شيفيلد فوتبول: سِفر التكوين

شيفيلد فوتبول، المكان: طاولةٌ عليها الكثير من صنوف الشراب والمقبّلات بحانةِ الماسونيين في مدينة “هولبورن” الإنجليزية، في إحدى ليالي أكتوبر العاصفة، تحديدًا ليلة السادس والعشرين من أكتوبر لعام ١٨٦٣م، على رأس الطاولة يجلس رجل إنجليزيّ ينادونه قائدًا لنادي “بارنز”، يدعى “إبنيزر كوب مورلي” ببذلته الداكنة وجسده الرياضيِّ المفتول.
بعد لحظاتٍ من دخول الرجل، كانت كرةُ القدم على موعدٍ سيغيّر شكلها إلى الأبد. بدأ النقاش بين الحضور حول ماهية اللعبة التي يحلمون بها، فكرة القدم حتى ذلك الوقت كانت مجرَّد لعبةٍ شعبية غوغائية بلا قواعد تنظمها، وبلا رابط مشترك يجمع بين متنافسيها، وكانت النتيجة منافساتٌ مُربكة بشدة، لذلك كان لا بدَّ من إيجاد صيغةِ تفاهمٍ بين الأندية لتقبع تحت مِظلةٍ واحدة تنظم طريقَها وتجعل من التنافس أمرًا ذا جدية.

كانت تلك الأشياء أحلامًا تراود “مورلي“، المحامي الأرستقراطي، قبل تلك الليلة هو يعلم جيدًا إمكانات اللعبة ويعلم أن تنظيمها عملٌ صعب سيترتب عليه الكثير، لذلك أرسل تقريرًا إلى صحيفة Bell’s Life of London الرياضية شرح فيه فكرته والقواعد التي يراها صالحة، ولكنه قوبل برفضٍ اعتبره الرجلُ منطقيًا، فالإنسانُ بطبعه يخاف من أيةِ أفكار ثوريّة، ويرضى بما لديه عادةً؛ خوفًا من أن يفقدَه بعد أيِّ محاولةٍ للتغيير.

لم ييأس الرجل وحاول مرةً أخرى، اتصل بكبار الرياضيين في البلاد لعقد اجتماعٍ لمناقشةِ تنظيمِ اللعبةِ الشعبيةِ الأولى في البلاد، وبعد فترةٍ من المباحثات، وافق الرجال على الاجتماع معه في ليلة السادس والعشرين من أكتوبر المجيدة.

خلص الاجتماع إلى تنفيذ عدةِ مفاهيم أهمها تأسيس اتحاد كرة القدم (FA)، ليكون المظلةَ التي تنظم عمل الأندية، مع شغل “مورلي” لمنصب الأمين العام، وتضمن المسودة الأصلية للاتحاد على 23 قانونًا تتبناها الفرق الأعضاء.

كانت ليلةً تاريخيَّةً بلا شك، لم نكن لنصل إليها إذا لم يجلس على طاولة المفاوضات عددٌ من الأندية، مثل: بارنز، وبلاكهيث، وبيرسيفال هاوس، ومدرسة كينسينغتون، ومكتب الحرب، وكريستال بالاس، وفورست (المعروف لاحقًا باسم واندررز)، وشيفيلد فوتبول، أنديةٌ تؤمن بالفكرة وتحارب من أجلها.

إعلان

يمكننا إذن أن نستنبط من هنا فكرةً منطقيةً للغاية: الأندية ظهرت أولًا ثم ظهرت القوانين المنظمة لها، لكن التساؤل الذي يراودني حقًا هو: مَن ظهر قبل الجميع؟

دعنا إذن ننطلق من هذه النقطة الجوهرية إلى عام ١٨٤٨م أي قبل اجتماع “هولبورن” الشهير بحوالي ٢٠ سنة، لنتعرف على قصة تأسيس النادي الأول في التاريخ، حين كان كلُّ شيءٍ أكثرَ فوضوية.

جامعة كامبريدج.. لأننا نكره “تارانتينو”

“قمتُ بتنظيف الطاولات وقدمت أقلامًا وأوراقًا، أحضر كلُّ رجلٍ نسخةً من قواعدِ مدرستِهِ، كان تقدُّمُنا ​​في صياغة القواعد الجديدة بطيئًا لكننا نجحنا في النهاية.” – تصريح منسوب لأحد القائمين على اجتماع كامبريدج 1848.

في القرن الثامن عشر، كانت كرةُ القدم تُلعب في معظم المدارس العامة في إنجلترا، لكنها كانت لعبةً قاسيةً للغاية، تتمتع بقدرٍ كبير من العنفِ الجسدي، في الواقع كان يمكنك أن تفعل أيَّ شيءٍ أقلَّ من القتل للحصول على الكرة.

طريقةٌ في اللعب قد تعجب المخرج الأمريكي الشهير “كوينتن تارانتينو“.

(حواراتٌ مربكة، الكثير من الدماء، أشلاء متطايرة هنا وهناك، ونهايات سوداوية)، وهذا بالضبط ما يمكن إسقاطه على كرة القدم في تلك الفترة، لعبةٌ عنيفةٌ وغيرُ مأمونةِ الجانب، تخلّف وراءها الكثيرَ من الضحايا، سواء بالإصابات الخطيرة، أو بالوفاة في بعض الأحيان.

لكن وعلى الرغم من ذلك، ظلَّ الحالُ كما هو عليه لوقتٍ طويل، حتى جاء العام 1848، والذي تقرر فيه عقدُ اجتماع في جامعة كامبريدج لوضع القواعدِ المبدئيةِ لكرة القدم، بمشاركةِ معلّمين من مدارس مثل: شروزبري وإيتون وهارو ورجبي ومارلبورو وويستمنستر. [إدواردو غاليانو: كرة القدم بين الشمس والظل، ص21]

كانت كلُّ واحدةٍ من تلك المدارس تضع قواعدَها الخاصة وتعتمدُ على مفهومها في اللعب، مثلًا: تركزت كرةُ القدم في “شروزبري” و”وينشستر” و”شارتر-هاوس” على المراوغات مع الاهتمام بسرعةِ ودقةِ التسديد، وذلك نظرًا لأن الطلاب كانوا يمارسون اللعبة داخل أروقة دير “كارثوزيان” القديم مع مساحةِ لعبٍ محدودةٍ للغاية، لذا كان من المنطقيِّ أن يعتمدَ اللاعبون المراوغةَ كخيارٍ أوَّل، في حين أن مدارس مثل: “إيتون” و”هارو” كانت لديها ملاعبٌ كبيرة لدرجة أنها طورت لعبة تتضمن ركلَ الكرةِ لمسافات طويلة.

هذا بالطبع ما سيؤثر على فكرة المتعة الناتجة عن ممارسة اللعبة، لذا قرر القائمون على اللعبة عقدَ ذلك الاجتماع في كامبريدج للتوصل إلى حلٍ وسط يجعل للعبةِ مفهومًا أكثرَ جاذبية. ومن هذا المنطلق ظهر مصطلح: “قواعد كامبريدج” للمرة الأولى؛ وهي مجموعةٌ من 11 قاعدة يمكن للجميع الاتفاق عليها.

تم طبعُ هذه القواعد على الأشجارِ المحيطة بقطعة باركر، ومن هذه النقطة تحديدًا بدأتْ كرةُ القدم في غزو العالم.

نمبر وان

الرحلةُ التي بدأناها معًا قطعتْ مسافةً تقدّرُ بعشرين عامًا، ويبدوا أنك شعرتَ بالملل، لكن قبل أن تغلق لديَّ خبران أريدُ أن أخبرك بهما: الأول أن رحلتنا شارفت على الانتهاء، والثاني أننا الآن في خريف عام 1857، حيث اللاعبين “ناثانيال كريسويك” و”ويليام بريست” أعضاء نادي “شيفيلد” للكريكيت جالسين على ضفاف بحر المانش في نزهة خريفية، عندما لمعت في عقولهما لأول مرةٍ فكرة إنشاء نادٍ لكرة القدم بهدف التمرين الشتوي.

هنا يجدر الإشارة أن لعبة الكريكيت تعد لعبةً جوهرية في تأسيس أنديةِ كرةِ القدم، حيث كان جميعُ لاعبي كرةِ القدم الأوائل تقريبًا لاعبي كريكيت يبحثون عن بعض التمارين خلال أشهر الشتاء، وهذا بالضبط ما حدث لنادي “شيفيلد” لكرة القدم.

في ذلك الوقت كانت مدينة “شيفيلد” مركزًا رائدًا لتصنيع الصُّلب في العالم، حيث كانت تنتج نصف إنتاج أوروبا وحدها. ورغم ذلك، كان الفقرُ المدقعُ يعد مظهرًا مميزًا للمدينة أيضًا، لذا ظهر شعورٌ بأن ممارسة الرياضة يمكنها المساعدة في التعافي من آثار الحياة غير الآدمية التي يعيشها البشر في ضواحي المدينة.

وهو ما حدا بـ”ويليم بريست” أن يعرض الفكرةَ على رئيس النادي، والذي وافق على الفور، ليكن تأسيس نادي “شيفيلد فوتبول” رسميًا في 24 أكتوبر 1857 في “بارك فيلد هاوس”، حيث كان مقرُّه الأول صوبة زجاجية في “بارك هاوس”.

التأثير

كان “كريسويك” و”بيرست” مسؤولَين عن وضع قواعد اللعب في النادي، تلك القواعد التي نعرفها الآن باسم “قواعد شيفيلد” تم إقرارها في الجمعية العمومية للنادي بتاريخ 21 أكتوبر 1858 مستندة على قواعد كامبريدج. كان للقواعد تأثيرٌ كبيرٌ على اللعبة الحديثة، حيث ما يزال الكثير منها يتم تطبيقُهُ حتى يومنا هذا، بما في ذلك ركلة بداية المباراة من منتصف الملعب والركلات الركنية واستخدام العارضة.

في عام 1860 تم تشكيل نادي “هالام” لكرة القدم الذي لعب ضد فريق “شيفيلد” مباريات منتظمة، مؤسسين بذلك أول ديربي عرفه التاريخ، المدهش أن الفكرة راقت للجميع، فبعد ذلك بعامين فقط كان هناك خمسة عشر ناديًا يلعبون مبارياتهم في منطقة “شيفيلد”، وكلهم يستخدمون قواعد شيفيلد، ليشكّلوا النواةَ الأولى لاتحاد كرة القدم (FA).

كان “هاري تشامبرز”، الذي تم تشكيل شيفيلد في منزله، حاضرًا كمراقبٍ عند إنشاء اتحاد كرة القدم، كما شارك في أوَّلِ مباراةٍ نظامية عرفَتْها كرةُ القدم على الإطلاق.

كما لعب “ويليام تشيسترمان”، سكرتير النادي، دورًا خطيرًا في الأسابيع الأولى لإنشاء اتحاد كرة القدم الجديد، حيث كتب خطابات تتضمن رسوم الانتساب، وأرسل نسخةً من القوانين التي تُلعب في شيفيلد، لتظهر قوانين الاتحاد الجديدة متشابهة في الكثير من الخصائص مع تلك الموجودة في شيفيلد، بل يمكننا القول أن القاعدةَ الرئيسيةَ المختلفة كانت “قاعدة التسلل”، عدا ذلك فمعظم القواعد التي تم وضعها في “هولبورن” كانت وليدة لحظة فارقة في تاريخ كرة القدم (ليلة الرابع والعشرين من أكتوبر لعام 1857).

أن تَظل وفيًا لمبادئك

في عام 1871، أعلن “تشارلز دبليو ألكوك”، سكرتير اتحاد كرة القدم، عن تقديم أول مسابقة لخروج المغلوب أو ما بات يعرف باسم “كأس الاتحاد الإنجليزي”(FA CUP)، بمشاركة 12 ناديًا في المسابقة هم: “واندررز” و”رويال انجينيرز” و”هيتشن” و”كوينز بارك” و”بارنز” و”الخدمة المدنية” و”كريستال بالاس” و”هامبستيد هيثنز” و”جريت مارلو” و”أبتون بارك” و”مايدنهيد” و”كلافام روفرز”.

قد تلاحظ أن النادي الذي وضع الأساس لكل هذا الزخم لم يتم ذكر اسمه في القائمة، وقد تتعجب من هذا الأمر! وتتساءل: لماذا لم يشارك نادي “شيفيلد” لكرة القدم في بطولة بهذا الحجم؟ بل قد تأخذك الجلالة وتسأل سؤالًا أعمق: لماذا لم نسمع عن نادٍ يسمى “شيفيلد” لكرة القدم من قبل؟

الإجابة ببساطة أن النادي وجد صعوبةً في العثور على المال للسفر إلى العاصمة، كما كان على كلِّ نادٍ أن يساهم بجنيه إسترليني واحد في تكلفة الكأس الفضية البالغ 20 جنيهًا إسترلينيًّا، وهو ما لم يستطع النادي أن يوفرَه؛ ولذلك تأخّر انضمامه إلى المنافسة حتى موسم 1873-1874 لكنه لم يقدم الأداء المطلوب، وخرج من الدور الثالث بعد اصطدامه بنادي “كلافام روفرز” الذي كان سببًا في خروجه من البطولة.

أما عن إجابة السؤال الثاني، فيمكننا القول ببساطةٍ أكبر أن النادي قرّر ذلك، قرر أن يعيش في الظلام إلى الأبد، أن يظل ناديًا للهواة يلعب في الدوريّ الشمالي الممتاز -قسم واحد جنوب- بعد رفضه الانضمام إلى دوريّ كرةِ القدم عند تشكيله عام 1888، راضيًا بحصده لكأس الاتحاد الإنجليزي للهواة في موسم 1903-04، منتشيًا عندما يذكره الناس بأنه الذي وضع اللبنة الأولى لكل ذلك، ومتمسكًا بمبادئه التأسيسية التي قامت على قيمٍ ثلاث: “النزاهة، الاحترام، المجتمع”.

نقاشات كـرة القدم: كيف تحكمنا الانحيازات؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمود ليالي

تدقيق لغوي: مريم حمدي

اترك تعليقا