قراءة تحليلية للفلسفة اللاإنجابية
إن اللاإنجابية في الأساس هي موقف فلسفي أخلاقي ينبذ فكرة الإنجاب ويدعو إلى تجنبها؛ لأن مسألة إحضار شخص آخر لهذا العالم هي بالضرورة فعل لاأخلاقي حسب رأي اللاإنجابيّين. لذلك يكون من الواجب على الإنسان من هذا المنظور أن لا ينجب لمنع الضرر عن الأجيال القادمة .
و يرى مؤيدو هذا الموقف أن العالم يحمل مقدارًا هائلاً من المعاناة، فالوجود يساوي بالضرورة المعاناة والصراع الدائم، فأن تأتي بإنسان آخر وتفرض عليه أن يعيش المعاناة الوجودية هو أمر عبثي و غير خاضع لأي منطق أخلاقي؛ لأن جوهر الوجود هي المعاناة المستمرة، وما الحياة إلا لحظة سلبية تنتهي بالموت، وليس من الأخلاقي أن نفرض هذا العبء على ما هو غير موجود .
فالأساس البيولوجي لعملية الولادة هو خاضع لشتّى العوامل والمؤثرات، فالإنسان مُعرّض لأن يصاب بكافة الطفرات الجينية والوراثية، بالإضافة لكافة الأمراض والأوبئة. كما أن هذا الفرد هو معرض في أي لحظة للموت، وحياته هي سلسلة من الصراعات الاجتماعية والإيديولوجية .
لو أمعنّا النظر في العوامل الحقيقية التي كانت ومازالت تدفع الإنسان الحديث للولادة فسنكون أمام معضلة وجودية، فالإنسان ينجب أساسًا لكي يخلف نسبه..لكي يعيش اسمه بعد موته، ويحقق نوعًا من الخلود في هذا العالم، وإن كان هذا الخلود غير محقق لأن كل إنسان هو معرض بالضرورة للفناء والنسيان. الحق أن الإنسان إن أراد أن يتذكره العالم يكون من الواجب عليه أن يترك شيئًا لهذا العالم غير اسمه، كأن يبدع أو يبتكر شيئًا ينفع به البشرية، أما الأسماء و الألقاب فما هي إلا هوية اجتماعية لا حاجة لها من الأساس، ولك أن تتخيل عدد الأسماء التي مرت عبر تاريخ البشرية. بل أبعد من ذلك، فالإنسان غير مطالب في هذا العالم أن يترك بصمته، فأن يعيش الإنسان حياة طيبة وأن يكون لطيفًا اتجاه الناس حوله هو كل ما هو مطلوب منه في هذا العالم .
و لعل الرغبة في الإنجاب هي نابعة من الشعور بالوحدة الموحشة التي تلازم كل إنسان في الوجود، على أن الدفء الأسري الذي يتجلى من خلال الأبناء هو ما يعطي لحياة الإنسان معنى. لكن، الحق أن كثيرًا من الآباء ينتابهم الندم بعد الولادة، لا لأنهم كانوا السبب في إحضار ذات أخرى مذنبة لهذا الوجود العبثي؛ بل لأنهم يدركون بأن وحدتهم هي مستمرة لا محالة. كما أن إنجابهم يجعل حياتهم تتخذ شكلا محددًا لا هروب منه، وكثير منهم لا يستطيعون التوفيق بين حياتهم العملية وحياتهم الأسرية، فيتركون خلفهم كل شيء، و يصير ذاك المولود ضحية أكثر من أي وقت مضى .
إن الإنجاب عقد من طرف واحد، و هو بالتالي عقد باطل، لأنه يحصل عبر القسر والإكراه، خاصة و أنه من المستحيل الحصول على موافقة المولود، و هنا يتجلى كل اضطراب في الإنجابية .
إن اللاإنجابية هي موقف فلسفي فكري مترتب عن أنساق فلسفية ضاربة في تاريخ الفكر البشري، و يمكن أن نجد صدى هاته الأفكار في كتابات المفكرين عبر العصور أمثال “شوبنهاور” و “غوستاف فلوبير” و “ميشال أونفراي” و “إميل سيوران”، و يمكن أن نجدها كذلك في إطار بعض النصوص الدينية مثل البوذية و المانوية و غيرها .
:يقول “شوبنهاور” في كتابه “في معاناة العالم”
” قد تعدّ الحياة حدثًا عقيمًا عكّر سكون العدم الميمون، وأنّه أيًّا ما كانت الحال، مهما جرتِ الأمور معك مجرًى حسنًا فإنّك بتقدّم السنين بك، ستدرك بجلاءٍ أكثر أنّ الحياة عمومًا خيبة أمل، لا بل خداع. لو كان جلب الأطفال إلى هذا العالم صنيع العقل الخالص وحده، أكان الجنس البشريّ سيستمر في الوجود؟ أليس التّعطاف سيحمل الإنسان على تجنيب ما يليه من أجيال عبء الوجود؟ أو أيًّا كان، فإنه لن يأخذ على عاتقه فرض هذا العبء عليها بدمٍ بارد “.
و يعي مؤيدو اللاإنجابية جيدا استحالة تحقق الانقراض الطوعي، وذلك لصعوبة اتفاق الناس على رأي واحد ونظرا لتعدد الأهواء والملل والأفكار والانقياد الإنسان لغرائزه البيولوجية المتأصلة فيه منذ فجر رحلته التطورية. الدعوة هنا هي أخلاقية في المقام الأول، و قرار الإنجاب هو طبعا قرار فردي حر ومسؤول.
صحيح أن الإنجاب رغبة قوية متأصلة في عمق الإنسان البيولوجي والوجداني، لكن الرغبات لا يمكن أن تكون مبررًا لفعل التوالد، إذ ينبغي النظر و التأمل في عواقب الرغبات، كل الرغبات، قبل تنفيذها.
و الرغبة في الإنجاب لا تتعدى أن تكون حيلة طبيعية وخدعة وجودية نقع فيها لتحقيق غرض النظام الطبيعي الأعمى. بذلك تكون اللاإنجابية هي محاولة الفكاك من الطبيعة وقوانينها، إنها تمرد على بيولوجيا الوجود، وهي تمثل التفكير الحاسم والموضوعي نحو الانقراض في سلام، خاصة وأن المأزق الوجودي و رداءة الحياة وعبث العالم هو ما دفع الإنسان بالأساس نحو التفكير غير الأعمى في اللاإنجابية..
نرشح لك: القتل الرحيم هل نعالج أم نعجّل الوفاة؟