متلازمة الذاكرة الكاذبة

هل تناولت دواءك هذا الصباح؟ أم يخيل لك ذلك؟ يمتد الغموض الذي يحيط بالذاكرة وكيفية قيام الدماغ بمعالجة الذكريات ليشمل أسئلة أشدّ خطورة، فهل تُعدُّ ذكريات التعرض للاعتداء أو الصدمات النفسية في مرحلة الطفولة، التي يتذكرها أفرادٌ يخضعون للعلاج النفسي، صحيحة بشكل كلّي؟ هل كانت الأحداث حقيقة؟ أم يخيّل للمرضى حدوثها؟

في السنوات الأخيرة تفتّحت مدارك الوعي بظاهرة نفسية تعرف بـ”متلازمة الذاكرة الكاذبة” للأوساط الطبيٌّة، حيث يصبح أفراد يخضعون للعلاج النفسي -النساء غالبًا- مقتنعين بشكل لا مجال للشك فيه أنهم تعرضوا للإساءة الجنسية أثناء طفولتهم. ففي هذه الحالات يحفّزُ اقتراحُ الطبيب بتعرض المريض للإساءة الجنسية في طفولته -أثناء الخضوع للعلاج النفسي- ذكرياتٍ على الرغم من وضوحها الشديد إلا أنها زائفةً ومن نسج الخيال. إنّ هذا الأثر الجانبيّ غير الشائعِ للعلاج النفسيّ يمزق وحدة العائلات، ويترك الأطباء في حيرة وارتباك حول الإجراء الذي يجب عليهم اتباعه في الحالات المشابهة.

كشف بحث مخبريٌّ جديد يقيس نشاط الدماغ أثناء استرجاع الذكريات عن نتائج قد تساعد العلماء في فهم الكيفية التي يُنشئ الدماغُ من خلالها ذكريات وهمية. حيث صرّح الأستاذ المشارك Kenneth Paller والمتخصص في علم النفس -في مؤسسة Neuroscience Institute وجامعة Northwestern University in Chicago-  أنّ الدماغ يحتفظ بالأحداث أو الصور الذهنية التي تمتلئ بتفاصيل بصريّة ليعرضها فيما بعد على أنها ذكريات حقيقة.

كما أعرب عن إمكانية قياس حجم التفاصيل البصريّة باستخدام اختبار لقياس نشاط الدماغ في الجزء الدماغيّ المسؤول عن الإدراك البصري. فقام Paller وزملاؤه بتركيب أقطاب كهربائية على مؤخرة رأس المشاركين بهدف قياس نشاط الدماغ، ثم طلبوا من المشاركين في الدراسة تذكر شيء رأوا صورته أثناء التجربة وشيء آخر لم يروا صورته ولكن طُلِب منهم تخيله.

إعلان

في بعض الحالات تذكر المشاركون أنهم رأوا صورة لشيء لم يعرضه الباحثون، ووجد الباحثون نشاطًا متزايدًا في الدماغ في هذه الحالات، كما وجدوا أن نشاط الدماغ تزايد بشكل أكبر عندما كان المشاركون يتذكرون صورة رأوها بالفعل.

وتشير هذه النتائج إلى أنه كلما زادت التفاصيل البصريّة المرتبطة بإحدى الصور الذهنية في الذاكرة، كلما زادت احتمالية تذكرها كأنها حقيقية حتى وإن لم تكن كذلك. حيث صرّح Paller لموقع WebMD ما يلي: “كلما كانت الصورة الذهنية مليئة بالتفاصيل البصريّة، كلما زادت احتمالية ربطها بحدث حقيقيّ”.

إلا أنّ Paller يتوخى الحذر فيما يتعلق بتعميم نتائج بحثه المخبريّ لتشمل الجدل القائم حول “متلازمة الذاكرة الكاذبة”. وعلى الرغم من ذلك، فإنّه يشير إلى أن أبحاث سابقة أسفرت عن حقيقة إمكانية تحفيز الدماغ على تذكر ذكريات زائفة. ويوفّر بحثُهُ -الذي بُنِيَ على أساس قياس نشاط الدماغ- لمحةً عن كيفية حدوث ذلك.

كما صرّح لنفس الموقع: “إننا نتعلم -في مختبراتنا- بعض الطرق التي تعمل بها الذاكرة والتي قد تؤدي إلى إنشاء ذكريات وهمية لبعض المواقف الحياتية، ولكننا لا نرغب في تعميم نتائجنا مدّعين بأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تُنشَأُ بها الذكريات الوهمية”. وأضاف: “لم نتوصل إلى طريقة لتحديد إن كانت ذكريات شخص ما حقيقة أم وهمية”.

وأشار Paller إلى أنّه على الرغم من كون وضوحِ الذكرياتِ الصفةَ الشائعةَ للأحداث والصور الذهنية الحقيقية والوهمية على حدّ سواء، إلا أنّ درجة الوضوح قد تختلف في كلتا الحالتين من شخص لآخر. حيث قال: “تكون بعض الذكريات الوهمية شديدة الوضوح، بينما تكون بعض الذكريات الحقيقة أقل وضوحًا”.

وأشارت kathleen Mcdermott  -أستاذ بحث مساعد في جامعة Washington University-  إلى أن درجة وضوح الذكريات قد تساعد في التمييز ما بين الذكريات الحقيقية والوهمية في الدماغ. حيث صرّحت ما يلي: ” في بعض الأحيان نتمكن من إيجاد اختلافات بين الذكريات الحقيقية وتلك الوهمية؛ فكمية التفاصيل في الذكريات الحقيقة أكثر من التفاصيل في الذكريات الوهمية.” ومن الجدير بالذكر أنّ Mcdermott لم تكن عضوًا في فريق بحث الدراسة آنفة الذكر.

يحاول البعض أن يحسّن من هذه الطريقة المتبعة في التمييز ما بين الذكريات الوهمية والحقيقة أملًا في ابتكار اختبار يكشف الذكريات الكاذبة، أو ابتكار طريقة ما تحدد صحّة الادعاءات المتعلقة بالتعرض للإساءة أو للصدمة أثناء الطفولة. إلّا أنّ Mcdermott أشارت إلى أن هذه الجهود لن تثمر عن نتائج إيجابية في الوقت الحاضر.

كما وأشارت إلى إمكانية التوصل إلى استراتيجية تساعد على التمييز بشكل طفيف ما بين الذكريات الحقيقة وتلك الوهمية بعد فحص العديد من الذكريات بشكل جماعي، فلا يمكن تطبيق هذه الاستراتيجية على إحدى الذكريات -بشكل فردي- لتحديد ما إذا كانت حقيقية أم وهمية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن Mcdermott تشير إلى أن هذه الدراسة تساهم في إضافة أدلّة مخبرية إلى مجموعة الأدلة -التي يتزايد حجمها شيئًا فشيئًا- والتي تثبت أن الاقتناع الراسخ لدى الفرد بحقيقة الذكريات لا يعني بالضرورة أنها حدثت على أرض الواقع. حيث صرّحت لموقع WebMD ما يلي: “إنّ أكثر الأدلّة إقناعًا في المحكمة هي وقوف الشاهد في منصة الشهود ليدلي بشهادته المتمثلة بتذكره التعرض للاعتداء في طفولته. إلّا أنّ هذا الشعور الدامغ بالتعرض للإساءة أثناء الصِغر لا يعني بالضرورة حدوث ذلك”.

ومن خلال إجراء بحثها الخاص، توصلت Mcdermott إلى أنّ الأفراد قد يتذكرون حدثاً ما على أنّه حقيقي إذا اقتنعوا بذلك عن طريق تخيله مرة تلو الأخرى.

وأشار  Daniel Schacter -رئيس قسم علم النفس في جامعة Harvard- إلى أنّ الأبحاث التي أجراها Paller توفّر لمحة أوّلية عمّا يحدث في الدماغ عندما يبتكر ذكريات وهمية.

حيث صرّح Schacter بصفته مراجعًا لبحث Paller ما يلي: “هنالك عملية خفية تحدث في الدماغ عند ابتكار الذكريات، وتؤدي بنا هذه بطريقة أو بأخرى إلى الخلط ما بين الأحداث الحقيقة وتلك الوهمية”.

ويتفق Schacter و Paller على وجود الكثير لنتعلمه في هذا المجال الغامض، بما يتضمن المناطق الدماغية المعنية بتذكر الذكريات الحقيقية وابتكار الذكريات الوهمية. حيث أشار Paller إلى ما يلي: “نرغب بمعرفة إمكانية استخدام طرائق أخرى لقياس نشاط الدماغ وتحديد المناطق التي تحدث فيها عملية تذكر الذكريات الوهمية أو الحقيقية. فالتَّوصُّل إلى إحدى هذه الطرق قد يساعدنا في معرفة المزيد حول كيفية ابتكار الدماغ للذكريات الوهمية”.

الصورة

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

إعداد: راما ياسين المقوسي

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

اترك تعليقا