كورونا: شبحٌ يخيّم بظلالهِ على العالم برمّتهِ
عرف العالم مؤخرًا فيروس كورونا (كوفيد 19)، والذي تسبب بحالةٍ من الذعرِ والهلعِ والفوضى لدى مختلف الشعوب. أدّى هذا الفيروس إلى اضطِّراب في الحياة اليوميّة لملايين الأشخاص، كما أسهمَ، أيضًا، في تراجع مؤشراتِ الاقتصاد العالميّ، ووقفِ حركة التنقُّل المحليّة والعالميّة. علاوة على ذلك، تم ّإلغاء عشرات من الفعاليات السياسيّة والثقافيّة والرياضيّة. وعلى الرغم مما تفعله الدول من إجراءاتٍ وقائيّة للحد من انتشاره، إلّا أنّها لم تنجح إلى غاية الآن في إيقافِ تفشِّي هذا الفيروس الذي يعتبرهُ المراقبون والمنظِّرون أنّه أخطر أزمةٍ وبائيّةٍ عالميّة في الألفيّة الثالثة.
إذ أن هذه الأزمة أربكت العالم، وجعَلت أغلب المنظمات الدوليّة والعالميّة تنقلب رأسًا على عقب. إضافة إلى ما عرَّاهُ هذا الوباء من مشاكلَ وأزماتٍ اقتصاديِّة وثقافيِّة تتخبط بها دولُ العالم؛ إذ رفع الستار عمَّا يُسمى بالاتحاد الأُوروبيّ، وما تبجّلَت به الأبواق السياسيّة من قيم المواطنة والتعاون الدولي.
ويبدو أنّ الوضع أصبح أكثر خُطورة على الساحة الدوليّة والمحلية، فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية خطورة هذا الفيروس الذي سوف يغزو العالم ويخلِّف إصاباتٍ ووفيّات، فجميع الحكومات استجابت لنداء المنظمة وفرضت حالاتٍ استثنائيّة، تمثّلت في الحجر الصحي، وإغلاق جميع المؤسسات التعليميّة، ورفع شعاراتٍ من مثل:
ابقَ بالمنزل، لِتنقذ نفسك وعائلتك.
كُلّ هذه الإجراءات غير المسبوقة خلقت نوعًا من الخوف والقلق في نفوسِ الأفراد والمواطنين -صغارًا وكِبارًا- الخوف من هذا الوباء، والخوف من الموت، والخوف من قلة وفرة المواد الاستهلاكية.
أثارهذا الجانب النفسي انتباهي في هذه الجائحة؛ إذ المُلاحَظ أنَّ حِدّة الخوف والقلق تتزايد مع ازدياد وتيرة الحالات التي تم تسجيل إصابتها بالفيروس. عِلمًا بأنَّ كبار الأطباء النفسيّين يدعون إلى ضرورة التعامل مع هذه الأزمة بنوع من الأريحيّة ودون الشعور بالتوتر والقلق ويمكِنُ تحقيق ذلكَ بالعمل على تحفيز النفس وطرد الملل من خلال القيام بمجموعة من الأنشطة كالقراءة، والرياضة، وسماع الموسيقى وممارسة الرسم.
وحين سمعت هذه النصائح، عقدت مع نفسي لحظة تأمل بالرجوع إلى التاريخ- الماضي البشري- والعمل على كشف كيف تغلبت البشرية على الأزمات والأوبئة، ومواجهة حتمية الموت والخوف.
وكذلك قمت بطرح مجموعة من التساؤلات حول واقع العالَم والإنسان والحياة والموت. وكان جوهر كل تلك الأسئلة الكبرى فكرتيّ الموت والخوف من ‘الثيمات’ الكبرى، التي كانت لشغل الشاغل للإنسان عبر رحلته التاريخيِّة.
اقرأ أيضًا: كورونا .. تراجيديا فيروس من الوباء إلى الثورة
في كل مرحلة وفي كل مصيبة أو كارثة، تتأسّس مفاهيم جديدة وتنهدم مفاهيم قديمة وبالية. وتطرح جدلية العالمين، جدلية الموت والحياة، جدلية الخير والشر. وأمام هذه الكوارث الطبيعية والإنسانية، يتوجه الإنسان بخطابه الروحاني والعقلاني إلى أمرين: أوّلهما هو القوى الخفية الغيبية؛ إذ يجد الإنسان نفسه ضعيفًا وعاجزًا أمام الظواهر الطبيعيّة، ولا ملجأ له إلّا التضرع إلى السماء بعينيِّن خاشعتين طالبًا الخلاص (كيركجارد).
وثانيهما يتمثّلُ في العلم والبحث العلمي، حيث يعمل الأطباء ليلًا نهارًا كشفًا عن الغموض الذي تغرقُ فيه الطبيعة، وسعيًّا منهم لفهم قانونها والتحكم فيها (ديكارت).
إذن، فمنذُ الأزل وكلُّ تفكير الإنسان هو العمل لردعِ هوِّة الخوف وهدمها، الخوف الذي يسكن الإنسان أمام عظمة الطبيعة، وعجز الإنسان في الكشف عن الغموض والبحث عن المعنى(هيوم). فالمُلاحظ هو أنَّ الخوف يَلبِس في كلِّ منعطفٍ تاريخيّ لباسًا جديدًا بحسبِ المحيط الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والسياسيّ، لهذا يبقى هاجسُ الإنسان هو التغلب على الخوف والقلق، والبحثِ عن حالة من الاطمئنان والعيش بسلامٍ.
فلما اعتقد الإنسان أنّه بسَط سيطرته على الطبيعة وإذ بها تنفلِت من بين راحة يديه لِتُشكِّل له مفاجأة وصدمة. وكلما اعتقد أن هذا الدواء أوقف مرضًا ما نهائيّا، ظهر وباءٌ آخر يُهدِّد انتصاره وفرحته ويعكِّر صفوة وجودهِ. وهذا ما وقع للإنسان اليوم أمام هذا الوباء. فمن كان يعتقد أو يظنُّ أن حال العالم سيؤولُ لِما آل إليه اليوم؟
وجد الإنسان نفسه أمام وباء الـكوفيد 19، وشعرَ بخوفٍ جديدٍ يختلف عن خوفه السابق أمام الحروب والمجاعات و الكوارث الطبيعية. إنّهُ الخوف من فايروسٍ لا يُرى بالعين المجردة، والخوف من المجهول، ذلك الذي يحيط به من كل الجوانب لكنه لا يراه. إنّها حربٌ خفيَّة شرسة على العلاقات الإنسانية والصداقات والحبِّ. وكأن سارتر يعنينا بقوله:
الآخر هو الجحيم، الآخر يهدد حياة الأنا، إنّه نوعٌ من مأسسة العلاقات بنوعٍ آخر
وبكونِ:
اللاتواصل نوع من أنواع التواصل.
–ميرلوبونتي.
عندما يغدو العالم مخيفًا، يُمكننا أن نجد الراحة في تعاليم الفلاسفة الذين عرفوا كيف يتعاملون مع الأزمات والكوارث بحسٍ من الحكمة. هذا ما نجده في فلسفة الرواقية وهي مدرسة فلسفية قديمة، تأسست في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد ومن روادها، سينيكا Seneca، وإبكتيتس Epictetus، وماركوس أوريليوس Marcus Aurelis.
فحين نواجه مثل هذا الوباء، نجد تعاليم هؤلاء الفلاسفة مناسبةً جدًا لنا من أجل تجاوز هذه الأزمة والخروج من محنة وجوديّة عالميّة. عندما يكون المستقبل مرعبًا، ومفتوحًا على المجهول وعلى إمكانات لا نهائية.
عندما يفقد المستقبل المعنى، يمكن أن نجد في تعاليم أولئِك القدماء المعنى ونوعًا من الحكمة في التعامل مع الواقع والحياة، سعيًا لتحقيق حالة من الاطمئنان والراحة النفسية.
إنّ ما يهم ليس ما يحدث وما حدث لك، وإنما الكيفية التي تستجيب بها لما يحدث. (إبكتيتس). فكبار الرواقيين اعتقدوا ونصحوا بأنه من السخف الاندهاش بالأشياء، وإنّ الإحباط يأتي نتيجة للتوقعات غير المعقولة.
وأختم هذه التعاليم بما قاله أبيقور عن الخوف من الموت:
لماذا أخاف من الموت؟ فطالما أنا موجود، فإن الموت لا وجود له، وعندما يكون الموت، فإني لست موجودًا. فلماذا أخاف من ذلك الذي لا جود له عندما أكون موجودًا؟
أمام هذه الجائحة، جائحة كورونا وما خلّفته من خوفٍ ورعبٍ وهلع في نفوس الأفراد عبر العالم. فمؤكدٌ أنّ العالم ليس هو ما قبل كورونا وليس ما هو في زمن كورونا، ولن يكون أبدًا هو ما بعد كورونا. ومؤكدٌ، أيضًا، أنّ أسئلةً جديدةً سَتُطرح غدًا -رغم أنّها طُرحت- أمام الفيلسوف والأديب والطبيب والفنان ورجل السياسة، وأمام الإنسان بصفةٍ عامة. نُسائِلُ الخوف ونَفتَح على الأمل باحثين عن المعنى في عالم اللّامعنى.