ضد التعاطف: التعاطف مشكلةً أخلاقية
اكتسب مصطلح التعاطف أهميةً كبيرةً عند الساسة وأصحاب القضايا في الأزمات العالمية الأخيرة، باعتباره عنصرًا رئيسيًّا لمساعدة الأقليات أو الضحايا مثلًا. ولكن هل هذا التعاطف الذي يُعامل الآن معاملة الدليل أو المرشد الأخلاقي يؤدي -فعلًا- الغرض الذي يدعَي أنه يقدمه؟ أم أنه -ببساطة- نوع آخر من أنواع العنصرية والتحيز لفئة معينة دون تقصي الموضوعية؟
ضد التعاطف: دراسة حول التراحم العقلاني
هذا هو عنوان الكتاب الذي نشره بول بلوم، أستاذ العلوم المعرفية وعلم النفس بجامعة ييل.
أوضح بلوم أنه حين كان يُسأل عما يكتب مؤخرًا ويرد قائلًا بأنه كتاب عن التعاطف، دائمًا ما تعلو وجهَ السائل ابتسامة رضا، لا يلبث بلوم أن يقتلها بأن يكمل كلامه: “أنا ضده”، وحينها تتحول البسمة لامتعاض، كأنه يقول -مثلًا- إنه عدو للهريرات الوديعة! ولكنه اعتاد هذا الأمر فيما بعد، وأدرك أنه عليه شرح عدم كونه ضد الفضائل والتراحم والحب والطيبة وكل هذه الصفات الجيدة، وأن وجهة نظره السلبية تجاه التعاطف تكمن في أن يضع الشخص نفسه محل غيره حين يتعرض لمصاب ما، ويجعل شفقته على هذا الإنسان مرشده الأخلاقي لتصرفاته فيما بعد.
ويجب التفريق بين “التعاطف” و”المشاركة الوجدانية” وأخيرًا “التراحم” الذي يراه بلوم حلًا مثاليًا لهذه المواقف. ووجهة نظر بلوم تماثل خاصةً رؤيةَ الفيلسوف الأخلاقي آدم سميث (1723-1790) صاحب كتاب نظرية الشعور الأخلاقي، وكلاهما يؤيدان أن يكون الشعور بالتعاطف أو الشفقة مستندًا على أسس من الإدراك والتعقل، وألا يكون مجرد عاطفة مستثارة تجاه شخص أو فئة فحسب؛ فهنا تتغير قرارات الشخص، إذ أن الإدراك والمشاعر ينبع كل منهما من منطقة مختلفة في الدماغ.
ليس مجرد رد فعل طبيعي:
يجعلنا التعاطف -في أغلب الأحيان- نسلط الضوء على فرد واحد أو جماعة من المحسوبين على الأقليات. ورغم أن هذا ربما يكون له أثره الإيجابي، إلا أنه يؤدي -في أوقات كثيرة- للتحيز والظلم؛ فلا يصبح القرار جيدًا أو حقيقيًا، لأن القرار الصائب يجب أن يكون صادرًا من العقل الحيادي والنزيه. فنجد أن تعاطفنا يصبح موجهًا عندما يكون من نتعاطف معه على صلة بنا أو مشتركًا معنا في شيء، حتى لو كان تشجيعَ نفس فريق كرة القدم مثلًا. وقد أقيمت هذه التجربة -بالفعل- في أحد معامل البحوث، حيث أخضعوا أدمغة مجموعة من مشجعي كرة القدم لأجهزة الرنين المغناطيسي، وحين خضوع أحدهم للتجربة، يدفعون غيره للسقوط ويخبرون المشجع أنه يشاركه تشجيع نفس الفريق، فكان تعاطفهم معهم كبيرًا وظهر هذا في صورة الرنين؛ بينما حين أخبروا آخرين أن الشخص الذي تعرض لنفس السقطة هو مشجع للفريق المنافس، لوحظ أن درجة تعاطفهم قلت بدرجة كبيرة.
هنا نرى جليًا أن التعاطف النفسي فيه الكثير من التحيز، وليس مجرد رد فعل بديهيًّا أو أخلاقيًّا فعلًا.
التعاطف سلاحًا:
في محاولاتنا لفهم العالم من حولنا، يكون من المهم دومًا أن نعرف كيف يفكر الآخرون، وكيف يتعاملون مع مشاعرهم، وكيف تستثار تلك المشاعر أصلًا. وفي هذه الحالة ندرك كيف أن التعاطف قد يكون نوعًا من الذكاء الاجتماعي، ومثل أي نوع من أنواع الذكاء، بإمكاننا توظيفه لخدمة الخير أو الشر على حد سواء. فنرى أن المجرمين والقاتلين المحترفين والسيكوباتيين، كل منهم يضع نفسه مكان ضحيته ليستنتج كيف يفكر وبماذا يشعر، كي يوجه ضربته في الوقت المناسب. والمجرمون ليسوا وحدهم في ذلك، بل يشاركهم السياسيون الذين يزجون بكلمة “التعاطف” في أغلب خطاباتهم وحواراتهم، ويعمدون إلى إثارة عواطف جماهيرهم ومؤيديهم نحو فئة معينة. ومن أشهر مستخدمي هذه الطريقة -مثلًا- دونالد ترامب، الذي لا يكف عن حكاية وحياكة القصص عن القتل الممنهج والإرهاب والاغتصاب، بإرجاع هذه الجرائم إلى المسلمين أو المهاجرين غير الشرعيين، مما أغضب الناس وحثهم على كراهية هذه الفئات دون تقصي الحقيقة، والحكم عليهم بناءً على عاطفتهم بدلًا من ذلك.
التعاطف والعنف؛ هل العلاقة طردية؟
قد يثير هذا المقال تساؤلًا حول سلوك العنف أو العدوانية عمومًا؛ فهل الأشخاص الأعنف والأكثر عداءً للغير، هم أقل شعورًا بالتعاطف والشفقة؟ فحتى الكاتب يرى أنه من الممكن تخيل وجود علاقة طردية بينهما. ولكن الأبحاث الأخيرة توصلت لنتيجة مختلفة، إذ أعرب مؤلفو كتاب “اللاعلاقة بين التعاطف والعدوانية” عن أن نسبة 1% من حالات العنف المختلفة قادها التعاطف في المرتبة الأولى. لهذا فقبل الحكم على علاقة العنف والتعاطف بصورة طردية، وقبل الحكم على الشخص العدواني أو المجرم بأنه قام بالفعل المعني بسبب تعاطفه مع فكرة أو شخص، ربما يجب إخضاعه أولاً للتشخيص النفسي، وبعض الاختبارات، والأشعة الدماغية. وربما يكون ذلك ردًا مناسبًا على عالم النفس الشهير “سايمون بارون كوهين” صاحب كتاب “علم الشر: حول التعاطف وأصل قسوة الإنسانية”، الذي عبر عن فكرة أن الشر قد لا يكون أكثر أو أقل من انعدام لقيمة التعاطف والشفقة والإحساس بمعاناة الغير.
الفرق بين التعاطف والتراحم:
يرى بلوم أن الفرق بين التعاطف والتراحم هو فرق ملحوظ، والدمج بينهما يضيق حيز البحث ويصعب شرح كل منهما. فالتعاطف -عند بلوم- يحفز ضيق الأفق والظلم، بينما التراحم يجعلنا أكثر موضوعية. وقد أوضح ذلك في إحدى الندوات الثقافية بمثال، بافتراض إصابة فتاة صغيرة بمرض خطير، ووصولها إلى مرحلة تستعصي على العلاج، ولكن شعورها تجاه الموت يخيفها ويؤلم أسرتها؛ في هذا الوقت سيقول أي إنسان تحكمه المشاعر وحدها إن المشفى عليه أن يعطي هذه البنت كل الأدوية التي تساعدها على الامتثال للشفاء، رغم قلة وجود هذه الأدوية. وهذا، بشكل ما، سيؤثر في صحة أطفال آخرين قدرتهم على الشفاء أكبر، وبالتالي قد يكونون أحق من هذه الفتاة بالدواء. هنا يكون التعاطف معها إنسانيًا، لكنه لا يكون أخلاقيًا عندما يحركنا نحو المناداة بحقها في الحصول على دواء لن يمكنه إنقاذ حياتها أبدًا. السؤال الطبيعي في هذه الحالة سيكون: “ما البديل؟”
البديل -ببساطة- هو القدرة على الاستماع إلى مشاكل من يمرون بمصاب ما، أو الأقليات، أو المنكوبين. ويمكننا -من وجهة نظر بلوم- أن نقدم لهم الحلول المعقولة والمقبولة، وأن نمدهم بالدعم النفسي، دون أن نقحم أنفسنا داخل معاناتهم، ودون أن نجعل الشفقة عليهم والتعاطف معهم يثيران الغضب والعنف داخلنا.
هل التعاطف هو ما يجعلنا أشخاصًا جيدين؟
هنا نستطيع أن نقول إن زيادة درجة تعاطفنا مع الغير، بوضع أنفسنا في أمكنتهم ومحاولة الشعور بمعاناتهم، ليست هي ما تجعلنا أناسًا جيدين؛ وكذلك: انخفاض درجة هذا التعاطف لا يجعلنا سيئين أو أشرارًا. فالتعاطف والغضب كلاهما يشتركان في الكثير والكثير، وكلاهما صفات تأصلت فينا منذ الطفولة، والمهم هو التحكم في كليهما على نحوٍ أكثر موضوعية وعقلانية. فنحن نصبح جيدين إذا ما تعودنا على مساعدة الغير بدون محاكاة ألمهم في عقولنا، فنسمعهم ونتفهم مرارة ما يمرون خلاله، لكننا لا نصبح سيئين -فعلًا- إذا نحينا أنظارنا عنهم. والتعاطف شعور متأصل فينا، مثله مثل الغضب والحب والسعادة: ليس علينا إلا التعقل في توجيه كل منهم.
وأخيرًا، نقتبس قول الكاتب في حوار له مع جريدة نيويورك تايمز: “إن العاطفة منسوجة في عقولنا، وهذا الأمر جيد، على الرغم من أن المشاعر وحدها لا تجعلنا أشخاصًا صالحين، إلا أنها عناصر أساسية في حياتنا الأخلاقية.”