ظاهرة الجلاء الغامض (Paradoxical lucidity) – ترجمات

في عيد الميلاد عام 1999 في مدينة رابيد بولاية ساوث داكوتا، كان وارد بورتيرفيلد، 83 عامًا، في دار لرعاية المسنين. كان قد تم تشخيصه بالخرف (Dementia) قبل ثلاث سنوات؛ كان مرتبكًا ومشوشا وفي النهاية ما كان يستطيع التعرف على ابنته كاي. تقول كاي عن زياراتها له: ”عندما كنت أذهب لزيارته، ما كان يعرفني على الإطلاق“. في عيد الميلاد ذاك، رفض أن يأكل. قلت للممرضات: ”أحضروا له الجيلي، إنه يحب الجيلي، الجيلي الأحمر“. نظر إلي، بعمق شديد، وقال: ”إذن. أفترض أن الجيلي سيكون وجبتي الأخيرة. تحاولين تجويعي، أليس كذلك؟ كان ذلك مثل: ”ما الذي يحدث هنا؟“

لم تكن دهشتها في تماسك كلامه فقط، ولكن أن نبرة هذا الرد كانت بلا شك روح دعابة والدها. في وقت لاحق من تلك الليلة، أخبرت الممرضات كاي بأن الدموع كانت تنهمر على وجه وارد عندما زاره الأطفال ليغنوا له ترانيم عيد الميلاد. قالت له ممرضة ”لا تبكي“. نظر إليها وارد قائلاً: ”إذا كنت مكاني، فستبكين أيضًا“. ”هذه هي آخر ترانيم سأسمعها على الإطلاق“.

في صباح اليوم التالي عندما زارته، تعرف وارد على ابنته على الفور. وتحدثا مع بعضهما البعض في اليومين التاليين. تتذكر قائلة: ”كان الأمر كما لو أن عقله قد غاب لسنوات عديدة، ثم فجأة استعاده من جديد“. بعد يومين آخرين من ذلك، فقد وعيه، مات.

تسمى هذه الظاهرة ”الجلاء الأخير“ (Terminal lucidity)، وهي ظاهرة يستعيد فيها الأشخاص الذين لم تعمل أدمغتهم بشكل فعال لفترات طويلة من الزمن – غالبًا لسنوات عديدة، وغالبًا بسبب الأمراض التنكسية العصبية (Neurodegenerative diseases) مثل الخرف – باستعادة الإدراك والذاكرة فجأة والتفاعل مع محيطهم بطريقة متماسكة. ثم يموت الشخص بعد ذلك في غضون بضعة أيام، إن لم يكن ساعات.

إنها تجربة واعية فريدة، أبرزها عالم الأحياء الألماني مايكل نام في عام 2009 في دورية (Journal of Near-Death Studies)، بعد أن علم عنها من تقارير الحالات الطبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. نشر مقالاً عنها في الدورية المذكورة بالأعلى، وصاغ مصطلح ”الجلاء الأخير“. ومع ذلك، على الرغم من الاهتمام المتزايد وبعض الأبحاث (بما في ذلك الاستطلاعات والاستبيانات) على مدار العقد الماضي عن هذه الظاهرة، لم نقترب بعد من معرفة أسباب حدوثها. الآن، ومع ذلك، يأمل العلماء أن تُغير مجموعة من الدراسات من ذلك.

إعلان

يقول الدكتور باسل إلدادا أحد قادة مهمة البحث في هذه الظاهرة: ”في عام 2015، صادفت مقالًا في إحدى الصحف وصف موقفًا كهذا، واعتقدت أن ذلك مثير للاهتمام حقًا“. “حفظت الموضوع في عقلي، وفي عام 2017؛ فكرت: ”ربما هناك شيء يمكننا القيام به حيال ذلك“.

إلدادا هو المسؤول الطبي المشرف على قسم طب الشيخوخة وعلم الشيخوخة السريري في المعهد الوطني الأمريكي للشيخوخة (NIA). في عام 2018، أنشأ هو وفريقه ورشة عمل، ودعوا العلماء إلى إخبارهم بما تم تعلمه عن هذه الظاهرة حتى الآن. إلدادا وطاقم البحث في (NIA) قد أطلقوا علي هذه الظاهرة اسمًا جديدًا، ”الجلاء الغامض“ (Paradoxical lucidity). يقول: ”إن تسميتها بالجلاء الأخير يعني ضمنيًا أن هذه ظاهرة تحدث قبل وقت قصير من الموت“. “إذا كنت ستبحث عن هذه الظاهرة مستقبليًا، فلا يمكنك قول ذلك تمامًا“. أيضًا، دعنا نواجه الأمر، قد تكون المصطلحات غير مفيدة: ”إذا كنت تجند أشخاصًا في دراسة بحثية، فربما لا تريد أن تخبرهم: مرحبًا، سنبحث عن هذه الظاهرة التي تحدث قبل أن تموت مباشرةً“.

أسفرت ورشة العمل عن ورقة بحثية، نُشرت في دورية (Alzheimer’s & Dementia)، خلصت هذه الورقة إلى أن دراسة هذه الظاهرة قد توفر لنا “علاجاً مستقبليًا ممكنا للخرف”. يقول إلدادا: ”استنادًا إلى البيانات الأولية، أعتقد أنه من الآمن القول إن هذه الظاهرة موجودة، ومن المحتمل أنها منتشرة بدرجة أكبر مما كنا نعتقد أو نتوقع“.

أنا شخصيا لا أجد صعوبة في تصديق ذلك، فقد شاهدت ذلك بنفسي. في منتصف التسعينيات، انتقلت جدتي لأمي، كيتي لويس، إلى دار رعاية، بعد إصابتها بسلسلة من السكتات الدماغية الصغيرة وتم تشخيصها بالخرف. من هناك، بدأ سلوكها يتغير – هذه المرأة اللطيفة، المهذبة أصبحت عدوانية، وفظة بسبب الخرف. وتأثرت ذاكرتها بشكل كبير، كانت بالكاد تعرف عائلتها، على مدار سنتين، كانت غاضبة ومكتئبة ومرتبكة، لم ترغب في رؤية الناس. زرناها على أي حال، وجلسنا معها بينما كانت ترغب في الموت.

ثم، في أكتوبر عام 2004، نُقلت إلى المستشفى، بعد أن أصيبت بعدوى في المسالك البولية. لمدة أسبوع كانت بالكاد واعية، ولكن في يوم الأحد عندما زرتها أنا وأمي وأبي وابن عمي، كانت جالسة في السرير، تبتسم ونحن ندخل. خلال الساعتين التاليتين ضحكت ومازحتنا، لقد صارت مدركة وواعية تماما. كما استرجعت ذكريات حياتها، واستغللنا ذلك، لأنها أمتعتنا بمغامرات من ماضيها. أمي، التي كانت تعرف الكثير من هذه المغامرات، أكددت لنا بهدوء صحة ما تقوله جدتي. لقد عادت جدتي المضحكة والنابضة بالحياة من جديد. تتذكر أمي: ”عاد كل شيء إليها فجأة“. ”كان ذلك مثل صاعقة من البرق. اختفت الغيوم“. بعد أن غادرنا بعد ظهر ذلك اليوم، عادت جدتي إلى حالة شبه واعية، وسرعان ما لم تعرف من هي والدتي مرة أخرى، وتوفيت في غضون أيام.

يقول إلدادا: ”مثل هذه القصص هي التي تلهمنا لمحاولة القيام بشيء حيال هذا من منظور علمي“. عمله يمضي قدما الآن. الدكتور سام بارنيا، طبيب بريطاني متخصص في الرعاية الحرجة وأخصائي أمراض الرئة الذي عمل في الولايات المتحدة لمدة 15 عامًا، وهو أستاذ مساعد للطب في مركز لانجون الطبي بجامعة نيويورك في نيويورك. يقود دراسة من أجل إلدادا. يقول بارنيا: ”إذا تحدثت إلى ممرضات المسنين وأطباء الرعاية الحرجة والتلطيفية، فإنهم جميعًا يعرفون هذه الظاهرة“. ”لكن لم يدرسها أحد على الإطلاق على نحو لائق لأنه لم يخطر ببال أحد أن يأخذها بما فيه الكفاية على محمل الجد. لذا ما أردت فعله هو المساعدة في نقل هذه الظاهرة إلى المجال العلمي“.

يخطط بارنيا لرصد الأنشطة الدماغية الخاصة بخمسمائة مريض من مرضى الخرف في نهاية حياتهم بعد موافقتهم باستخدام أجهزة تخطيط الدماغ الكهربائية (EEG)، يقول بارنيا: ”سنحصل على صورة كاملة لما يقوله الشخص، وكيف يتصرف“. يمكن أن تكون النتيجة رائدة. يقول: ”إذا تمكنا من تتبع ما يحدث في الدماغ لدى هؤلاء المرضى، فقد نتمكن من إيجاد طرق معينة لتحفيز الدماغ لدى أولئك الذين هم للأسف في حالة من الخرف الكامل، ونحاول تحفيز الوعي لديهم“.

لا تحدث هذه التجارب الواعية الفريدة في مرضى الخرف فقط. يقول الدكتور مايور لاخاني، الرئيس السابق للمجلس الوطني للرعاية التلطيفية: ”لقد رأيت هذه التجارب في مرضى السرطان على وجه الخصوص“. أحدهم ما كان يستطيع التحدث بشكل متماسك لبعض الوقت، أصبح فجأة ”قادرًا على إجراء محادثة متماسكة جدًا معي ومع أسرته“.

شاهدت الطبيبة تينا ماكميلان، ظاهرة الجلاء الأخير مع والدها مارشال ماكميلان، الذي كان مصابًا بالسرطان النخاعي المتعدد. تشرح قائلة: ”عندما تبدأ أعضاء الشخص بالفشل، فإن فضلات التمثيل الغذائي تسري في مجرى الدم إلى الدماغ وتسبب الخرف“. ما جربته مع والدي هو أننا شاهدناه يتلاشى ببطء شديد. أصبح مرتبكًا. كان يعرف من نحن لكنه انسحب بشكل كبير من التفاعل معنا.

سلمت سيارة إسعاف مارشال إلى دار العجزة، بعد ذلك بوقت قصير، بدأ والدها ”يتلقى زيارات من أشخاص ماتوا بالفعل. ذات يوم دخلت ابنته فقال لها: ”هل ترين تلك الغرفة؟ كانت والدتك وجدتك وعمتك دوت هنا“ وهؤلاء جميعهم أناس ميتون.

ولكن في أحد أيام الجمعة، كان مارشال جالسًا في السرير يتحدث إلى شخص ما ويمزح من جديد – لقد عاد إلى طبيعته. أحضر له أحد الموظفين شرابه المفضل ”مخفوق الحليب“، لكنه رفضه. كان يدرك أنه لا يستطيع تناول مخفوق الحليب لأنه كان مصاباً بمرض السكري. في الأيام القليلة التالية، عاد إلى طبيعته القديمة، ولكن بعد ذلك انسحب مرة أخرى من التفاعل مع الناس، ومات.

لهذه التجارب الفريدة تأثير عميق على أقارب الشخص. بالنسبة لعائلتي، كان ذلك المساء مع جدتي بمثابة فرحة خالصة، لقد وازن تقريبا سنوات من الحزن. تقول كاي بورترفيلد عن تجربتها الشخصية مع والدها أن هذه التجربة قد جعلتها منفتحة لاحتمالية امتلاكنا عقولاً غير-مادية (أرواحًا)، ربما الجسد يعمل كمستقبل للروح (العقل) فقط – هذه هي الفلسفة الثنائية، ثنائية العقل والجسد الديكارتية (Mind-body dualism)، بالرغم من أن المادية (Materialism) – الإنسان مادة فقط والعقل هو الدماغ ولا وجود لأي عالم روحاني غير مادي – هي المسيطرة حاليا في المجتمع العلمي الغربي إلا أن هناك حاليا أعدادا قليلة لكن متزايدة من العلماء والفلاسفة الذين يجادلون ضد المادية لصالح نسخ مختلفة من الثنائية ومنها الثنائية الديكارتية.

يقول إلدادا: “إن هذه الظاهرة تجبرنا على التوقف والتفكير في نظرياتنا الحالية وفهمنا لطبيعة الخرف. توفر هذه التجارب الفريدة أدلة كافية على أن الخرف في الواقع قابل للعكس -وإن كان هذا العكس مؤقتًا، بشكل عابر- بالرغم من ذلك، فهناك عكس. وبالتالي فإن السؤال هو كيف يحدث ذلك؟“

على أقل تقدير، فإن معرفة المزيد عن مثل هذه التجارب الواعية الفريدة يمكن أن يساعد أقارب المرضى ومقدمي الرعاية لهم، وعلينا توخي الحذر، لأن الناس أحيانًا يعتقدون أن أحباءهم يتحسنون، وهذا ليس صحيحًا. يقول لاخاني: ”هذا أمل كاذب. لكنها فرصة للتواصل“.

قد يهمك: الألزهايمر .. ماذا تعرف عنه؟

 مقال مترجم بتصرف

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد عبد العزيز

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا