فن المقاومة والخيال في فيلم اثنا عشر عامًا في ليلة: من القسوة إلى الانتصار الإنساني
إنّ فيلم «اثنا عشر عامًا في ليلة – a twelve year a night» يعبّر بوضوح عن فن القسوة وفن المقاومة في قصة مستمدة من واقع حقيقي حدث لثلاثة سجناء من حركة توبامارو الثورية في الأورجواي. فعيارة “يا من دخلت إلى هنا اِفقد الامل” التي وجدت على الحائط بداخل أحد السجون هي إشارة للقسوة والعذاب الذى سوف يتعرّض له كل إنسان يدخل ذلك المكان ولكن هل فقدوا الأمل حقًا؟
حركة توبامارو الثورية: من الكفاح المسلح إلى التحول السياسي
حركة توبامارو الثورية تم تأسيسها في عام 1963 والمؤسّس الرئيس للحركة هو راؤول سينديك وقد اختارت الحركة عن عمد تكتيكات الكفاح المسلّح واعتمدت على الاختطاف السياسي، والدعاية المسلّحة، وذلك بهدف إظهار عجز الحكومة وغياب الديمقراطية.
كان نجاح الحركة قصيرًا، وبحلول وقت الانقلاب العسكري في يونيو عام 1973 في أوروجواي، تم تحييد توبامارو من قبل القوات الحكومية، التي تمكّنت من قتل نحو 300 عضو وسجن ما يقرب من 3000 آخرين. بعد عودة الحكم الديمقراطي إلى أوروجواي في عام 1985، تم إطلاق سراح معظم المعتقلين، بما في ذلك سينديك مؤسّس الحركة، بموجب عفو عام، وأعيد تنظيم توبامارو كحزب سياسي قانوني.
ويبدأ كاتب السيناريو ومخرج الفيلم ألفارو بريختر بجملة شهيرة لفرانز كافكا وهى (نظر الرجل إلى المحكوم وسأل الضابط :هل يعرف السجين عقوبته؟الضابط: لا سيختبرها بنفسه). وهذه الجملة هى إشارة واضحة لأحد الجوانب الأكثر وحشية في القصة وهى الافتقار الكامل للعدالة، المدانون ليس لديهم وعي بجريمتهم، ولا يحصلون على أية محاكمة.
ثم يعود بنا السيناريو إلى عام 1973 بعد هزيمة حركة توبامارو الثورية وعودة الحكم الديكتاتوري في الأورجواي، في مشهد افتتاحي رائع يبدأ من داخل حجرة أحد الحراس في وسط شبكة من ممرات السجن مع حركة الكاميرا الدائرية مما يتيح لنا النظر إلى العشرات من العسكريين المسلّحين الذين يغزون السجن، مما يضطر السجناء إلى الخروج، ويضربونهم بلا رحمة، ويتجوّلون بهم – مقنعين ومكبلي اليدين، بعد ذلك يتم نقلهم إلى شاحنات تذهب إلى سجون مختلفة، وتصبح تلك الليلة أبدية بالنسبة للسجناء الثلاثة أبطال الفيلم، فهم سوف يقضون الباقي من حياتهم في سجن انفرادي.
إعلان
الفيلم تجربة جادة لتوثيق حياة السجناء الثلاثة والذين تم القبض عليهم من قبل النظام العسكري في الأورجواي، وهم خوزيه موهيكا ،الوتيريو فرنانديز هودوبرو، موريسيو روسينكوف، وعلى مرّ السنين يتم تبديل السجناء من سجن إلى آخر وفي كل سجن يذهبون إليه يظهر لنا المخرج كيف يتعرّضون لجميع أنواع التعذيب وكيف يتم ترويعهم.
الخيال كوسيلة للبقاء: الهروب من الزنزانة إلى الذات
فيلم اثنا عشر عامًا في ليلة تجربة لأهمية الخيال في حياة الإنسان، فالخيال هو إرادة مهمة لدوام الحياة، ومن خلال الخيال يحدث شكل من أشكال التوازن النفسي للإنسان.
يقوم النظام العسكري بحبس أبطال الفيلم حبسا انفرادي لمدة 12 عام وتكمن عبقرية الفيلم في رمزيته الواضحة. فعلى الرغم من أنّ الابطال تعرضوا لجميع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي إلّا أنّ الخيال أعادهم مرة أخرى، وذلك نراه في أكثر من مشهد من خلال كادرات قوية، مثل مشهد رؤية موريسيو لابنته فعندما أخبرته أن يغلق عينيه، تخيل وجوده معها في غابة جميلة مليئة بالأشجار وبين يديه تفاحة يريد أن يطعمها منها، بينما يلعبان ويضحكان.
ومشهد الوتيريو وهو يتخيّل وجوده مع زوجته وابنته في جزيرة واسعة بمفردهم، تركز إبداع المخرج في اظهار المشاعر الدقيقة للإنسان مثل شعور ملامسة الماء لأول مرة منذ سنين في ذلك المشهد. أما خوزيه فنري أنه تعذّب كثيرًا بمحاربة ومقاومة الجنون لإصابته بالذهان الوهمي و أضاف المخرج ذكريات الماضي والهلوسة من خلال شخصيته. وفي مشهد بينه وبين أمه نرى كيف يقاوم ذلك الجنون و يحاول التمسك بالأمل، وتخاطبه أمه بـ (أن المهزمين فقط هم من يتوقفون عن القتال).
ركّر المخرج على كل التفاصيل الصغيرة التي يشعر بها السجناء في الحبس الانفرادي، مثل أول ملامسة لقلم، أول ملامسة لكتاب، أول استماع لمباراة كرة قدم، شعور الماء وهو علي جسد الإنسان، أول عناق ولمسة يد، وفي مشهد عبقري لموريسيو نرى أول نظرة لضوء الشمس في الفضاء الواسع. فكل لحظة وكل شعور للأبطال أعاد اليهم الحياة مرة أخري. سواء أكان ذلك يلقي بظلاله على حالات الاعتقال أم يشرح ما فقدوه في طريق الاتصال بأحبائهم لآن حبسهم يهدًد معنى وجودهم في الحياة.
واعتمدت الأحداث على تداخل الازمنة من خلال الفلاش باك والفلاش فورورد لعرض بعض المقتطفات من حياة كل سجين. وتأتي نهاية الفيلم لتكون ملحمة جميلة للأبطال، حيث بعد 12 عام يجتمع شملهم مع عائلاتهم في مشهد عظيم مليء بالكثير من المشاعر الإنسانية واللقطات المعبرة مع الموسيقي وصوت الجماهير يعلو قائلًا “المتحدون لا يمكن هزيمتهم”. فبعد 12 عام من الحبس الانفرادي تم تحرير السجناء.
إنّ الفيلم في النهاية يسرد انتصارات روح الإنسان، فكل ما يجب عليك فعله أن تقاوم، فالوتيريو فرنانديز هودوبرو أصبح سيناتور ووزير دفاع وتوفي في 2016. وموريسيو روسينكوف أصبح شاعرًا وكاتب روايات ومسرحيات، وشغل منصب مديرًا للثقافة في مدينة مونتيفيديو. وخوزيه موهيكا تم انتخابه في عام 2010 ليصبح رئيسًا للأورجواي في عمر 75، ويعرف عالميًا بلقب أفقر رئيس في العالم لسبب أنه كان يعيش حياة متواضعة ويرفض المظاهر ويتبّرع بمعظم أمواله للفقراء، ليفارق الحياة في مايو 2025، لتعلن حكومة الأوروجواي بعد وفاته ثلاثة أيام حداد رسمي.
إعلان