سوريا مهوى القلب الجريح
“في بلدتنا يذهب ديك ويأتي ديك.. والطغيان هو الطغيان
يسقط حكمٌ لينينيّ.. يهجم حكم أمريكيّ
والمسحوق هو الإنسان”
حزني عليكِ يا سوريا، حزني عليك يا شام الجمال والأحلام، لم أحبّ بلدًا بعد مصر كما أحببت سوريا.
كثيرًا ما كنت أستمع إلى أصدقائي يتحدّثون عن السوريين الذين يقطنون البلاد المجاورة لبلدتنا بعد خروجهم من بلادهم بعدما قاسته بلادهم من ويلات الحروب، واستقرارهم بمصر ولكن لم يحدث أن رأيت أحدًا منهم قبل دخولي الجامعة، رأيتهم بعدما خرجت للجامعة ورأيت بها كل الطبقات المختلفة من المجتمع وكذلك كلّ الجنسيات الوافدة لها والتي كان السوريون من بينهم.
سوريا بالنسبة لي وبلاد الشام بشكل عام تشكّل حلمًا وحبًا وهوىً من نوع خاص لا أملك له تفسيرًا ولا سببًا مقنعًا، ولا أعرف كيف بدأ ومنذ متى، كلّ ما أدركه أني حينما أدركت الدنيا وأدركت البلاد من حولي لم أحبّ بلادًا بعد حبّي لمصر مثلما أحببت سوريا وبلاد الشام لسبب ما، لسحر ما جذبني لها وأوقعني بغرامها، ودفعني إلى محاولة متابعتهم بشكل خاص، حيث كان يجذبني إعلامهم وثقافة مذيعيهم؛ القدرة على الحوار، والهدوء والاتزان في إدارة الحوار. كنت أحب متابعة المسلسلات التي تنتجها سوريا وكنت أرى أنها من أهم ما يتمّ إنتاجه في الوطن العربي. سوريا بالنسبة لي كانت رائدة الدول في تقديم المسلسلات التاريخية وبخاصة الفصحى منها، أول ما تعرّفت على جبران خليل جبران كان من خلال الدراما الخاصة بهم التي قدمت جبران خليل جبران في مسلسل كانت تذيعه إحدى القنوات السورية على مدار ما يقارب الثلاثين حلقة، أحببته وأنا لم أكن أعرف عنه شيئًا، من الممكن أنني قد كنت سمعت الاسم يتردّد ولكنني عرفت عنه أكثر من خلال المسلسل. نعم، ليست المسلسلات مصدرًا تاريخيًّا يُعتمد عليه بالأساس، ولكن المسلسل قدّمه بشكل بسيط دفعني إلى البحث عنه أو على الأقل جعَل اسمه عالقًا بذاكرتي ودفعني بعد ذلك لمحاولة القراءة له.
الفصحى في الدراما السورية خلابة ومتميزة، الممثلون السوريون متميزون للغاية في تقديم أدوارهم المختلفة، كانت القنوات السورية من أكثر القنوات متابعة على التلفيزيون عند مشاهدتي له، سوريا كانت بمثابة حلم من الأحلام التي أريد تحقيقها، كنت اتمنى، وما زلت، زيارتها والتجول بها وزيارة معالمها التاريخية، عشقت دمشق وحلب وأنا لم أزرهما وأدركت حمص وحماة، فضلًا عن الجولان المحتل وغيرها من أسماء المدن التي تتميز بها سوريا وبالتاريخ الممتد على مَرّ الزمن. سوريا كانت من الإجابات الأولى التي أجيب بها عندما يسألني أحدهم “إلى أين تريد أن تسافر؟” كنت بلا تردد أجيب: سوريا، مساجدها ومعالمها السياحية سوق دمشق والجامع الأموي الكبير وغيرها وغيرها. كل هذا ولم أزرها، فماذا أنا فاعل عندما تطأ قدماي أرضها؟
اندلعت الاحتجاجات بسوريا وما أن تحوّلت لثورة لتعنُّت النظام الحاكم هناك وتعنُّته في التعامل مع الأحداث ومع المتظاهرين ورفضه الاستجابة لمطالبهم أو حتى الحوار معهم ومعرفة ماذا يريدون، تحولت لثورة شعب يأمل في التغيير للأفضل ولتغيير حياته، ولكن لتعنّت النظام المستمر ورغبة الأنظمة الخارجية الطامعين في سوريا في نهب خيراتها وتدميرها استغلوا الأمر بشكل سيّئ لمصالحهم؛ وتحولت الثورة لحرب أهلية طاحنة بين النظام الحاكم وبين عرائس الجهات الخارجية المحاولة استغلال الوضع لصالحها.. والمسحوق، كما يقول نزار، هو الإنسان.
كلّ هذه التطورات كنت أتابعها بشغف حول البلد الحبيب الأقرب إلى قلبي بعد مصر، أتابع ما يجري وما سيجري وأحاول فهم ما يحدث، كنت أتابع ما يحدث بكلّ البلدان المجاورة؛ ولكن متابعة ما يجري بسوريا مختلفة كل الاختلاف عن غيرها من البلدان، أتابع بكل شغف ما يحدث بوطني الثاني الذي لما تطأه قدماي قط، أتابع كمن أخرجوه قسرًا منه. تغيّرت متابعتي للأحداث بتطور الزمن وبتغير تفكيري: تارة أرى هذا الصواب وتارة أرى هذا الصواب ومؤرجح بين الكل وبين الجميع، ولكن كلّ ما أدركه، بأنّ فيضان الدم الذي انفتح هذا كان من السهل تجنبه لو أن الحكام يستمعون لصوت الشعب ولو أن كلّ ما يهمّ الحكام هو مصلحة الوطن والشعب، لكانوا فوّتوا الفرصة على الطامعين بسوريا ولكانت ستتجاوز سوريا أزمتها التي امتدت لسنوات ومازالت مستمرة بلا هوادة وبلا رحمة.
في كلّ تلك السنوات لم يهمني شيء سوى سوريا والمواطن السوري والبلد الذي تدمر، تتمزق سوريا ونياط القلب تتمزق معها، أتابع ما يحدث من تدمير على يد الجميع وأسبّ الجميع.. جميع من كانوا سببًا في إيصالها لذلك الحال.
لا شيء مهم في الدنيا قدر دم الإنسان. وما ذنب كل القتلى الذين يموتون كلّ يوم بدون سبب وبحرب طاحنة انحصروا بها دون أن يملكوا بأن يدفعوا ويلاتها عنهم؟ الكل يدّعي بأنه يريد تخلصيها من الهلاك الذي تم والكل يدّعي بأنه قادم لحماية سوريا والمواطنين، أيُّ حماية تقدمونها بأسلحتكم وبمخططاتكم اللعينة لتثبيت نفوذكم في سوريا! والكل يتاجر بالقضية السورية، ولا أحد يرى بسوريا سوى غنيمة يتقاتلون عليها لا يرون البشر بها، فهم عددٌ يتاجرون به: كلما زاد القتلى وزادت أعداد المصابين كلما خدموا قضيتهم بشكل أكبر.
أرى السوريين بكثرة حولي حيث أذهب، أرى محالهم التجارية التي افتتحوها بعد استقرارهم بمصر، أشعر بحزن وبسعادة في نفس الوقت؛ سعادة لقدرتهم على استمرار الحياة بمصر وبهروبهم من ويلات الحروب التي مزقت جسد الوطن السوري، وأحزن بشدة على ما وصلت إليه سوريا وما يدور بها. ولا أحد يعمل على ايقاف آلة الحرب هناك الكل يدّعي بأنه يفعل ولا أحد يفعل ذلك.
لم أعد امتلك القدرة على متابعة ما يدور من أحداث بها، ولم يعد يهمّ لديّ مَن قُتِل اليوم ولأيّ طرف يُقتَل، ولم يعد يهمّ من يقف بجانب من ومن خرج على صفحات التواصل الاجتماعي ليدافع عن قتلى أحد المناطق وتناسى قتلى وشهداء المنطقة الأخرى، لم يعد يهمني إن دافع أحدهم عن قاتل يقوم بقتل السوريين في منطقة ويهاجم قاتلًا آخر لا يكفّ عن القتل هو أيضًا.. وفي كل الأحوال، الاثنان قاتلان لا فرق بين هذا وذاك، ولكن فيما يبدو بأن الفَرق بصفّ من تقف حتى تدافع، لم يهمني كل هذا، كل ما بِتُّ أهتمّ به هو الخلاص من ذلك الكابوس الذي يمتدّ لسنوات طويلة ولا ينتهي، لم يعد يهمني سوى السوريين وعودتهم لبلادهم ليعمّروها من جديد وتعود سوريا الوطن الثاني الذي أهفو لزيارته في يوم من الأيام، رغم كل ما يحدث ما زالت تلك الرغبة لديّ.
لم يعد يهمني أحد ولا مدافعين عن شخص أو متحدثين باسم سوريا وغير سوريا، لأنّه اتضح لي على مَرّ السنوات التي مضت بأننا جميعًا، بما فينا المواطنين العاديين، كلٌّ منا يدافع عن الجانب الذي يحب أن يدافع عنه، فيرى الصورة كما يحب ويتغافل عن أخريات، يرى تلك الفئة مجرمة فيقيم الدنيا عليها، ورغم وجود فئات أخرى لا تقل إجرامًا عنها ولكنه يغض الطرف عنها، هذا إن لم يبرّر لها اجرامها، لم نعد ندافع عن حقّ الإنسان السوري في العيش والخلاص من كل ذلك الدمار ولكن ندافع عن توجهاتنا إلا من رحم ربي بكل تأكيد.
لم يتغير شيء بعد وفاتك يا نزار، بعد مرور السنوات وتتابع الأحداث، وما زالت جملتك التي قلتها عند إلقائك إحدى قصائدك الصالحة لتلك الأيام بأن “لا يزال العرب هم العرب والقصيدة هي القصيدة”.