غسيل العقول: نظرة تاريخية

ابتَكر مصطلح “غسيل العقول” المراسلُ الصحفيّ الأمريكي إدموند هنتر (١٩٠٢-١٩٧٨) في عام 1951 لوصف عملية التحوّل الفكريّ التي خاضها الأسرى الأمريكيون في معسكرات الاعتقال الصينية خلال الحرب الكورية. ولقد ترجم هنتر المصطلح من المفهوم الصيني لـ hse nao، “غسل الدماغ”. وكان ماو تسي تونج  قد استخدم مصطلح  ssu-hsiang tou-cheng، أو “كفاح الفكر”، في أوائل عام 1929 للدلالة على ما نسميه الآن في علم النفس باسم “السيطرة على العقل” ، أو “الإصلاح الفكري”، أو “السيطرة على الفكر”.

ويمثّل التحكّم في الفكر الجانبَ المظلمَ من التأثير الاجتماعي، حيث أنه يجمع بين الامتثال، والإقناع، وتكتيكات الدعاية في شكل مزيج خبيث قويّ من التلاعب القسريّ الذي يسلب الفرد من هويته الأصلية ويستبدلها بأخرى. وتتطلب السيطرة على العقل عزلة الفرد عن كافّة علاقاته الاجتماعية في مجموعة انفصالية كما يحدث في الطوائف الدينية.

١- تعريف غسيل العقول

غسيل العقول هو وسيلة لتغيير -بشكل ممنهج وقسري- معتقدات وسلوك أشخاص في مجتمع أو جماعة معيّنة باستخدام وسائل مختلفة كالتعذيب، والمخدرات فضلاً عن العديد من أساليب الضغط النفسي. ويسمّي علم النفس دراسةَ غسيل العقول بدراسات الإصلاح الفكري thought reform، وتصنّف تحت باب “التأثير الاجتماعي” social influence.

٢- تاريخ غسيل العقول

على الرغم من استخدام أساليب غسل العقول منذ قديم الأزل عند رجال الدين والرهبان، فإننا يمكن أن نُرجِعه تحديدًا، بعدما أخذ شكلاً متماسكًا، إلى كتاب Malleus Maleficarum مطرقة السحرة،  لأستاذ اللاهوت “هينيترش كرامر”، الملقّب بِالابْن الحبيب للبابا، والذي ألّفه في أوائل الأربعينيات من القرن الخامس عشر.

يهدف هذا الكتاب إلى تعليم القارئ كيفية اصطياد الساحرات، أي كيفية التعرّف عليهنّ، والأهم، كيفية التحقيق معهنّ. ويشجّع على استخدام الخداع والتعذيب أثناء عمليات الاستجواب. ولقد انبثق عن هذا التوجّه نطاق عريض من التعسّف في استخدام هذه الوسائل، واعتراف المئات من المشتبه فيهم بجرائم، ليس فقط لم يرتكبوها، ولكنها أيضًا خرافية لا يصدّقها العقل.

إعلان

ولقد ترك هذا الكتاب بأفكاره وأساليب تعذيبه التي تناقلتها الأجيال أثرًا عميقًا على علم الطّبّ النفسيّ وتطبيق القانون.

ومع انحسار أهمية موضوع صيد الساحرات، سيطر على أوروبا خاصةً في القرن السابع والثامن عشر أفكار “التلبس الشيطاني ومَسّ الجنّ”، والتي تشمل تلبّس الشياطين في جسم أحد الأشخاص عنوة تفعل به وتوجّهه كما تريد. وتبنّى الأطبّاء والقساوسة آن ذاك فكرة أنّ علاج هؤلاء الأشخاص يعتمد على تقييدهم بالسلاسل وتعذيبهم في ملابس خاصة، ومن هنا ظهرت فكرة قميص المجانين Straight jacket. 

سيطرت فكرة استخدام آلات التعذيب في علاج سلوك وأمراض العقل على الأطبّاء لدرجة أنّ بنجامين رش، مؤسس الجمعية النفسية للطب النفسي وأحد الموقّعين على وثيقة الاستقلال الأمريكية، اخترع كرسيًا دوّارًا يوضع عليه المرضى. ولم يكن الناس يتحمّلون الجلوس عليه إلا لثواني قليلة، بل وكان البعض منهم يفقد وعيه.

وللأسف، كشف تطوير أدوات التعذيب على أيدي أطباء نفسيين عن مفارقة عجيبة. كلّما كثر حجم ما تعلّمته لشفاء الناس، كلّما كبرت قدرتك على إيذائهم. ويعني هذا أنه كلما كثر ما تعرفه عن العقل الإنساني وطريقة عمله، كلّما سهل التلاعب به.

والواقع أنّ القادرين على التلاعب بالعقول لأغراض شريرة يعدّون أكثر خطورة من أشخاص يحملون بنادق الرصاص في أيديهم، لأنّ المتلاعبين بالعقول قادرون على خلق جيش كامل من القتلة.

(أ) غسيل العقول في الاتحاد السوفيتي

في العشرينات من القرن العشرين، قام عالم النفس ألكسندر لوريا Alexander Romanovich Luria، عالم النفس وأبو علم الأعصاب الروسي  بإجراء عدد من التجارب أثبتت إمكانية أن تجعل الناس يُدلون باعترافات كاذبة تحت تأثير وسائل نفسية منها الإيحاء والتنويم المغناطيسي. واكتشف لوريا أيضًا أنه إذا تمّ التحكّم في عقل شخص ما بصورة كافية، فإنه من الممكن أن يشعر بكافة المشاعر والعواطف المرتبطة بهذا الاعتراف. ويذكر أنّ هناك تقارير لا يمكن التأكد من صحّتها تمامًا تفيد مشاركة لوريا، وباڤلوڤ -مؤسس علم النفس السلوكي- في برامج غسيل العقول السوفيتية.

على سبيل المثال، إذا جعلتَ شخصًا ما يعترف بجريمة لم يرتكبها، فإنه سوف يشعر بالندم والذنب تجاه ما اقترفه من جرائم، بل سوف يحاول داخل ذاته إيجاد مبررات لهذا العمل للتخفيف من آلام الشعور بالذنب. وما بالك إذ تمكّن القاتل الفعليّ من التأثير على الشهود أيضًا. مرعب لأنّ هذا يعني هروب المجرم، مائة في المائة، من أيّ جريمة يرتكبها.

ولقد تمّ استغلال وسائل غسل العقول بكثافة في الاتحاد السوفيتي حيث ساعدت على ترسيخ حكم ستالين الدكتاتور الرهيب. بعد الثورة البولشفية، كان هناك العديد من الزعماء البارزين المؤهلين لقيادة الدولة الشيوعية. وقام ستالين بقتل معظمهم وعلى رأسهم تروتسكي..

لكنّ البعض منهم لم يحكم عليه ستالين بالقتل، اكتفى بالقبض عليه، إلا أنهم اختفوا لمدة طويلة ظلوا فيها محتجزين في سجون الاتحاد السوفيتي، وتمّ استخدام وسائل ألكسندر لوريا عليهم.

الغريب في الأمر أنّ هؤلاء الأشخاص اعترفوا أثناء ما عُرِف بمحاكمات موسكو في الثلاثينيات من القرن العشرين بأنهم تآمروا مع الدول الرأسمالية لاغتيال ستالين، واعترفوا أيضًا بجرائم لا يستطيعون منطقيًا تنفيذها. والأغرب من هذا أنّهم بعد هذه الاعترافات، توسّلوا إلى القضاء بالأمر بقتلهم ليستريحوا من وخز ضمائرهم على انضمامهم لصفوف أعداء الشعب.

ولقد كشفت محاكمات موسكو أمام الدول الغربية عن مدى قوة عمليات التحكّم في العقول.

(ب) حرب كوريا

عندما غزت كوريا الشمالية كوريا الجنوبية، استخدمت السلطات الكورية على الأسرى الأمريكان أساليب غسيل العقول حيث اعترف معظمهم بعد ذلك بأنّ الجيش الأمريكي ارتكب جرائم حرب لم تحدث بالفعل. على سبيل المثال، وقّع العقيد دانيال اتش شوابل على وثيقة يعترف فيها بأنّ الجيش الأمريكي قد استخدم الأسلحة البيولوجية الممنوعة دوليًا.

شعرت الحكومة الأمريكية عندئذ بأهمية مجال التحكم في العقول. وقام إدوارد هانتر المبتكر الأصليّ لكلمة غسيل العقول Brainwashing بدراسات هذه الأساليب بوصفه مدير قطاع البروباجندا في مكتب الخدمات الاستراتيجية الأمريكية، والذي يمثّل الأب الشرعي لهيئة الاستخبارات الامريكية CIA.

(ج) حالة الشابة پاتي هيرست

اختطفت منظمةٌ تايلندية يساريةً معروفة باسم جيش التحرير الشابة “پاتي هيرست”، وعمرها ١9عام وطالبة في جامعة بركلي. ولقد تمّ احتجاز هيرست حجزًا منفردًا، وتمّ اغتصابها من قِبل عشرين شخص. وتمكّنت هذه المنظمة الإرهابية من غسيل مخها لدرجة أنها انضمّت للمنظمة واعتنقت مبادئهم، وشاركت في حملة الدعاية خاصتهم. بل وارتكبت عددًا من الجرائم لصالح هذه المجموعة، منها سرقة بنك. وتمّ القبض عليها والحكم عليها بالسّجن لمدة ٣٥ عام حتى أفرج عنها بيل كلينتون في آخر يوم من ولايته.

٣- أساليب غسيل العقول

قام عالم النفس الأمريكي روبرت ليفتون في أواخر الخمسينات من القرن العشرين بدراسة حالة الجنود الأمريكيين الذين وقعوا أسرى لدى الكوريين أثناء الحرب الكورية. ولاحظ ليفتون أنهم تعرضوا لعدد من العمليات النفسية التي أدّت إلى تغيير قناعات العديد منهم.

ولقد حدّد ليفتون الخطوات أو العمليات التي تتضمنتها عملية غسل العقول، والتي كانت تُمارس مع الأسرى في مناخ تامّ من العزلة، مع استخدام تقنيات للتشويش العقلي مثل الحرمان من النوم و الغذاء، والتهديد المستمرّ بالأذى البدني، ووسائل أخرى تُفقد الشخص قدرته على التفكير السليم.  ويمكن تقسيم الخطوات التي حددتها ليفتون إلى ٣ مراحل:

اولاً: تحطيم الذات

١- الهجوم على الذات (انتقاد معتقدات الشخص وشخصيته وجنسه وكلّ شيء في هويته)

٢- الشعور بالذنب (تحميل الشخص الذنب عن مآسي كثيرة مرّ بها أو فعلتها دولته بشكل كثيف)

٣- خيانة النفس (إجباره على اتهام بلده وأسرته وأصدقائه بارتكاب جرائم وآثام، بما يولّد لديه إحساس بالخيانة تجاه كلّ من أحبّهم.)

٤- لحظة تحطيم الذات (مع أزمة الهوية التي يمرّ بها، والشعور بالألم والخيانه لمن يحبه، يسهل على المحقّق نقل الشخص إلى مرحلة الانهيار وتحطيم ذاته تمامًا.)

ثانيًا: إمكانية الخلاص

١- اللين (إظهار نوع من التعاطف واللين في التعامل مع الشخص، وإبداء الاستعداد بامكانية مساعدته.)

٢- الاعتراف (يتمّ دفع الشخص نحو الاعتراف للتخلص من كلّ الآلام والشعور بالذنب الذي يصاحبه.)

٣- التحرّر من قبضة الذنب (يُوضَّح للشخص أنه ليس المذنب، ولكن المذنب الحقيقي هو قناعاته وأفكاره، ونظامه الذي يؤيده.. وأنّ الشعور بالعار هو نتيجة هذه القناعات التي يجب استبدالها بأفكار جديدة للتخلص من الألم.)

ثالثًا: إعادة بناء الذات

١- التقدم والسكينة (يقدّم المحقّق للشخص الأفكار الجديدة بوصفها الطريق الصحيح لأهل اليمين الذي سيعود بالخير على أصحابه، ويخلّصه من مشاعر الذنب والعار الذي لحق به من جرّاء أفكاره السابقة)

٢- الاعتراف والبعث Rebirth (يعلن الشخص رفضه الكامل لأفكاره السابقة وما صاحبها من شعور بالذنب، ويتبنى معتقداته الجديدة بما تبعث فيه من راحة البال.. وتسمّى هذه مرحلة البحث أو الميلاد الجديد.

٤- غسيل العقول في عصرنا الحالي

لا تقتصر أعمال غسل العقول على الحكومات ومؤسساتها الأمنية، بل تشمل أيّ أفراد ومؤسسات سياسية ودينية أخرى. وهناك حالة شهيرة جدًّا حدثت في ثمانينات هذا القرن، والتي أوضحت بدرجة كبيرة لدرجة السيطرة على الشخص.

ودون شكّ، فقد أصبح التأثير على العقول هذه الأيام أسهل بكثير حيث يمكنه تغيير قناعات الملايين في وقت واحد، ودون مجهود إضافي من قبل الجهة القائمة بغسل العقول. وتعمل صناعة الإعلان مثلاً على إقناعنا بأننا نحتاج لمنتجٍ ما يعلنون عنه، في حين أننا فعليًا لا نحتاجه. وتعمل كثير من شركات الإعلانات والمحطات التلفزيونية الكبرى على غسل أدمغتنا بطرق عديدة.

 تشمل تكتيكات الإعلان التشجيعَ على الكسل وعدم التفكير والتلاعب بالخيارات وتكرار العبارات والأفكار بشكل مستمرّ، حيث يُعتبر التكرار هو المفتاح الرئيس في عملية غسل الأدمغة، فكلّما تمّ تكرار معلومة ما أمامك فإنها ومع مرور الزمن ستتركّز في دماغك لا سيما إذا كان هنالك بوادر بذلك.  هذا إلى جانب التركيز على الجانب العاطفي، حيث تعتبر العواطف من أسهل وأبسط الأمور التي يمكن التلاعب بها. هذا مع استخدام الأطفال والشخصيات العامة في الترويج، حيث يتمّ استخدام الأطفال في الترويج لفكرة معينة وذلك للاستفادة من براءتهم وكذلك استخدام الشخصيات العامة مثل الرياضيين والممثلين، وهذا يعتبر من التقنيات الشائعة في غسل الأدمغة.
هذا بالإضافة إلى العديد من التقنيات الأخرى التي تستخدم معنا.  وساهمت في تعزيز هذا وسائلُ التواصل الاجتماعي والمنتديات الموجودة على الشبكة العنكبوتية.

 

 

 

 

إعلان

اترك تعليقا