الهواء الملوث هو وصمة عار عالمية
كان الصناعيّون في بريطانيا الفيكتورية يشيرون إلى شوارعِ الثّورة الصّناعيّة المليئةِ بالدّخان و الهواء الملوث على أنّها علامات الثروة والتقدم، بل وحصلَ في السّتينيّات أن اشتكى البعضُ رائحة مصنع للورقِ في ألاباما التي كانت تصلُ إلى عاصمة الولاية على بعدِ ثلاثين كيلو مترًا، عندما ردّ الحاكمُ جورج والاس: “نعم، هذه هي رائحة الرّخاء.” !
مع مرورِ الوقت تغيّرت المواقف العامّة وقد أصبحَ الهواءُ النّظيف للتّنفسِ أمرًا مُعترفًا به على نطاقٍ واسع من قبلِ الأمم المتّحدة والجهاتِ الأخرى كحقٍّ إنسانيّ عالميّ، كما أنّه أمرٌ ضروريّ للرّفاه المادي، إلّا أنّ مُحاولة التّغيير في نظرتنا إلى الهواء الملوث لا تجدي نفعًا دون القيامِ بتنظيفه، إذ لا يزال أكثرُ من أربعةِ ملايين شخص يموتون كلّ عامٍ بسبب تعرّضهم للتلوّث الخارجيّ، حيث أنّه وضعٌ غير مقبول ولا يزال حالةً مستمرّة بسبب التّحضرِ الّذي يرافقه العجز التّنظيمي.
يعيشُ تسعةٌ من أصلِ عشرة أشخاصٍ حول العالم في أماكنٍ يتجاوز فيها تلوث الهواء الخارجيّ الحدودَ التي وضعتها منظّمة ُالصّحة العالميّة لتقييمِ نسبة تلوّث الهواء، فإنّ المدن المُزدحمة في البلدانِ منخفضة ومتوسّطة الدّخل -النّقاط السّاخنة كما تسمّى- مثل الهند، نيجيريا، والصّين أكثر المناطق تضرّرًا في العالم، ولكنّه وفي بعضِ المدن الضّخمة -مكسيكو سيتي مثلًا- بدأت السّلطات تحدّد معايير أكثر نظافةً للمركبات من أجلِ الحدّ من التلوّث، غير أنّ الجسيمات الدّقيقة وثنائي أكسيد النيتروجين النّاجم عن حركة مرور المَركبات وإنتاج الطّاقة والصّناعة والتّدفئة لاتزالُ تشكّل خطرًا كبيرًا على الصّحة العامّة في معظمِ المناطق المبنيّة.
أيضًا، العديدُ من المدن الثريّة في أوروبا لا تلتزم بمعاييرِ منظّمة الصّحة العالميّة، ووفقًا لـ تقرير صدر عن المحكمة الأوروبية للتّفتيش European Court of Auditors ، تبيّن أنّ الإجراءات الّتي اتُّخذَت حتّى الآن لتحسينِ جودة الهواء لا تقوم بحمايةِ المواطنين تمامًا من التلوّث، حيثُ أنّ المدن التي زارها مفتّشو المحكمة في التّقرير -من بينها بروكسل وكراكوف وميلان وصوفيا- لم تحقّق تقدمًا كبيرًا، وبعضُها لم يحقّق تقدمًا على الإطلاق منذ عام 2009 في الحدّ من التلوّث النّاتج عن المواد الجُسيميّة، أو في خفض مستويات ثنائي أكسيد النيتروجين, وعلى الرّغم من انخفاض انبعاثات ملوّثات الهواء بشكلٍ عام، إّلا أنّ معظم الدّول الأعضاء في الاتّحاد الأوربيّ لا تلتزم تمامًا بمعايير جودةِ الهواء الصّارمة التي وضعها الاتّحاد في عام 2008.
وقد اتخذت المفوضية الأوروبية بالفعل قرارًا بإحالة العديد من الدّول الأعضاء إلى المحكمة نتيجةَ فشلها في اتّخاذ تدابير مناسبة.
إنّ المناطق مُنخفضة الانبعاثات في لندن -الجاني الإفتراضي عندما يتعلق الأمر بانتهاك قوانين الهواء النظيف!- والعديد من المُدن الأوروبيّة الأخرى تمنع تمامًا الآن السّيارات الملوّثة، أو تقوم بالحدّ من وصولها، وهذه أخبار جيّدة لبعض الأحياء في المدن الحضريّة، ولكنّها ليست سوى خطوة أولى.
يتطلّب التّعامل الفعّال مع أسبابِ وآثار تلوث الهواء نهجًا أكثرَ تنسيقًا؛ على سبيلِ المثال : يجبُ أن تؤخذ لوائحَ جودة الهواء في الاتّحاد الأوروبي في عينِ الاعتبار بشكل أكبر عند وضع السّياسات المُتعلّقة بالمَناخ والنّقل والمشروعات والتّجارة والابتكار.
كما يمكن للعلومِ أن تفعل المزيد لتخفيف المخاطر الصحيّة النّاتجة عن سوء نوعيّة الهواء، من المهم عدم التّفريق والتّمييز بين نوعٍ وآخر من أنواع التّلوث المختلفة التي تؤثّر على صحّة الإنسان.
كما تتطلّب الأبحاث الّلازمة للقيام بذلك منهجيّات أكثر اتساقًا لرصدِ التلوّث والتّعرض البشري له والإبلاغ عنه.
يمكن للعلماءِ أيضًا مساعدةَ السّلطات المَحليّة في تحسين تقييم ظروفِها الخاصّة عن طريق برامجِ نمذجة ومحاكاة، حيث يُعهد إلى منتدى النمذجة بجودة الهواء في أوروبا؛ (FAIRMODE) -وهو برنامجٌ مُشترك بين العلماء -مع مركز الأبحاث المُشترك الأوروبي والوكالة الأوروبيّة للبيئة- بإعداد نماذج لـ تلوث الهواء ويعمل على تنسيق طُرق المراقبة عبر المجموعات، ولكن مع استمرار تزايد المخاوف المتعلّقة بجودة الهواء يجب أن يتواصل المنتدى بشكل أكبر مع قادة المدن والمتخصّصين الصّحيين للتّأكد من حصولِهم على الأدوات والبيانات التي يحتاجون إليها.
وأخيرًا، يجبُ مشاركة نتائج هذا العلم البيئيّ مع البلدان في جميع أنحاءِ العالم، فالوضع سيِّئ حتّى في البلدان الغنيّة، إذ تقول منظّمة الصّحة العالميّة أن ما يقاربُ نصف سكّان المدن في الدّول المتقدّمة يتعرّضون للهواء الذي لا يناسب المعايير الصحيّة، في المدن التي يزيد عدد سكّانها عن مئة ألف شخص في العالم النّامي، وقد يرتفع هذا الرقم ليشمل الجميع تقريبًا (97%)..تمتلك الهند وحدها تسعة من أكثر عشر مدن تلوثًا في العالم.
الهواء موردٌ مشترك، لا بدّ من مشاركة الأبحاث والأدوات الّلازمة وتوحيد الجّهود لجعلِه آمنًا للتّنفس.