مراجعة كتاب يوميات السرطان “حلّ أعمق أسرار الطب”
وفي نهاية المطاف حصل على ثمرة اجتهاده، فقد وجد وَرَمًا خبيثًا آخرَ وكان بوسعه التعرّف على الضّحيّة، إنّه… ادمونتوصورس، ديناصور نباتيّ.
في مغامرته الرائعة، والتي تحمل بين ثناياها إصرارًا دَؤوبًا على كشف اللثام عن أسرار ذلك الوحش القاتل الذي كاد أن يفتك بزوجته الحبيبة وحَرَمه من أخيه الشّقيق، يأخذنا الكاتب العالميّ جورج جونسون في كتابه الرائع “يوميّات السرطان” – حلّ أعمق اسرار الطب- في جولة ثريّة ممتعة. ومن خلال فصوله الثلاثة عشر، بعناوينها المثيرة المختارة بعناية، نلهث مع الكاتب المكلوم في محاولة للاقتراب من ذلك الوحش الكامن في كلّ خليّة من خلايا الكائنات الحيّة… نعم، فالعدوّ يسكن داخلنا.
وبما أنّ الجينات تتحكّم في عمل خلايانا، فإنّ أيّ عطب سيصيب تلك الآلات المجهريّة ستكون نتيجته خروج ذلك الوحش الخبيث الفتّاك من مكمنه على شكل خليّة سرطانية. أصدق ما قيل في وصفها أنّها (هي خليّة نسيت أن تموت)، بحسب عالمنا الكبير مصطفى السّيّد.
السرطان الجوراسيّ
في الفصل الاول من الكتاب، نتعرّف على أقدم حالة معروفة للسّرطان وقد أصاب عظام أحد الديناصورات منذ 150 مليون عام، ونمضي مع الباحث بروس روتشيلد في محاولته لتحديد نوع السرطان والبحث عن مزيد من العيّنات للكشف عن السّبب وراء غزو ذلك الوحش لعظام الديناصورات في ذلك الزّمن السّحيق. ولا ينهي جونسون هذا الفصل إلا وقد تيقنّا من تفشّي ذلك الورم اللعين في أجساد جميع الكائنات الحيّة، حتى أسماك القرش التي كادت تنقرض نتيجةً لخرافة تقول أنّ السّرطان لا يقرب أجسامها.
قصّة نانسي ومواساة الأنثروبولوجيا
زوجة الكاتب المهووسة بتناول الخضراوات الطّازجة، وَقَعت فريسةً لواحد من أخبث أنواع السّرطانات، حينما اكتسبت إحدى خلايا جسدها القدرة على النّموّ بلا توقُّف، ثمّ تحايلت على النّظام الدّفاعيّ المتمثّل في برنامج الموت الخلويّ المبرمج، ولاحقًا استهلّ الورم توليد الأوعية الدّمويّة الخاصّة به، ليبدأ فورًا عمليّة التهام الأنسجة المحيطة بالورم، وأخيرًا، بدأ في بثّ خلاياه الخبيثة رُسُل الظّلام في أنحاء الجسد، لتبدأ مستعمرات الشّرّ في حطّ رحالها في أنحاء الجسد الوديع. وهكذا ينتهي الفصل الثّاني وقد بدأ الكاتب رحلة العذاب مع زوجته المحبوبة عبر المراكز الطبّيّة وغرف العمليّات.
مواساة الأنثروبولوجيا وغزو سارقي الجثث
كي يواسي نفسه، يوجّه الكاتب دفّة سفينته بعيدًا عن محيطات تخصّصه في الفيزياء وعلوم الكونيّات إلى بحار البيولوجيا، ونمضي معه في الفصل التالي -مواساة الأنثروبولوجيا- إلى متحف التّاريخ الطبيعيّ، لنتعرف على الفكّ السّفليّ لرجُل كانام، تلك الحفريّة التي يعود عمرها لما يزيد عن 700 ألف عام، والتي اختلف العلماء في نسبتها إلى الجنس البشريّ أو إنسان النياندرتال، واختلفوا أيضًا في نوعيّة الوَرَم الذي أصاب ذلك الفكّ، واعتبره الكثير منهم أقدم عيّنة للسّرطان عند بني البشر.
وفي جولة تاريخيّة، نمضي في الفصل التالي -غزو سارقي الجثث- لنحطّ الرِّحال مع الكاتب في القرن التاسع عشر، حين تمكّن الأطبّاء لأوّل مرّة من فهم السرطان كمرض ينطوي على خلايا شاذّة، ليتأكّد وصف أبقراط له، حين أشار إلى عِلَلٍ متنقّلة ترتحل عبر أجزاء الجسم -كما في حالة زوجة الكاتب- حين نتابع تطوّر رحلتها العلاجيّة، والتي نتابعها دومًا كخطّ سرديّ متّصلِ خلال فصول الكتاب المختلفة التي تبدو لنا كفصول رواية مثيرة نلهث مع تفاصيلها الدقيقة.
من أين يأتي السرطان ؟
التّدخين والإشعاع ما زالا يمثّلان جناحَي الوباء، يُرفرف بهما ليحطّ في فناء خلايانا ويعبث بجيناتها ويفقدها صوابها، فتنطلق لتحطّم أجسامًا طالما مثّلت لتلك الخلايا الشاذّة أوطانًا تكفل لها المأوى والسّكن، في حين يرفرف ملاك الرّحمة بأجنحته النورانيّة من موادّ كيماويّة صديقة تنضح بها حبّات الفاكهة، وتسبح في بحار من عصائر الخضراوات الطّازجة، تعلوها التّوابل ذات القدرة الغامضة على كبح جماح الوحش.
تلك الصّورة النّمطيّة لمسبّبات وطرق الوقاية من السرطان ، لا تنتهي فصول الكتاب إلا وقد تحوّلت إلى صورة مشوشّة، فالحقيقة ليست هناك، وإنّما بحار وغابات من الإحصائيّات والاحتمالات لا تبلغ درجة اليقين.
الغوص في أعماق الخليّة السّرطانيّة
في الفصول من الثامن وحتى الثاني عشر، تتكشّف لنا المزيد من الأسرار عن الخليّة السّرطانيّة، وكيف أنّ الأورام السّرطانيّة ليست عبارة عن كُتَلٍ من الخلايا الشاذّة، وأنّ العُلماء أصبحوا الآن ينظرون إليه كما لو كان عضوًا جديدًا في الجسم، يضمّ العديد من الخلايا المتخصّصة التي سخّرتها الخلايا السّرطانيّة بطريقة ما، لتؤدّي عملها في إنتاج البروتينات التي يحتاجها الورم، ليتوسّع ويهاجم الأنسجة، ومن ثمّ يصل لتيّار الدّم.
احذر العدوّ!
في الفصل ماقبل الأخير من الكتاب، نمضي مع الكاتب في جولةٍ يطلعنا فيها على رأي منظّمة الصّحّة العالميّة في الأبحاث التي حاولت ربط المرض بانتشار موجات الميكروييف والتوسّع في استخدام التليفونات المحمولة، ثم يعرج بنا إلى مراكز الأبحاث، لنتعرّف على الأفكار خارج الصّندوق لكسْر جمود برنامج الحرب على السّرطان، بدءًا من البحث عن دورٍ تلعبه ميتوكوندريا الخلايا في دفع الخلايا إلى طريق التسرطُن، ومرورًا بمحاولات استخدام تكنولوجيا النانو وشذرات الذّهب في قتل الخلايا السّرطانية، كما في محاولات الدكتور مصطفى السّيّد وفريقه، إلى أفكار العالِمَين بول ديفيز وتشارلز لاينويفر عن علاقة غامضةٍ للسّرطان بفيزياء الكمّ. والحديث عن برنامج حاسوبيّ تاريخيّ يكمن داخل خلايانا، قديم قدم الحياة نفسها.
وينتهي بنا المطاف مع عالِم الحاسوب دانيال هيليس، وهو يدعونا لنفكّر في السّرطان كعمليّة وليس كشيء مادّيّ، والنّظر إلى بروتونيوم المريض (جميع البروتينات الموجودة في الخليّة في لحظة ما) بدلًا من التركيز على جينوم الخليّة.
خلاصة
وحين تُشرف الرّحلة على النّهاية، وبعد أن يقصّ علينا الكاتب معاناة أخيه جو مع المرض، والذي قضى عليه في النّهاية، يُفصح الكاتب عن تصوّره لمستقبل السرطان ، حين يبشّرنا بيوم تصبح فيه بيولوجيا السرطان وعلاجه علمًا مستقلًّا بذاته، كما الفيزياء والكيمياء، لا كما هو الآن مزيجًا متنافرًا من بيولوجيا الخليّة وعلم الوراثة وعلم الأنسجة، عندها ربما ننتظر صباحًا مشرقًا بنور الخلاص من وحشٍ سبقنا إلى الوجود على الكرة الأرضيّة.
- مؤلِّف الكتاب: جورج جونسون، أمريكيّ الجنسية، وُلد عام 1952.
كتب عن العلوم لكُبرى الصّحف والمجلّات الأمريكيّة، وله تسعة كتب تُرجمت إلى 15 لغة، منها: (أجمل عشر تجارب) و(حريق في العقل) و(العلم والإيمان والبحث عن النّظام). وفاز بجائزة الجمعية الأمريكية لتقدّم العلوم AAAS للصّحافة العلمية.
– مترجم الكتاب: د. إيهاب عبد الرّحيم علي.