عبقريّة ماكس بلانك.. رغمًا عن كلِّ الظروف!
تُسلِّط هذه المقالة الضوء على أكبر عقليّة حرّة وشجاعة “ماكس بلانك” في زمن صعب لم يُبقِ لهذه الشخصيّة أيّ أحد من عائلته.
ماكس بلانك في سطور:
مؤسِّس نظرية الكم، وأحد أهم فيزيائيِيّ القرن العشرين ماكس بلانك، كان قد نصحه أحد أساتذته البروفيسور فيليب فون جولي أن يتوجّه لدراسة غير دراسة الفيزياء بحجّة أنّ هذا العلم يكاد أن تكون كلّ فروعه قد وصلت إلى آخر ما قد تصل إليه من التطوّرـ وكان هذا هو الاعتقاد المنتشر آنذاك ـ لكنّه ردّ بأنّه لا ينوي اكتشاف عالم جديد، وإنّما يريد أن يفهم أو أن يتعمّق في فهم أُسس الفيزياء.
دراستهُ:
بدأ ماكس بلانك دراسة الفيزياء بعمر 16 سنة عام 1874، وعند البروفيسور “يولي” تعلّم بلانك الجزء التطبيقي الوحيد في كامل دراسته ثم انشغل بالفيزياء النظريّة. دَرَس في جامعات برلين وميونيخ، وبين عاميّ 1877 و1878 انتقل بلانك إلى برلين وتعلّم لدى فيزيائيّين من الطراز الرفيع مثل: هيرمان فون هيلمهولتس (طبيب وعالم فيزيائي ورياضيّ ألمانيّ) وجوستاف كيرشهوف (فيزيائيّ ألمانيّ كان له دور كبير في فهم عمل الدوائر الكهربية)، والرياضي كارل فايرشتراس. كان ماكس بلانك يضجر أثناء المحاضرات، لكن علاقته مع البروفيسور هيلمهولتس تحديدًا كانت أشبه بالصداقة. وحصل على الدكتوراه في الفيزياء مع مرتبة الشرف الأولى من جامعة ميونيخ عام 1879 وكان عمره 21 عام، وصار مدرسًا لمُقرَّر الترموديناميك. ثم انتقل إلى جامعة كيل، حيث عمل بعض الوقت بالتحليل الكهربائي.
عاد بلانك إلى برلين ليُدرِّس في جامعتها وليصبح عام 1894 عضوًا في أكاديميّة علوم في روسيا، ثمّ أمينًا لها حتّى عام 1912 في علم الحرارة. درَس بنفسه كتابات العالم رودولف كلاوزيوس (عالم فيزيائيّ ألمانيّ) وأحبَّ هذا الفرع حتى انشغل به وقدّم رسالات دراساته العليا في هذه المواضيع: (بخصوص القانون الثاني من النظريات الحراريّة الميكانيكيّة) ثمّ (أحوال التوازن للأجسام المتناسقة عند درجات الحرارة المختلفة). أول إنجاز قام به بلانك هو اكتشاف المعادلة الجبريّة المعقّدة التي تُسجل حركة الإشعاع الصادر عن الجسم الأسود. وهذه النظرية التي اكتشفها والتي لا تزال تُستخدم في الفيزياء النظريّة حتى اليوم تُلخِّص ما انتهى إليه علماء الفيزياء في تجاربهم المعمليّة.
إنجازاته واكتشافاته:
في ديسمبر سنة 1900 استطاع ماكس بلانك أن يَهز الأوساط العلميّة كلّها حيث خرج بلانك بنظريّة جديدة تمامًا وهي أنّ الطاقة المشعّة من الذرات تنبعث على شكل كمات أُطلق عليها اسم الكم. ووفقًا لهذه النظرية فإنّ طاقة الشعاع تعتمد على طول الموجة والتّردّد (أي تختلف باختلاف اللّون مثلًا). وأصبحت نظريّة الكم تُسمى فيما بعد بنظريّة بلانك. كما اكتشف ثابتًا طبيعيًّا من أهم الثوابت الفيزيائيّة وهو ثابت بلانك. وهي نظريّة مختلفة تمامًا عن كل النظريات السائدة في مطلع القرن العشرين، حيث تُبيِّن أنَّ الطّاقة تنتقل في هيئة كمات صغيرة وليس في الوجود كمات أصغر منها. و استطاع بلانك بعد ذلك أن يعرف بالضّبط مقدار الطّاقة التي يشعها الجسم كامل السّواد. أيّدت نظريته بعد ذلك العديد من الظواهر الطبيعيّة الأخرى مثل تأثير كهرضوئي ونفق ميكانيكا الكم، وتحلّل ألفا والتوصيل الفائق وتركيب الذرّة وغيرها.
بلانك وصراع العلماء:
اعتقد العلماء في بادئ الأمر أنّ ما اهتدى إليه بلانك ليس إلّا أسطورة رياضيّة، ولكن بعد وقت قصير ثبت علميًّا أنّ نظرية الكم هذه يُمكن استخدامها في علوم أخرى حيث استعان اينشتاين في سنة 1905 بها لشرح الظاهرة الكهروضوئية واستعان بها نيلز بور في سنة 1913 في تفسير الطيف الخطيّ لذرّة الهيدروجين وفي سنة 1918 عندما فاز ماكس بلانك بجائزة نوبل، كان قد ثبت تمامًا أنّ نظريته صحيحة 100% وأنّها ذات أهمية بالغة لعلوم الفيزياء النظريّة.
:حياتهُ الشخصيّة
أمّا عن حياة ماكس بلانك الشخصيّة فقد كانت عبارة عن مأساة حقيقيّة. فقد توفيت زوجته الأولى عام 1909، وتوفي ابنه البكر كارل عام 1916 في الحرب العالميّة الأولى، وماتت إحدى بناته بعد مولدها بفترة قصيرة، ولحقت بها شقيقتها التوأم بعام. كما عانى بلانك من السّلطة النازيّة التي لم يُقسم الولاء لها، فقام النازيّون بتنفيذ حكم الإعدام بابنه بارون الذي كان آخر من تبقّى له من أطفاله، وذلك عام 1944.
جوائزه وتكريماته:
حصل بلانك على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1918، ثمّ تمت تسمية ثابت تردد طاقة الإشعاع “h” باسمه، فضلاً عن ثوابت فيزيائيّة أخرى مثل زمن بلانك وهو أقصر زمن يمكن الوصول إليه نظريًّا، وطول بلانك وهو أصغر بُعد فيزيائيّ يمكن الوصول إليه. وتمّت تسمية أكاديميّة القيصر ويلهيلم للعلوم باسمه وأصبحت تعرف بـ “معهد ماكس بلانك Max Planck Institute” وسمّي أعظم وسام علميّ في ألمانيا باسم ميدالية ماكس بلانك.
يقول ماكس بلانك:
الحقيقة العلميّة الجديدة لا تنتصر بإِقناع معارضيها وجعلهم يُبصرون النّور، وإنّما تنتصر لأنّ معارضيها يمُوتون في النهاية وينشأ جيل جديد قد تعود عليه.
وختامًا وتحديدًا في الصورة المرفقة في بداية المقال، فتُظهِرُ هذه الأخيرة من جهة بداية شبابه. أما في الجهة الأخرى فتُظهره وهو في خضمِّ الدراسة والبحث وما تعرّض له من مصائب. وما أريد قوله هنا أنّ هذا التحوَّل في الهيأة لبلانك نتج عنه مجالٌ جديد في الفيزياء.