فيلم العار: أن نمنح الحياة فرصة أخرى
كثيرٌ من السعادة، وبعض من الكعك والفطائر لموعد يوميّ بين حبيبين يقرِّران الزواج إكمالاً لقصة حبهما، إنَّها الصور الافتتاحية للفيلم الأمريكي «العار Outrage» الذي نشاهد فيه الآنسة “آن والتون” الشخصية الأساسية في العمل؛ وهي تعثر أخيرًا على رجل أحلامها جيم.
إنَّها مجرد فتاة عادية والابنة الوحيدة لأسرتها الصغيرة التي تهتم بها، لكن الأمر ليس بتلك البساطة لأنَّ وقائعًا جديدة غير منتظرة من شأنها أن تقوم بتغيير مسار حياتها المطمئنة وتحرمها من الشعور بحبِّها.
الصدمة والألم:
إنَّ حياة آن السعيدة تتشتَّت بدءًا من ليلة اغتصابها، ففي المَشاهِد التي تنقل ما حصل: نتابع فيها بقلق شابًا يترصَّدها من بعيد بينما تسير في الشارع تحمل بعضًا من أحلامها ومشاريعها المستقبليَّة حول الزواج قبل أن يتخذُّ خطوته لملاحقتها وارتكاب جريمته. ما من شكّ أنَّ مَشاهَد المطاردة ستبعث الاستياء في نفوس المتفرِّجين وتثير انفعالهم، لاسيما عندما ندرك طريقة تصوير هذا المشهد فقد تجنَّبت المخرجة «ايدا لوبينو» وضع أيّ موسيقى إثارة أو حركاتٍ وركضٍ مبالغٍ فيه في حادثة الاغتصاب كما اعتدنا عليه في الأفلام الكلاسيكية، حتى يخيُّل للمشاهدين بشكلٍ أكثر فعالية أنَّ ما يُرَى على الشاشة موقف حقيقي وأبعد من مجرَّد مقاطع سينمائيَّة.
لا تنجح آن في الاختباء من المغتصِب، ليس لاستحالة وجود وسيلة لتحقيق ذلك، بل لأعراض الخوف المخدِّرة التي جعلتها شبه مشلولة وهي ردَّة فعل حقيقيَّة تحصل للفتيات اللواتي يقعن في مثل هذا الوضع. فالارتياع الذي يتكاثر في بدن المرأة حين تجد نفسها قرب رجلٍ لا يبصر غير الجسد هو موتها الأوَّل بعد موتها الثاني أي الوفاة، إنَّه شعورٌ ليس بإمكان الرجل اختباره وفهمه جيدًا، -بغضِّ النظر عن محاولات استيعابه- فالكائن الوحيد الذي يعيشه هو المرأة. ولقد شارك فيلم العار في ربطنا بتلك الأفكار، ونجح في إيصال شيءٍٍ من شعورها بالرعب ولو كان بنسبةٍ صغيرة بصورٍ تبدو واقعيَّة، وبالتالي سينتج هذا تعاطفًا أكبر مع حالتها وتفاعلًا مع الحبكة.
فبعد الحادثة تتلقَّى آن المساعدة النفسية بفضل عائلتها إلَّا أنَّ المشكلة لا تتوقَّف هنا، فإلى جانب صدمتها التي تحتاج فترة طويلة لتزول هي تتخلَّى بإرادتها عن زوجها المستقبلي جيم، إنَّه تحوُّل سيكولوجي لا يقتصر على مجرَّد اعتداء جسدي فحسب وإنَّما انتهاك للروح الإنسانية يحوِّل صاحبه إلى ذاتٍ أخرى، ويشوِّه بذلك هويته التي كانت قائمة سابقًا بأخرى جديدة.
الكلمة تقتل:
لقد صار الاغتصاب إذن حدثًا لم يمسس أنا وجسد آن فحسب، بل وتفرَّع وبسط نفسه في جهات مختلفة، منطلقًا منها هي الضحية، ثم إلى الأب والأم، ومنتهيًا إلى الرجل الذي يُنتظر منه أن يكون زوجًا.
وسيبدأ الآن دور المجتمع في التسبَّب بحالةٍ من الضياع عند آن بعدما كان شخصًا واحدًا جعل حياتها تضطرب. فقد بات الناس يتحدَّثون عنها ويتهامسون بين بعضهم البعض، وتقفز الألسنة أيضًا نحو والدها المدرِّس، ليعبِّر الوقوع في الاغتصاب وفق ذلك عن وصمةٍ اجتماعية قاسية وختمٍ بشع يُطبَع على سيرة ضحيته مع عائلته الذي يبدو فيها وسط إطاره المجتمعي وكأنَّه هو من اغتصَب لا اغتُصِب.
إنَّ الجسد في المجتمعات هو بناء ثقافي تمتلكه العائلة يرمز أحيانًا إلى الشرف أو الكرامة لاسيما حين يتعلَّق بالأنثى، وأيّ ضرر يحدث له فإنَّ للعائلة دور فيه. حيث أنَّ “المرأة إذن، الكائن الفظيع الذي يعج بالعلامات”. مفاهيم عالمية التذكير والتأنيث (الجندر) ص25.
لم تستطع المجتمعات الغربية التخلَّص من هذه المفاهيم إلَّا في هذه الحقب الأخيرة، فالغرب والشرق لطالما تشابها ولم ينفصلًا اجتماعيًا إلَّا في نهايات القرن العشرين، فالإنسان قبل ذلك كان يعبِّر عن آفاق واحدة تتكرَّر في كل منطقة تقريبًا باستثناء بعض الاختلافات الثقافية التي لا تمسُّ بالسرديات الجندرية الأساسية عن الأنثى. فالمرأة الغربية لم تكن غريبة عن شقيقتها الشرقية إلَّا في بعض أنماط الحياة لا المفاهيم الشمولية حول الجسد والجنس والجندر. وقد حاول عالم الاجتماعي الأمريكي آرفينغ غوفمان إثبات ذلك فكتب ما يلي: “مؤكّدٌ أنَّ الحجة، التي تقول: إنَّ المجتمع الغربي مجتمع يقوم على التمييز الجنسي، حجة صحيحة شأنه في ذلك مثل باقي المجتمعات على وجه التعميم.”(2) البناء الاجتماعي للهوية الجنسية ص:88.
وبعيدًا عن ما ذُكِر فعندما نعود إلى الفيلم، سنجد والد آن في مشهدٍ ذو نزعة تشاؤمية يتساءل متحسِّرًا عن الهدف من تربية الفتاة وهي معرَّضة كلّ يوم إلى الاعتداء لتختفي سعادتها التي يريد لها الدوام، وهو ردُّ فعل صُدِر منه ينذِر باحساس عبثي. غير أنَّه ومن جهة أخرى تقرّر آن تحدّي المجتمع: المغتصب الثاني الذي يحاول الآن سلب راحتها، فتذهب للعمل، لكنها لا تستطيع الصمود ليوم واحد ظنَّت فيه أو تخيَّلت أنَّ العيون تراقبها والأفواه تتحدَّث عنها أكثر مما تفعل، وهذا ما يجعلها منكسرة مجددًا فتفكِّر في طرقٍ أخرى لا تناسب وضعها الحالي وهي الرحيل عن مجتمعها.
بعيدًا عن العالم:
تهرب آن إلى مدينة لوس أنجلوس من غير وجهة محدَّدة أو هدف معيَّن، إنَّها تحاول الابتعاد عن ذاكرتها المكانيَّة السابقة التي كانت فيها إلى ذاكرة أخرى فارغة باستطاعتها أن تملئها بأحداث جديدة حتى تنسى الأولى لكنها معركة شرسة مع الحياة وهي مجرد فتاة غريبة ليس لديها أي علاقة بهذه المدينة.
غير أنَّها سرعان ما تجد نفسها في أحد المنازل بعد أن عُثر عليها ملقاة على الطريق من التعب. يستطيع المشاهد معرفة الرعب الذي لا يزال يعيش معها وهو يراها تستيقظ في إحدى الغرف لتسارع إلى تفحَّص جسدها وجزئها السفلي، وكأنَّها رجل خائف من إخصائه. وما إن تمر ثوانٍ حتى تصادف رجلًا غريبًا يقف أمامها، لقد صار الرجال شبيهين بذلك المغتصِب، أما هي فترتقب منهم الآن أيّ فعل مشابه لما حدث لها من قبل، إنَّهم “الآخر” الذي تغيب عنه كل خصوصية وتميُّز بل تطابق شمولي مع بقية الرجال أضْفَتْه عليهم آن جميعًا بحيث صاروا يمثِّلون بشكلٍ لاواعٍ في ذهنها صورةً واحدة ثابتة، أي الآخر الشهواني واللأخلاقي والمختلف جذريًا عن الأنثى، هذا الآخر الذي يغادر بعد الترحيب بها.
نقتبس مرة ثانية من كتاب آرفينغ غوفمان نفسه حيث نقرأ ما يلي “يجب على الفرد أن يحمل جسده معه أينما حلَّ وارتحل، يعني ذلك أنَّ كلَّ ما يمكن للأجساد أن تأتي به من شرّ، و كلّ ما يمكن أن يؤثِّر فيها، يرافق الفرد أيضًا”. مرجع سابق، ص:90.
يحاول فيلم العار التقاط جزء صغير يخصُّ العمل الفلاحي والتجاري في الولايات المتحدَّة الأمريكيَّة، فالمنزل الذي تمكث فيه الشخصية الرئيسية مؤقَّتًا هو بيتٌ داخل مزرعة برتقال، فبإمكانها أن تقضي يومها كعاملةً في مصنعه توظِّب وتغلفّ صناديق الفاكهة إلى جانب بقية النساء العاملات اللواتي تظهر عليهن علامات البرود والصمت وكأنَّهن آلات متحرِّكة تؤدِّي وظيفة محدَّدة. غير أنَّ الرجل الذي أحضرها يجدها مفيدة أكثر في عمل المكتب وهو العمل الذي كانت تمتهنه سابقًا في مدينتها.
ونلاحظ هنا احتقارًا لعمل المصانع التي توظَّف فيه النساء أكثر من الرجال من حيث العدد وهو نوعٌ آخر من الاضطهاد أيضًا تغتصَب فيه المرأة الكادحة التي تبيع فيه قوَّتها في العمل ولساعاتٍ كثيرة.
العودة إلى العالم:
بوسعنا تلمُّس بصيص من الأمل يدخل إلى حياة آن حينما تتعرَّف إلى الرجل الذي أحضرها إلى المكان، وهو صديق العائلة التي استقبلتها، الدكتور والقسّ “بروس فرغسون”.
إنَّ بروس يعيد إليها بعضًا من الثقة بالرجال التي أضاعتها. كما يطلب منها أن تلبس نظارة جديدة ليتسنى لها النظر إلى الحياة بقلبٍٍ متفائل ومبتهج.
ونكتشف في الفيلم أيضًا ممارسة مميَّزة لطقس الاعتراف من دون أن يقترن بالكنيسة وإنَّما هو طقس مقلوب يكون بطله السيد بروس. فبينما هم جالسين في أحد الأماكن الساحرة التي خلقتها الطبيعة لا الانسان وكأنَّها كنيسة على الهواء الطلق يعترف لها بروس منقلبًا من وضعية الكاهن الذي يدير سر الاعتراف إلى المؤمن التابع المعتَرِف بأنَّه فقد إيمانه ذات يوم. ولهذا فهو يحاول استعادته وربما قد نجح كما تحاول هي الآن.
ويتحدَّث بعد أن اعترف لها بكل شيءّ: “لا ينبغي عليَّ أن أقول لك ذلك فليس من اللائق أن يشكّ ويضطرب مسؤولو الكنيسة لكنَّنا في النهاية بشر، هل تعرفين شيئًا آخر، عندما أعود إلى هذا الوادي حينما عشت فيه طفلًا سعيدًا فإنَّني أجده جميلًا كما كان دائمًا، انظر إلى نفسي بعمق، عندها.. فوق في السماء أجد نفسي… إيماني”.
لقد صارت المزرعة بجمالها وهدوئها مع الدكتور يحتويان آن، إلًَا أنَّ آثار الاغتصاب لا تزال داخل عقلها وجسدها، تلك الواقعة التي تجعلها ليست ضحية فحسب بل مجرمة، فهي تقوم بمحاولة قتل أحد الشباب بعد أن تجلَّى لذهنها على صورة الشاب الذي اغتصبها.
تخضع آن في النهاية لعلاج نفسيّ بدل السجن، يحاول بروس من خلال ذلك معاتبة رجال الدولة الذين فشلوا في توفير بيئة جيدة للأشخاص الذين ينتهي بهم المطاف إلى الاعتداء على الفتيات، ويدعو فيها إلى بناء المراكز العلاجيَّة والنفسيَّة بدل السجون التي تجعل الشخص أكثر شرّا ومرضًا.
إنَّ للسجون القدرة على إمداد المرء بأيديولوجيَّات جديدة بالغة السوء ذلك لأنَّ غايتها الأولى هي العقاب وحشر المجرم مع المجرمين الذين يشبهونه، -وربَّما يحدث العكس فنجد شخصًا متهمًا بجنايةٍ صغيرة يعيش مع مجرم في مثل هذه الأماكن- إنَّها حتمًا الشرّ الذي لا بدّ منه، يكتب ميشيل فوكو “يجب الحرص على أن لا يشكِّل السجن، من الأشرار الذين يضمهم، جمهورا منسجمًا ومتماسكًا”. المراقبة والعقاب ص239. غير أنَّ السجن في الحقيقة وعلى عكس آمال فوكو يبني جماعة من المضطربين ببراعة.
إنَّ اصلاح المسجونين وتطهيرهم من خطاياهم الأخلاقيَّة؛ محاولات بالغة الصعوبة ليست في متناول أي مؤسَّسة على الرغم من إجراء عدة تجارب، والأخذ بعين الاعتبار العمل على تحسين السجون، وجعلها مؤسَّسات لتقويم المسجونين والمعتقلين وتغييرهم للأفضل.
وفي النهاية لا يُقصَد من عنوان هذا العمل -وهو العار أو الفضيحة- أن يجعل من الاغتصاب عارًا يلحق بالفتاة آن وعائلتها بل يمكن عدَّه كرمزٌ للمجتمع الذي هو كذلك لا يقلِّ جرمًا عن الجاني، فالعنوان في هذا العمل أيضًا بمثابة تقريع ليس للمجرم فحسب وإنَّما المجتمع مع رجال الدولة.
كما يحمل الفيلم المشاهُد على النظر إلى الشق الجيد للحياة من دون أن يقتحم تلك المثاليات الزائفة المشرقة، إنَّه يتفهم حال ضحايا الاغتصاب والاعتداء لكنه يطلب منهن مواصلة التقدَّم في الحياة ومنحها مع أنفسهن والآخرين فرصة ثانية فالذات السليمة هي تلك التي تحظى بعلاقات صحية مع الآخرين الذين يعتمد وجودنا عليهم.