لستَ تقرأه بشكلٍ صحيح: خمس أفكار ستغيّر نظرتك إلى النص الأدبي

هل سبق لك أن أنهيتَ قراءةَ كتابٍ -كلاسيكيّ، أو من قائمة الأكثر مبيعًا، أو عملٍ يثني عليه الجميع- ثم انتابك شعور غامض بخيبة الأمل؟ ليس لأنّ الكتاب كان سيئًا بل لأنه داخلك شكّ في أنّه قد فاتكَ شيءٌ مهم. لقد تتّبعتَ الأحداث، واستوعبت رسم الشخصيات، ولكن ذلك الدرس الأخلاقي العميق في الكتاب والذي من المُفترض أن يغيّر حياتك، يبدو بعيدًا عن متناول فهمك. هذا الضغطُ لامتلاك بصيرةٍ عميقةٍ ومتماسكةٍ قد يُحَوِّل متعةَ القراءة إلى أداءٍ مسرحي.

يمكن القول أنّ هذا الإحساس شائع، حتى بين أذكى القرّاء. لقد تم تعليمنا أن نقرأ من أجل استخلاص الرسالة والدرس المستفاد، وأن نلخّص الفكرة الرئيسية في إيجاز، وأن نعثر على المعنى الخفي للمؤلف كما لو كان مفتاحًا مخبّأً تحت ممسحةِ الباب. ولكن، ماذا لو أن هذا النهج برمته خاطئٌ؟ ماذا لو أن ألمع مفكّري النقد الأدبي في العالم -أولئك الذين يكرّسون حياتَهم لفنِّ القراءة- لا يقرأون بهذه الطريقة إطلاقًا؟

الحقيقةُ أنَّ نصائحَهم غالبًا ما تكون مفاجِئةً، ومخالِفةً للحدس، ومتحرِّرةً على نحوٍ فريد. إنَّهم يَقترحونَ طريقةً للتعامل مع الكتبِ أكثرَ فاعليةً، وأكثر تحديًا، وأجزلَ عطاءً في النهاية. هذهِ ليستْ نظرياتٍ أكاديميةً مبهمة ومعقدة، إنما هي أدواتٌ فَعَّالةٌ يمكنُها أنْ تحوِّلَ القارئ من مُستهلِكٍ سلبيٍّ إلى مُشارِكٍ فعّال في حوارٍ إنسانيٍّ رفيعٍ.

توقف عن محاولة فهم الكتاب وخُضْ حوارا معه بدلاً من ذلك

إنّ النظرة التقليدية للقراءة نظرةٌ سلبية ومهذبة. فنحن تلاميذ، والكتابُ هو المُعلِّم. ومهمتنا هي أن نجلسَ في صمتٍ نستوعب الحكمة التي يمنحنا إياها. لكن الناقد الأدبي الأمريكي هارولد بلوم يدعو إلى العكس تمامًا؛ فهو يتبنَّى مفهوم “القراءة التنافسية”، وهي مقاربةٌ لا تعتبر القراءة تَلَقّيًا سلبيًا بل صراعًا ديناميكيًا أو قتالًا على المعنى. القارئ الفاعل لا يَقبلُ أفكارَ الكتاب كما هي فحسب؛ بل يتصارع معها، ويُحاججها، بل ويُجادلها أيضًا.

ويمتدُّ هذا المفهومُ أبعدَ من ذلك عبر مصطلح “القراءة الخلاقة المُغايرة”. يبدو الأمر أشبه بطاهٍ بارع يُعيدُ تفسيرَ وصفةٍ تقليدية؛ فهو لا يتبع التعليمات بحذافيرها فحسب، بل يقرأها قراءةً مبتَكَرة وإبداعية، مضيفًا مكوّناته الفريدة ليخلق طبقًا جديدًا يُضفي الأصالة وفي الوقت نفسه يصبح شيئاً مستقلاً بذاته. الهدف إذن ليس أن تكون خادماً أمينًا للنص، بل أن تكون قويًا بما يكفي لتجعلَه يخدمُ سعيَكَ نحو البصيرة والفهم.

إعلان

هذا التفويض بالاشتباكِ مع النص ليس تفويضًا للفوضى، بل يتطلّب في الحقيقة نوعًا جديدًا من الانضباط، انضباطًا يركّز أقل على الرسالةِ المفترَضة للمؤلف، ويركّز أكثر على الشيءِ الملموسِ الذي بين أيدينا. هذا التحوّل في المنظور يحرّرنا بدرجة لا تُصدق، فهو يحوّلنا من طلبةٍ نؤدّي امتحانًا إلى منافسين نُبارز في حلبةٍ فكرية؛ حيث يصبح تفسيرنا الشخصيُّ المكتسبُ بشقِّ الأنفس هو الجائزة المُرتجاة. القراءة الجيدة ليست عمليةً هادئةً أو سلبية، إنما هي كفاحٌ، وقتالُ معنىً ضدَّ معنى، بما يفسح المجال أمام حريةِ التأويل.

الكتاب ليس رسالة إنّه آلةٌ تحتاج إلى مساعد

إذا كانت الطاقةُ التي نضخها في الكتاب هي صراعٌ، فما هي المنهجية التي نطبقها في هذا الصراع؟ يقترحُ الفيلسوفُ والروائيُّ الإيطالي أمبرتو إيكو نظامًا ثلاثيَّ الأركان للقراءة يجمع بين الحرّيةِ والصرامة. الخطوة الأولى هي تغيير تصوُّرنا لماهية الكتاب. كثيرًا ما نطرحُ سؤالَ: “ما هي رسالة هذا الكتاب؟” كما لو أن النص الأدبي بطاقةُ تهنئةٍ. يرى إيكو أن النص “آلة كسولة” صُمِّمت عمدًا لتكون غير مكتملة؛ فهي مليئة بالفجوات والغموض وتتطلب من القارئ أن يقوم بجزء من عملها لكي تشتغل.

هذا يعيدُ تشكيلَ السؤالَ المحوري للقراءة. فبدلاً من أن نسألَ: «ماذا يعني هذا الكتاب؟»، يسألُ الناقدُ: «كيف يُفهم هذا الكتاب؟». أنت هنا لست مجرد راكبٍ يتبع المسار، بل ميكانيكيٌّ يرفع غطاءَ المحرِّك، ويتتبّع الأسلاكَ، ويراقب كيف يُولّدُ المحرك طاقته. فالكتاب هو منظومة لخلق الأفكار والمشاعر، ومهمتك هي أن تكتشف كيف يعمل المحرك.

إنّ النظرَ إلى النصِّ باعتباره آلةً يخفِّفُ على الفور من ضغطِ التأويل. أنت لم تعُدْ محققاً يحاولُ حلَّ لغزٍ، أو عرّافاً يحاول تخمين أفكار المؤلف وسبر أغواره، إنما أنتَ مهندسٌ أو مساعد طيار، تتعاملُ مع الآلة، وترى كيف تعمل أجزاؤها معاً، وترصدُ ما تنتجه عندما تساعدها على العمل.

للنص أجندته الخاصة (ليست أجندة المؤلف)

بعد أن نفهم كيفية قراءة الكتاب، ينبثقُ سؤالٌ آخرُ منطقيًّا: “ولكن من يضع القواعد التي يعمل بها الكتاب؟” فإذا لم تكن المسألة مجرد رسالة مبطنة يقصدها المؤلف، ولم يكن بمقدورنا أن نُحمّلَ النصَّ أيَّ معنى نشاء، فأين إذن تكمنُ السلطة؟ هذا هو الجزء الثاني من نظام إيكو: اتبع دليل تشغيل الآلة الخاص بها. يضع إيكو تمييزًا واضحاً بين “قصدية المؤلف” و”قصدية القارئ” و”قصدية النص”. أما بالنسبة للناقد الأدبي، فإن قصدية النص هي الأهم.

يفترض إيكو أنّ النصَّ ذاته يوفر قواعد تأويله وتفسيره. فالتأويل الصائبُ ليس نزوةً شخصيّةً؛ بل هو فرضية قابلة للاختبار مقابل الأدلة التي يقدّمها النص. وإنّ أيَّ نظريةٍ نتبناها حول جزء من النصّ لا بدَّ أن تدعمها أدلة من الأجزاء الأخرى للنص. إن النصّ -بوصفه كيانًا متماسكًا -هو الذي يؤيّدُ أفكارنا أو يدحضها.

تقدًم هذه الفكرة أرضية مشتركة وحيوية بين طرفي نقيض: فكرة المؤلف الإله من جهة، وفكرة أنّ كل شيء مباح في التفسير من جهة أخرى. هذه الفكرة تجعل من القراءةِ حواراً تعاونيًا مع النصِ ذاته أكثر من كونها إرشادًا توجيهيًا يمارسه المؤلف. لنا الحرية في استكشافِ المعنى، لكن في الوقت ذاته يتوجّب علينا احترام المنطق الداخلي للنص وبنيته الموضوعية.

ولكي نثبت الفرضية التي تتعلق بـ”قصدية النص- intentio operis»، لا بدّ من اختبارها بالنص بوصفه كياناً متماسكًا، إذ إنَ الاتّساق الداخلي للنصّ هو الذي يضبط اندفاعات القارئ الجامحة التي لا يمكن كبحها بطريقة أخرى.

رأيك المتسرّع ليس كافيًا – النقد العظيم علمٌ قائم بذاته

بمجرد أن نعترف بضرورةِ اتباع القواعد الداخلية للنص، نصل إلى الجزء الثالث والأخير من إطار إيكو الفكري: وهو مشاركة ما نتوصّل إليه على نحوٍ قابلٍ للتحقّق، وبما يسهم في بناء المعرفة. في عصر ردود الفعل الفورية، من السهل الاعتقاد أنً التحليل الأدبي مجرّدُ ساحةٍ مفتوحةٍ للجميع. غير أنّ إيكو يَذود عن الأخلاقيّات العلمية؛ والعلمية هنا لا تعني الجمود الفكري غير الإنساني، بل تعني اعتماد منهج قوامه الدقة والصرامة لتحويل الرأي الشخصي إلى إسهامٍ راسخٍ يمكن البناءُ عليه.

يرتكز هذا المنهج على ركنين أساسيين: أوّلًا، أن تُقدّم أدلّةً قابلةً للتحقّق من النصّ ذاته تدعمُ حجّتَك. ثانيًا، إنّ التفسيرَ الرصين لا يكتفي بذكر الواضح والبديهي، وإنما يسعى إلى طرح أفكارٍ لم تُقَلْ بعدُ عن النصّ، أو يعيد النظر في ما قيل سابقًا من منظورٍ مغاير.

هذه الصرامة هي التي تمنحه قوّتَه وقيمتَه، محوّلةً إياه إلى شيء يمكن للآخرين البناء عليه. هذا هو الفارق بين تدوين مذكرات شخصية وبين اكتشافٍ يُغيّر طريقة تفكيرنا.

يُعاد تشكيل عقلك لتقرأ بشكلٍ سيئ

لا يمكن إتقان المهارات الأربع السابقة -أي الاشتباك مع النص، وتحليله بوصفه آلة، واحترام بنيته الداخلية، وخوض جدالٍ دقيق -دون مواجهة العقبة الكبرى في حياتنا المعاصرة التي تستنزف قدرتنا على الانتباه. بحسب رؤية الفيلسوف الكوري-الألماني بيونغ تشول هان، فإن بيئتنا الرقمية تعمل على تكييفنا بشكل فعّال ضد نمط التفكير الذي تتطلبه القراءة العميقة. يقدم تشول هان تمييزًا قاطعًا بين نمطين من الانتباه: الأولُ هو “فرط الانتباه”، وهي الحالة التي تعززها وسائل التواصل الاجتماعي: إنه انتباه واسعٌ وسَطْحِيّ، ولديه تسامحٌ ضئيلٌ جدًّا مع الملل. والثاني هو “الانتباه التأمّلي العميق” الضروري بلا منازع للتفاعل مع الأعمال الفنية المعقّدة. هذا النمط من التفكير بطيء وشمولي ومتكيّف مع الغموض. إذ يرى هان أنّ القراءة الجيِّدة تقتضي مضادًّا واعيًا ضد حالة التشتت السائدة: وهو “التأمّل المتأني”. علينا أن نقاوم بوعي الدافع نحو التحفيز المستمر، وأن نستعيد فن التمهل الذي يتيح لتعقيدات النص أن تُفَكَّ مع مرور الزمن. لا يتعلّق الأمر بتقدير الكتب القديمة المغبرة؛ بل هو مسألة بقاءٍ فكري. إنها استعادةٌ دقيقةٌ للوعي الذي تعمل بيئتنا التكنولوجية على تقويضه بشكلٍ ممنهج. في هذا السياق، تصبح القراءة فعل مقاومةٍ صامت.

فكرةٌ أخيرة

إنّ تعلمَ كيفَ تفكِّر كناقدٍ أدبيٍّ لا يعني أن تصبح متسرّعًا في إصدار الأحكام، بل أن تتطوّر كقارئ. إنها رحلة تُستهل بالاشتباك مع النص، وتمنحك الأدوات لتحليله بوصفه آلة، وتعلّمك اتباعَ قواعدِ أجندته الخاصّة، وتتطلب منك الصرامة لتحويلِ الانطباعِ الشخصي إلى إسهامٍ علميٍّ رصين. كلُّ خطوةٍ تبني على سابقتها، فتتحوّل القراءةُ من استهلاكٍ سلبيٍّ إلى فعلٍ تفاعليٍ خلاق. غير أنّ هذه العملية برمتها تعتمد على الحفاظ على المصدر الوحيد الذي تحاول حياتنا المعاصرة بإصرار انتزاعه منا: وهو الانتباه التأمّلي غيرُ المتجزِّئ.

ففي المرة القادمة التي تفتح فيها كتابًا، ماذا لو أنك لم ترَ فيه مجرد قصةٍ تُستهلك، بل محرِّكًا ينتظر مهندسَهُ؟ فعندها ماذا ستبني؟

إعلان

اترك تعليقا