كيف تعامل فيتجنشتاين وغيره من المفكرين مع عقد من الأزمة (مترجم)
كتب الفيلسوف مارتن هايديجر في خريف عام 1922. إذ كانت ألمانيا تتلوى من نقص حاد في المواد الغذائية، وارتفاع هائل في معدلات التضخم، رسالة إلى زوجته حول الخطوات المعقدة المطلوبة لتأمين الاحتياجات الأساسية، فيكتب مفسراً: “أرسلت أمي متساءلة ما إذا كان عليهم ارسال البطاطس قبل حلول الأول من أكتوبر، فأجبتها بنعم، وأرسلت لها النقود اللازمة. فماذا عساني فاعل بالبطاطس عندما تصل؟”
وفي زمن الأزمة، كثيراً ما تصبح التهديدات التي يستشعرها المرء مباشرة. تهدد وجوده، بشكل يجعل الغالبية من الناس منشغلين بأمور البقاء على قيد الحياة. وعلى الرغم من أن هايديجر كان قلقاً بشأن البطاطس، إلى أنه كان مؤمناً أيضاً أن الأزمة إنما تمثل استراحة جذرية من المسببات التي نجمت عنها، فهي لحظة من لحظات الانفتاح الصادر، وفرصة لإعادة التفكير في كل شيء من جديد.
ويكتب وولفرام ايلنبرجر في كتابه “في زمن السحرة“، وهو تصوير نابض بالحياة لمجموعة من أربعة فلاسفة خلال عقد مضطرب من الزمان، أن هايديجر كان مرحباً بالخطر والمعاناة، باعتبارهما ظرف اجتماعي يجبر الناس على مواجهة احساسهم بفنائهم – أو على أقل تقدير، كانت هذه هي الفكرة. وكانت زوجته تسعى إلى ضمان عدم تطفل متطلبات الواقع كثيراً على عمله، لذا عملت على التخطيط لانشاء كوخ في الغابة السوداء، وأشرفت على بنائه ومولته من ميراثها الخاص، حيث تمكن مارتن من الحياة مثل فلاح عفي، يتنفس هواء الجبال، ويمضي أيامه جالساً على المشغولات الخشبية، قبل أن يتأمل في وجود ترسخت أسسه في اللا أساس.
وأخيراً، حصل هايديجر على ما أطلق عليه ايلنبرجر “كوخ خاص به“، ولعل غياب الاحترام هنا يبدو مضحكاً، لكنه يتجاوز كونه مجرد دعابة. ففي كتاب “في زمن السحرة”، فإن كل شيء – من أفكار، وسرد، وصياغة (وإن كان كتاب مترجم من الألمانية إلى لغة إنجليزية سلسة) – قد تم انصهاره في كلٍ رنان يسهل قراءته.
ويستهل كتاب ايلنبرجر عام 1919، وتنتهي أحداثه عام 1929، حيث يتتبع بأناقة حياة الشخصيات الأربعة وأعمالهم، والتي غيرت مجرى الفلسفة، بأشكال كانت متفاوتة، بل وأحيانا على خلاف. فهايديجر الذي خدم في الجيش عالماً للأرصاد خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نجح في أن يتفادى الاشتباك الفعلي، أمضى هذا العقد في الانغماس في تأملات حول الهاوية، بينما كان يعمل على تهذيب حياته العلمية في مجال الفلسفة، حيث قام بنشر كتاب “الكينونة والزمن” عام 1927. أما والتر بنجامين، فأضاع الكثير من فرصه المبكرة لتأمين وضعه الأكاديمي، واتجه نحو الصحافة والنقد، وإذ كان دائماً عبقرياً حسوداً، فقد سعى لاطلاق مجلة تتخذ لنفسها مهمة أساسية في “القضاء على هايديجر”. (وكما الحال مع الكثير من مشاريع بنجامين، انتهى هذا المشروع أيضاً دون نجاح). أما لودفيج فيتجنشتاين، والذي كان وريثاً لأحد أكثر عائلات أوروبا ثراءً، كان قد كتب ما أصبح فيما بعد “رسالة في المنطق والفلسفة” Tractatus Logico-Philosophicus، بينما كان أسير حرب في إيطاليا، حيث لجأ للمنطق البحت للوصول إلى حدود اللغة، ومن ثم تخلى نهائياً عن ثروته، ليصبح مدرساً بمدرسة ابتدائية في الريف النمساوي لعدة سنوات.
أما ارنست كاسيرير، والذي كان أكثرهم استقراراً واقلهم غرابة في الأطوار، فقد ذاع صيته عن قدرته الرائعة في الشرح الواضح البسيط وسعة أفقه الهائلة، وليس عن شخصية ساحرة أو جريئة. ويكتب أيلنبرجر قائلاً: “كانت سمة كاسيرير الراديكالية الحقة الوحيدة رغبته في التوازن”. وكان كاسيرير ذو الشعر الأبيض في عيون شباب منتقديه تشخيصاً للمؤسسة، بل أن احدى الصور الفوتوغرافية في الكتاب تصوره مرتدياً ياقة مكشكشة.
إلا أن كاسيرير كان يستجيب لذات الأزمة التي اشعلت فضول الثلاثة الآخرين من سحرة ايلنبرجر – ألا وهو حس بأن الطرق القديمة لممارسة الفلسفة كانت قد فشلت في مواكبة الواقع المعاش. فمنهج كانت الغالب كان قد ولد من رحم عصر نيوتن وفيزيائه، والتي حل محلها نظرية اينشتاين النسبية عام 1905. وكان فرويد قد قلب أي افتراض بشفافية الوعي الإنساني رأساً على عقب. كما أن احد معتقدات عصر التنوير القائمة قضى عليها المجازر الآلية للحرب العالمية الأولى. فيستشهد أيلنبرجر بفيلسوف ألماني آخر، هو ماكس شيلير، والذي قال:
“إن عصرنا هو أول عصر يصبح فيه الإنسان بشكل كامل ومتكامل معضلة أمام نفسه، فلم يعد يدرك ماهيته، لكنه في ذات الوقت يدرك أنه لا يدرك أي شيء.”
وكانت اللغة متورطة في هذه المحنة، وجاءت استجابات الشخصيات في هذا الكتاب متباينة، بل وفي حالات كثيرة غريبة. فيصر هايديجر أن مفردات “التواجد” Dasein و”الوجود باتجاه الموت” Sein-zum-Tode، إنما ألفاظ مستحدثة لم تتلوث بطرق التفكير القديمة. أما فيتجنشتاين فيميز بين الفرضيات ذات المغزى، وتلك التي تكتفي بأن تبدو ذات مغزى، حيث ينهي رسالته في المنطق والفلسفة بذلك القول المأثور: “ما لا يملك المرء الحديث عنه، فليصمت عنه”. أما بنجامين المبتهج والفوضوي، فرأى أن “الافراط في المسميات” يؤدي إلى الكآبة، وأن اللغة من ثم تتناسب بشكل أفضل مع “الكشف عن الكينونة”.
أما فهم كاسيرير للغة فكان رحباً، فلم يتضمن فقط اللغة الألمانية والإنجليزية، بل أيضاً الأساطير والدين والتكنولوجيا والفن. فمختلف اللغات تطرح طرقاً مخلتفة لرؤية العالم، فبدا أن نظرته التعددية وفرت له صمام هروب. وكتب كاسيرير لزوجته قائلاً: “إنني قادر على التعبير عن أي شيء أريده دون صعوبة.”
وباعتباره أكثر الشخصيات تبلداً للاحساس في كتاب أيلنبرجر، نجد أن كاسيرير أيضاً أكثرهم غموضاً. فعند مقارنته بمغامرات الآخرين الجنسية (بنجامين وهايديجر) أو معاناتهم الجنسية (فيتجنشتاين)، فإن حياة كاسيرير الغرامية كانت هادئة مسالمة، بما أدى بايلنبرجر إلى القول أن زيجة كاسيرير البرجوازية “قد اكتسبت هامشاً سياسياً واضحاً، رفضاً للمغامرات المرتبكة، أو الثورات، أو الحروب الأهلية”. ولعل كاسرير هو الوحيد من الشخصيات الأربعة الذي تحدث علناً عن جمهورية وايمار المحاصرة. كما أنه كان الديمقراطي الوحيد.
وفي عام 1929، عمل جدال بين كاسيرير وهايديجر، في أحضان القمم البيضاء لجبال دافوس، على وضع الأمور في نصابها: أن ترفض ذلك القلق الخاص الذي يصرف انتباهك، طبقاً لكاسيرير، وأن تتبنى التحرر الذي تقدمه لك الثقافة. أو أن ترفض، طبقاً لهايديجر، الثقافة التي تصرف انتباهك، وأن تتبنى التحرر الذي يقدمه لك قلقك. أما الواقع بالنسبة للحضور فكان أكثر دنيوية، فصور أحد الصحفيين الجو المتفاخر حيث كان الجمهور “يستمتع بمشهد لشخص لطيف للغاية وآخر عنيف للغاية، يبذل قصارى جهده ليبدو لطيفاً، ويقدمان مونولوجاتهما.”
إن ايلنبرجر قاص ماهر، يكشف لنا تفاصيل حيوية توضح كيف أن فلسفة هؤلاء الرجال لم تكن نتاجاً قاحلاً لتكهنات مجردة، وإنما ارتبطت ارتباطاً حيوياً بطباعهم وخبراتهم. إلا أنه يوضح أيضاً أنه بينما كانوا يتصارعون مع أسئلة فلسفية حول الحياة والموت، فإن الأزمة الكبرى لم تكن قد وقعت بعد.
بحلول شهر مايو 1933، يصبح هايديجر عضواً في الحزب النازي، وكاسيرير، وهو من اليهود المندمجين، سيترك ألمانيا نهائياً، ليستقر فيما بعد في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن أدب كاسيرير الذي لا يتزعزع، أنه ظل مدافعاً جسوراً عن مُثُل وايمر الديمقراطية، وإن أدى به أدبه إلى الاستمرار في رباطة جأشه وتفاؤله إلى أن كاد أن يفوته الأوان.
وكتب كاسيرير لاحقاً، قبل وفاته عام 1945 قائلاً: “عندما سمعنا أول مرة عن الأساطير السياسية، وجدناها سخيفة ومتناقضة، بل وخيالية ومضحكة، بقدر جعلنا غير قادرين على أخذها مأخذ الجد. أما الآن، فاتضح لنا جلياً أن هذا كان خطأً كبيراً.”