ماركس وسُلطة العمل
في سبت ماركس، ليس بالضرورة أن تكون ماركسياً أو هيجلياً أو ليبرالياً حتى تستمتع بهذه المقالات، إنها رحلة في تاريخ الفكر الإنساني، مدعو إليها جميع أصدقائنا من المفكِّرين والفلاسفة والفنانين والعلماء من أوَّل التاريخ البشري إلى هذه النقطة في تاريخ الزمن حيث نعيش.
وإن كان ماركس يلعبُ دور البطولة في هذه القصة الفكرية الممتدة، فليس لأنَّ أحدهم أهم من الآخر، لكن لأنَّ ماركس لم ينفد بعد ولم ينتهِ عمله.
الجميع مدعوون إلى هنا، حتى أعداء ماركس الفكريين، ليعبِّروا عن أنفسهم بحرية، هكذا يصعد كل الشخوص علي خشبة المسرح، كأيِّ دراما حقيقة غير مفتعلة عن الواقع، إلى نهايةٍ لا نعلمها بعد.
ماركس وسلطة العمل
محمد كمال
لم يهتم أحد في العصر الحديث بتشريح النشاط الانساني المسمَّى بالعمل مثل (كارل ماركس)، فقد اهتم بتاريخ العالم كتاريخ للعمل أو بتعبير أدق “كعلاقات للإنتاج تشكل التاريخ البشري نفسه”.
نستطيع أن نفهم من بعض مؤلفاته مثل (نقد الاقتصاد السياسي ) أو (رأس المال) كيف تطور مفهوم العمل وكيف شكَّلت علاقاتُ الإنتاج -عبر التاريخ- علاقاتِ السلطة والتراتبية داخل المجتمعات، حتى في عصرنا الحالي هذا، ولكن السؤال الذي لا يمل من القفز أمامك طوال قراءة ماركس: ما الحل؟
هنا يجيب ماركس بكتاب قد صدر قبل رأس المال بأعوام وهو (البيان الشيوعي)؛ ما مُلَّخصه أنَّ الحل هو اتحاد القوى العاملة لتشكيل الكيان السياسي الذي يمثل (دكتاتورية البروليتاريا) ليدير الاقتصاد وفقًا لأهداف اجتماعية تصبو لرفاه العامة بعيدًا عن أطماع وجشع الرأسماليين.
عند (ديكتاتورية البروليتاريا) نتوقَّف قليلًا ونسأل هل يمكن للبروليتاريا أن تمارس ديكتاتورية؟ ، هل يمكن أن تمارس سلطة من الأساس؟
إنَّ الصورة الذهنية التي تطالعنا ونحن نقرأ “سلطة العمل” في بداية المقال، تظهر مباشرةً في صورة المدير وهو يقرّع موظَفيه .
الحقيقة أنَّ علاقات السلطة كما أشار ماركس ليست علاقات هابطة من أعلي لأسفل وحسب، لكنها تذهب في الاتجاه الصاعد أيضاً، وهذا يأخذنا لتشريح مفهوم (السلطة) وكيف تتمظهر (أي تنتقل بكامل حمولتها) خلال العلاقات الاجتماعية المختلفة، وهناك العديد من المصنفات التي أفردها منظّرون -اشتراكيون وغير اشتراكيين – منهم باكونين و كروبتكين و فوكو لاحقًا، فباختصار يمكننا أن نُعرّف السُلطة على أنها : القدرة على الإكراه-المباشر وغير المباشر-على الفعل طبقًا لرغبة الطرف الممارس للسلطة.
كيف أدرك ماركس أن العمال قادرون علي ممارسة السلطة؟ هكذا يمكننا أن نسأل السؤال على نحوٍ مختلف، وهو السؤال الذي حاول كارل ماركس الإجابةَ عنه بشكلٍ مفصَّل في ثلاثة مجلدات متصلة أسماها رأس المال.
جاء التأسيس للإجابة من قوانين الجدل الهيجلية الذي تبناها ماركس كطريقة في التفكير:
– قانون وحدة المتناقضات وصراع الأضداد.
– قانون تحول التغير الكمّي إلى تغير الكيفي.
– قانون نفي النفي.
حيث رأى ماركس أن هناك صراعاً بين الضدين: رأس المال الهادف للربح قبل أي شيء، والعامل الذي يتم استغلاله -بالمنطق الاقتصادي-.
من مصلحة العامل في السوق الرأسمالي أن يسعى نحو زيادة حصته من الأرباح من خلال زيادة ما يتحصل عليه من أجر، تنشأ المصالح المتضاربة بين رأس المال والعامل على هذا الأساس، يسعى العامل لزيادة الأجر ويسعى الرأسمالي لتقليصه. ذلك لاعتبارات متعددة، ومن وجهة نظر الرأسمالي أهم هذه الاعتبارات سيكون حفظ نظام العمل وعلاقات الإنتاج التي يقوم عليها المجتمع.
هذا التناقض يؤدي إلى صراع حتمي والصراع دائر بالفعل والطرف المنهزم فيه هو العامل باعتباره الحلقة الأضعف، هنا قرر ماركس تشريح النظام الرأسمالي وكيف يدور وما ينبني على علاقات الإنتاج هذه من علاقات اجتماعية.
كان لزومًا على ماركس أن يدرس الحقب ما قبل الرأسمالية حتي يقف على التحولات التي صنعت علاقات الانتاج الرأسمالية، وذهب إلى هذا الهدف سائراً على درب المنطق الهيجيلي كما أشرنا، ليتكشف له أن نمط العلاقات له جذور تاريخية.
هنا تكمن أطروحة ماركس: حين يحدث تغير في الشروط المادية التي تحكم علاقات الإنتاج، فإن تغيراً في البنية الاجتماعية سيحدث تبعاً لذلك، بشكل ضروري وحتمي كعلاقةٍ رياضية صارمة.
يسعى ماركس لتصور تغير كمّي ما في الشروط المادية يجعل بدوره هذه العلاقات أكثر مرونة وحرية، وبالتالي علاقات اجتماعية أكثر مرونة وحرية.
تلك العلاقات ما زالت مصابة بالاختلال الذي يشعر الجانبين بتوتر أصيل ودائم، أي يشعلُ صراعاً دائماً متصلاً، والوصول إلى درجة من التوازن في العلاقة يتحتم معه تغيير علاقات الإنتاج.
هنا يعلِّق ماركس حل المشكلة على الوعي، لو أدرك العمال ما بيدهم من قوة على الأرض لأصبحت في يدهم ورقة تفاوضية رابحة علي مائدة المساومات التي تجري في مجال العمل، هذه المساومة محسومة سلفاً لصالح صاحب رأس المال، وماركس يريدُ أن يغيرَ طبيعةَ هذه العلاقة.
هنا يعود السؤال هل من الممكن أن يمارس العمّال السلطة؟ يمكن إجابة هذا السؤال عندما ندرك أن المتحكم النهائي في الإنتاج هو العامل، هو المحتك المباشر بالسلعة أو الخدمة و الجمهور وبدون العمالة لا يمكن للرأسمالي أن يربح فالعمل هو الذي يصنع (فائض القيمة) الذي يمثل في النهاية (الربح).
هنا يأتي السؤال الأخير هل أجدى ذلك نفعًا؟ الإجابات المتسرعة هي لا و نعم أيضًا ، فالتجارب الشيوعية فشلت في معظمها وما تبقي منها لا يمثل تجارب اشتراكية حقيقية بل تجربة قومية شمولية مثل الصين فبعد الاتحاد السوفيتي وما عرفنا عنه من الأزمات الداخلية التي مرَّت به انتهت بسقوطه في أواخر القرن العشرين -لأن سقوطه لم يكن بسبب المؤامرات الخارجية فقط التي كان من الممكن أن تفشل في حال قوته الداخلية لأنه هو الآخر طرف في الحرب الباردة ليس برئ كظبي شارد – تساقطت الدول التي عرفت دكتاتورية البروليتاريا عن طريق رأسمالية الدولة واحدة تلو الأخرى ولم يبق إلا الأكثر مرونة وتطوُّرًا، وما تبقَّى لهذه الدول من أنظمتها القديمة إلا الديكتاتورية بدون بروليتاريا تمارسها.
ولكن عندما نرى تطوِّر الحقوق المدنية للمواطنين وحقوق العمال وتنظيم ساعات العمل والراحة والإجازات والتأمينات الاجتماعية والصحية للعمال، خصوصًا في الدول الغربية التي كانت لديها معارضة اشتراكية شرسة فكرياً وتكتيكياً؛ سنعرف أنه كم كان كل ذلك نافعًا ومجديًا أيضًا!.
ومن هنا وجب علينا أن نوضّٓح أنَّ المسار الشيوعي قد لا يكون خلاصًا أو حلًا نهائياً لمشاكل العالم الحديث، ولكن أردنا فقط ألا ننسى في غمرة الأحداث إرثًا فكريًا عالميًا يوضِّح مواطن القوة في يد العمال التي يتم تناسيها عمدًا أو جهلاً، في مقابل صورة رائد الأعمال العبقري المغامر المؤمن بتغيير العالم، علّها تكون مفتاحًا لحل ينقذ العالم الذي يصارع الجنون والانهيار.