى العام أي قيمة له!
والثانى: هو الحرب المستعرة بين فريقي العلمانيين والإسلاميين (بالمعني الثقافي الواسع للمصطلحات) على مدى تاريخنا الحديث وصراعهم على عقل المجتمع والسطوة عليه فنجد رفض العلمانيين لتحكم الإسلاميين فى أخلاقيتهم ومحاولتهم فرض سيطرتهم علي المعايير الأخلاقية وربطها باختيارات فقهية وأصول عقائدية فيبالغون فى إظهار التضامن والأسى والترحم على من يجدهم الإسلاميين لا يستحقون ذلك عنادًا ورفضًا لاحتكار الإسلاميين الصواب الشرعي بينما يبالغ الإسلاميون فى الإنكار عليهم وتأثيمهم متناسين أن صيغ الترحم الشائعة هى ألفاظ ثقافية أكثر منها شرعية دارجة على لسان المسلم وغير المسلم كما تنسيهم شهوة الانتصار على مخالفيهم بعنف الطعن فيهم الآثارَ السلبية الجمَّة التى تنتج من هذا العنف (رغم تجاربهم التاريخية العديدة) جراء تأثير العنف اللفظى والجسدي في صد الناس عنهم وتكريس الصورة السلبية لهم كسلطويين يريدون التحكم فى ضمائر الناس وتوقعهم فى أخطاء شرعية جمَّة!
فعندما نقرأ فى صحيح البخاري أنه عندما مات عبد الله بن سلول رأس المنافقين أعطى رسول الله صلي الله عليه وسلم قميصه لابنه ليُكفَّن فيه ولما قام ليصلي عليه قام عمر بن الخطاب فأمسك بثوب النبي فقالَ: “يا رَسولَ اللَّهِ تُصَلِّي عليه، وقدْ نَهاكَ رَبُّكَ أنْ تُصَلِّيَ عليه؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما خَيَّرَنِي اللَّهُ فقالَ: {اسْتَغْفِرْ لهمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهمْ، إنْ تَسْتَغْفِرْ لهمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}، وسَأَزِيدُهُ علَى السَّبْعِينَ قالَ: إنَّه مُنافِقٌ، قالَ: فَصَلَّى عليه رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تُصَلِّ علَى أحَدٍ منهمْ ماتَ أبَدًا، ولا تَقُمْ علَى قَبْرِهِ} فانتهى الرسول عن الصلاة على من علم نفاقه بعدها.. ندرك الفارق بين سمو نفس النبي الذي يتمنى نجاة من عاداه وبين نفسية من يتمني هلاك من يخالفه ليكون على صواب فى جدل.
والثالث: هو أن النزعة الفردية وهي السمة الثقافية المميزة لعصرنا قد أفرزت عند قطاعات واسعة (خاصة بين الشباب) تمردًا على السائد والتقاليد فى المجتمع الذي خذلهم بشتي الطرق ولا يُستثنَى من ذلك الأفكار الدينية بطبيعة الحال.
وأجدُ تلك النزعة أشبه بتلك النزعة الفردية لدي متنوري القرنين السابع والثامن عشر بأوروبا والذين نقموا على الكنيسة الكاثوليكية انغلاقها وتحكمها فشاعت بينهم المذاهب الربوبية التي تؤمن بأن للكون إلهًا حكيمًا رحيمًا دون الالتزام بدين فرارًا من سلطوية الكنيسة وقوانينها الصارمة التى ناقضت رؤيتهم الأخلاقية التى قامت على القانون الطبيعي ويكون السلطان فيها للضمير الذي وهبه الله للإنسان ليعرف به الخير من الشر وحده بلا حاجة لإملاءات رجال الدين أو النصوص. فيكون الإعراض عن “الشيخ” وتجاهل “النصوص” التى يُستنَد عليها تعبيرًا واضحًا عن هذا التوجه الذى يتزايد باضطرارٍ لأنه من ناحية يرضى النهم للفردية والاستقلالية ومن ناحية أخري يخرج الفرد من دائرة الصراع التى يصر كل جانب أن يجعله جنديًّا بها. وما أراه أن انشغال الإسلاميين بصراع الديوك مع العلمانيين عن مخاطبة هذا التوجه يسهم فى تقويته ولا يمنع من انتشاره بقوة الا انعدام المبشرين الشجعان لترويجه بين الناس.
هل نري نهاية هذه الجدالات العقيمة قريبًا؟
لا أظن.. فعنوان المقال الجدل دائم الاخضرار
ولكني أرجو أن أراه يذبل عن قريب.