ما لا يدركه الناس عن برتراند راسل
مقال مترجم للفيلسوف: جوليان باجيني
هناك اثنان من برتراند راسل معروفان في الأوساط الفلسفية، فيمكننا القول بأن راسل الأول -والذي امتدت حياته القصيرة ما بين 1897 و 1913، وغادرنا منذ ما يقارب الخمسين عامًا- قد شكّل عمله الرائد في المنطق أساسًا للفلسفة التحليلية، التي هيمنت على الفلسفة الأنجلو-أميريكية خلال القرن العشرين. أما راسل الآخر، فهو المُفكر والمُناضل الأطول عمرًا، والذي ذاع صَيتُهُ في الفترة ما بين 1914 إلى 1970 بأعماله الرائجة والمتداولة بين العامة مثل: لماذا لست مسيحيًا؟ والزواج والأخلاق، وأيضًا تاريخ الفلسفة الغربية، وعرفت تلك الأعمال لدى نطاق واسع من القرّاء.
وربما قد يُفضِّل الجمهور برتراند راسل المُتأخِّر، رغم رؤية العديد من الفلاسفة لهذا التبدُّل على أنه ابتذال وخيانة لمبادئ راسل الأول. وقد تجلّت وجهة النظر تلك بوضوح في السيرة الشاملة التي ساقها راي مونك عن راسل في مجلدين. ولاقى المجلد الأول -الذي يعود لعام 1921- استحسانًا عالميًا، بينما أدان البعض المجلد الثاني باعتباره عمل هجومي وحاقد، قد أظهر مونك في صورة الحانق على راسل شخصيًا.
لقد أُعجب مونك براسل الفيلسوف المنطقي الذي “يدعم رؤاه بحُجَج قاطعة ومدروسة بدقة، ويتعامل مع معارضيه بحِنكة واحترام.” ولكن شعر باليأس نحو كتاباته الرائجة في السياسة، والتي هيمنت على الجزء الثاني والمتأخر من حياته، ففي رأي مونك “قد غابت تلك الصفات الأصيلة واستبدلت بخُطب فارغة ودوغمائية عمياء، إضافةً إلى كِبر ورفض للتعامل مع آراء معارضيه بجدية.” ففي رأي مونك، “قد فضَّل راسل التخلي عن مبحث يُعتبر من أهم ما أثراه بعمله منذ أرسطو، لأجل آخر لم يكن لمُساهماته فيه قيمة تذكر.”
لقد أضحى تقييم مونك لعمل راسل المُتأخر بمثابة عقيدة أورثوذكسية تداولها الفلاسفة النظريون واعتنقوها. ورغم صحة وجهة النظر القائلة بأن كتابات راسل في السياسة كانت في كثير من الأحيان بدائية وشديدة التبسيط، إلا أنها تعتبر بمثابة فاصل دقيق بين حقبتي الفيلسوف المبكر والمؤلف الهاوي الذي لحقه. غيَّر راسل مساره وهدفه حينما شعر بأن عمله في المنطق قد بلغ منتهاه، ورأى أن جعبته مازالت تمتلئ بالكثير ليقدمه، باعتباره مفكر بارز ومعروف. وها نحن ذا نرى التاريخ يُنصفه، فقد أثبتت أعماله المبسطة الرائجة قيمتها، بصمودها في وجه الزمن، أكثر بكثير من نظيرياته الأكاديمية.
رغم الإبداع الواضح في نموذج برتراند راسل الفلسفي المبكر، إلا أنه فشل فشلًا ذريعًا وذهب أدراج الرياح. من المعروف شراكة نورث وايتهد له في تأليف كتابه الذي جاء في ثلاثة مجلدات معروفة بـ (مبادئ الرياضيات – Principia Mathematica)، وكان هذا الكتاب بمثابة محاولة “للبرهنة على كون الرياضيات البحتة تتناول بشكل خاص المفاهيم التي يمكن تعريفها وتفسيرها بمعلومية عدد محدود وصغير جدًا من المفاهيم الأساسية، وأن جميع مُقدماتها قابلة للاستنباط أيضًا من عدد صغير جدًا من المبادئ الأساسية للمنطق.” لقد أضحى هذا الموقف معروفًا فيما بعد بالمنطقية [أو المنطقية الذرية]، وهو الرأي القائل بأن جميع الرياضيات يمكن ردها أو اختزالها إلى المنطق.
وقد تسبب نشر مبرهنات عدم الاكتمال لـ غودل عام 1931 في القضاء على النظرية المنطقية نهائيًا. وحتى مع غياب هذا التفنيد القاطع، فإن قصور الفلسفة الصارمة القائمة على المنطق قد أصبح جليًا. وكشاهدٍ على الادعاء السابق، ظل فيتجنشتاين لسنوات -وقد كان تلميذًا لراسل- يترصد الأخطاء ويسلط الضوء على عيوب عمل أستاذه في المنطق الرسمي.
لم يكن الأمر وقتها أن راسل قد آثر التخلي مبكرًا عن “الفلسفة الجادة”، ولكن كل ما في الأمر هو إدراكه لحقيقة أنه قد بحث فيها قدر المستطاع وليس باستطاعته المضي فيها لأكثر من ذلك. فخلال قيامه بتأليف مشكلات الفلسفة عام 1911 -والذي كان أول أعماله العامة- كان يُخبر حبيبته أوتولين موريل: “إن ما يمكنني إضافته إلى الفلسفة(وأعني بذلك الفلسفة النظرية) لا يتبدى لي أنه ذو أهمية كبيرة.” ربما عزز هذه النظرة الاعتراف بأن مثل هذا النوع من الأعمال قد يقرأه عدد قليل ويفهمه عدد أقل. وبحلول 1959 كتب راسل: “كنت أعرف أن ستة أشخاص فقط هم من تابعوا القراءة حتى الجزء الأخير من كتابي [مبادئ الرياضيات].”
ويمكننا القول بأن برتراند راسل قد استشف قصور الفلسفة النظرية، ببصيرة أكثر وضوحًا وحِدّة من أولئك الذين اعتقدوا أنهم يسيرون على نفس خطاه. ولا شك في أن الفلسفة التحليلية قد أنتجت الكثير من الأعمال العظيمة رغم خلط المشتغلون بها ما بين الصرامة ودقة الحجة. وأكاد أراهن على أنه لا يوجد عمل ذو أهمية في الفلسفة السياسية أو الفلسفة الأخلاقية يعتمد على استدالا منطقي رسمي. جدير بالذكر أن من يتحمل منطق راسل هو في الأصل ذو اهتمام بالمنطق. وإذا أراد راسل مناقشة مشاكل الحياة الحقيقية، فسيتحتم عليه أن يترك الرموز والأرقام -التي طالما أسرته وخلبت لبه في شبابه- وراءه ويمضي. وهذا ما حدث بالفعل.
أعقب ذلك الكثير من الأعمال العامة عالية الجودة والقيمة. وقد كان كتابه مشكلات الفلسفة بمثابة الضوء اللامع الذي لفت انتباه عدد لا يحصى من القراء لاستكشاف هذا المبحث، وهكذا فعل كتابه الآخر تاريخ الفلسفة الغربية، والذي ظل بمثابة معيار لمثله من النصوص التاريخية على مدار عقود. (تميز هذا الكتاب بالشفافية التامة منقطعة النظير لإعلان كونه مقتصرًا على الفكر الغربي).
أعتبر نفسي واحدًا من العديد من الملحدين الذين يستشهدون بكتاب لماذا لست مسيحيًا كنص تأصيلي. ربما نرى اليوم أن راسل قد عالج المعتقدات الدينية بشكل مفرط السطحية ولم يأخذ بعين الاعتبار احتمالية فهمها على نحو أفضل، إذا ما تم معالجتها كجزء من الحياة، عوضًا عن معالجتها كنظريات شبه علمية في طور الإثبات. لكنه ببساطة كان يعالج مفهوم الدين في عصره، والذي كان يهيمن عليه رجال دين بالمعنى الحرفي للكلمة، وليس علماء لاهوت ما بعد حداثيين. وعلى صعيد آخر، فقد كان إلحاد راسل أقل دوغمائية بكثير من تلك الإصدارات الأحدث للإلحاد. ففي واقع الأمر، ظل يصر على توضيح كونه (لا أدري) من الناحية العملية، فقد كان من أولئك (اللا أدريين) الذين عالجوا قضية وجود الإله المسيحي على نفس النحو من الجدة الذي انتهجوه في قضية وجود الإله الأولمبي زيوس.
وقد صمدت أيضًا كتابات برتراند راسل في أخلاق الجنس على نحو مدهش. وفي الحقيقة، فإن ما دعى وناضل لأجله راسل في يوم من الأيام، أصبح في يومنا هذا من البديهيات، كالحاجة لتوفير تثقيف جنسي حقيقي مثلًا، وأيضًا كالفكرة القائلة بأنه “من السخيف جدًا أن نطلب من الناس أن يدخلوا في علاقة أبدية من دون أدنى معرفة بمدى توافقهم الجنسي مع شركائهم.” ومما لا يخفى على أحد أن راسل قد حظي بالعديد من العشاق، ورغم ذلك، لم يكن ساعيًا وراء اللذة فقط أو ممن يعتنقون المذهب النفعي فيها. لقد اعتقد أن الأشخاص المتحضرين لا يتمكنون من الوصول لإشباع جنسي كامل دون حب.
فلنتأمل رأيه حول التنافس في النجاح كمثال آخر يوضح مدى عقلانية وفطنة فيلسوفنا برتراند راسل، فها هو يشير “بأن هناك تركيزًا كبيرًا على التنافس في النجاح، بحيث يتم تصدير هذه التنافسية كمنبع رئيسي للسعادة، وأنه بمجرد ما يتم إيقاظ تلك العادة التنافسية للعقل فبذلك تبدأ باجتياح مساحات لا تتسع لها.”
وتوفي راسل وتصدرت ملاحظاته صفحات الوفيات، حيث اقتبس العديد من محرري تلك الصفحات عنه: “لقد حكمت حياتي ثلاث مشاعر، بسيطة ولكن قوية: التوق إلى الحب، والبحث عن المعرفة، والشفقة الغير محتملة لمعاناة البشر.” وقد أشارت صحيفة النيويورك تايمز أن توقه إلى الحب قد تم إشباعه فقط في الثمانين من عمره، فقد قرت عينه بزواجه الرابع من السيدة إيديث، أما شفقته لمعاناة البشرية فقد ظلت غير محتملة، ولم يتثنَ لفيلسوفنا إدراك القدر الذي تمناه من المعرفة، فقد أقر بنفسه ذلك حين قال: “لقد أدركت القليل منها، ولكن، ليس بالكثير.”
وفي النهاية، إذا ما نظرنا إلى بلوغ الأهداف وتحقيق الطموحات كعلامة على النجاح والإنجاز، فـيمكننا النظر لمسيرة برتراند راسل في الحياة كمثال لفشل ذريع. ولكن إذا كان الإنجاز الحقيقي يعني العيش متسقًا مع قيمك وشغفك في الحياة، فحينها يمكننا الجزم بأن راسل قد حقق نجاحًا عظيمًا.
نرشح لك: السعادة الراسلية- قراءة في كتاب غزو السعادة لراسل