رحلة مع القدّيس أوغسطين: فيلسوف هيبو والكنيسة الغربيّة (2)

(جزء 2)

كنا نحمل كلماتك مغروزةً في الأحشاء وأمثلة خُدَّامك الذين كنت قد حوّلتهم من الظلام إلى الضياء ومن الموت إلى الحياة.

-القدّيس أوغسطين (1)

لقراءة الجزء الأول من المقال اضغط هنا

وفاته

لم يغادر القدّيس أوغسطين هيبو وقد ظلَّ فيها خمسًا وثلاثين سنة كاملة منذ سفره إليها كآخر مقر، إلى أن فارق فيها الحياة في فترة حصار المدينة على يد الوندال سنة 430م.
ورغم الانتقادات التي تعرض لها وخاصة منذ القرن الثامن عشر بعد صعود حركات التنوير والنزعة العقلانيّة الحداثية كرد على فلسفات وعلوم القرون الوسطى القائمة على اللاهوت، إلا أنّه ما من أحدٍ قد أنكر أو استثنى العلم الذي كان لدى أوغسطين والمفاهيم التي درسها.
لقد ألَّف العديد من الكتب التي كانت تصبُّ حول الدين والفلسفة والسياسة والتاريخ وردوده على المانويّين وغيرهم، بعد أن خلق لمدينة هيبو روحًا مسيحيّة جديدة جاعلًا منها مركزًا مُهمًا لطلب العلم حيث لا يوجد الآن في العالم المسيحيّ الغربيّ من لا يعرفه.

أرافع هنا ضد جهلة أعطى جهلهم المثل التالي: «انحبس المطر عن الأرض والمسيحيون هم السبب» وإن يكن بينهم مثقفون كثيرون يحبون التاريخ.
-القدّيس أوغسطين (2)

آراؤه

– الوجود والأنا: لا شكّ أنّ الجميع يعرف كوجيتو ديكارت* «أنا أفكر، إذن أنا موجود». الذي جاء من شكِّ ديكارت بالحواس وبكل شيء ما عدا الشكّ ذاته، فنحن لا نقدر على الشكّ في شكنا ومن هذا الكوجيتو أتى استدلال ديكارت أو تأكيده على وجود الله انطلاقنا من أنفسنا كذلك.
يرى أوغسطين أنّ الشكّ في وجهين؛ فهناك الشكّ السلبي الذي ينتقص من وثوقيّة ويقينيّة كل معارفتا وحواسنا وخيالاتنا، وهناك الشك الإيجابي الذي يُعبِّر عن وجودنا الحقيقي، كما أنّ هناك الحقائق المطلقة التي لا يتضمنها الشكّ أبدًا مثل الرياضيّة أو المنطقيّة وهناك الحقائق التي نعرفها بمعرفتنا الحسيّة. (3)
يقول أوغسطين: «وبصرف النظر عن مظاهر الخداع التي تنطوي عليها المخيّلة بما تملكه من تصورات واقعيّة وأخرى خياليّة فأنا لا أشكّ البتة في أنّي موجود وأدرك حقيقة وجودي وأحب كوني موجودًا وعارفًا لحقيقة وجودي». (4)
كما يقول أيضا «حين تؤكد وجودك فإنّك لا يمكنك أن تخشى الخطأ إذ إنّك إذا كنت تخطئ فأنت موجود.. من لم يكن موجودًا فلا يمكن أن يخطئ». (5)
وكذلك يقول «إذا كان يشكّ فهو يحيا»، أو أننا نعرف أننا نحيا، أو أنّنا نعرف أنّنا نعرف أنّنا نحيا. (6)
أما عن وجود الله فهو يقول أنه بوسعنا التعرُّف عليه في أنفسنا وما دام هناك شيء أسمى من أنفسنا وعقولنا والحقيقة لا شيء يسمو فوقه فهو إذن الله. (7)
لقد شكّ القدّيس أوغسطين مثله مثل ديكارت في الحواس إلا شكّه في نفسه وذاته، ومن نفوسنا هذه يمكننا التوصل إلى المعرفة وكذلك إلى وجود ما هو أسمى منا أي الله غير أنّه لم يفصِّل ولم يركِّز دراساته على هذا الأمر ويوسعه كما فعل أب الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت.

– الموسيقى والفنون: تلعب الموسيقى دورًا مهمًا في المسيحيّة رغم أنّ بداياتها عرفت جدلًا واسعًا بين مُتقبِّل ومانع، لقد كان أوغسطين يولي الاهتمام للموسيقى بشكلٍ لا يمكن لنا حسبه في أن نحيدها جانبًا من الحياة كما خَصَّصَ كتابًا مهمًا حولها. (8)
ومن الواضح أنّ أوغسطين تأثَّر كذلك بأفلاطون الذي كان يولي الموسيقى أهمية كبيرة كما كان يحب الاستماع إلى إنشاد المزامير ويتأثر بالموسيقى بشكلٍ بالغ. (9)
كما كتب أوغسطين كتابات عن ذلك مثل «في الموسيقى»، وكذلك عن موضوع الفنون حيث كان دفاعًا عنها ومحاولة لحض الغير على التفكير فيها وإدراك أهميّتها البالغة، وقد كان أوغسطين يرى في الفنون بما فيها الموسيقى والفن كعضو مساعد للعقل على معرفة العالم من حوله والحقيقة. (10)
كما آمن أوغسطين أنّ الموسيقى مع نغماتها لها علاقة ورابطة مع الروح والرياضيّات والهندسة وقد قام بدراستها، كما يسأل قائلًا: أيُّ قوةٍ يملكها العقل أكثر إدهاشًا من قدرته على تذكُّر الموسيقى دون أن يسمع فعلًا أيّة أصواتٍ حقيقية؟ (11)
لقد كتب أوغسطين عن الجمال أيضًا ورآه ليس أمرًا ذاتيًا كما قال فلاسفة عديدون أي أنّ الجميل ليس جميلًا لأننا نراه جميلًا بل لأنّه جميل بالفعل، لكننا نشعر به جميلًا كذلك.
فجمال بناية ما حسب أوغسطين يعتمد على نسبها الرياضية أما النوافذ فعلى قياساتها وأبعادها، وحتى جسد الإنسان كذلك غير أنّه حين تحدَّث عن حواء ادَّعى أن آدم لم يحب حواء لجمالها بل حبه لها هو الذي جعلها جميلة. (12)
والجمال عند أوغسطين بما هو متجذرٌ في الأرقام والرياضيات والإحساس، ظاهرٌ في الكون ومظهرٌ لخالقه لنا ومثله مثل الموسيقى والفنون متعلّقة بالرياضيات والجمال ومخاطبةً أرواحنا.

-الأطفال: لا يرى أوغسطين على عكس الكثيرين في الأطفال براءة فهو يتخذ في شأنهم موقفا سلبيّا إذ يرى في الأطفال المقدرة على الأذيّة فهم يأذون الناس ببكائهم وطلبهم الطعام كما أنّ ما يمنعهم عن الأذية الجسدية هو ضعفهم الجسدي فقط إذ يقول: «وهكذا فإن براءة الأطفال تكمن في ضعف أعضائهم أما أرواحهم فآثمة، رأيت مرة صبيًا حسودًا تمعنت فيه كان لا ينطق بعد وكان شاحب اللون يحدّق بمرارة في أخيه من الرضاع». (13)
وكذلك يقول: من يفكرني بخطيئة طفولتي بما أنه لا أحد منزّه عن الخطيئة أمامك حتى الطفل الذي لم يعش على وجه الأرض إلا يومًا واحدًا (14)
كما يتحدث عن نفسه في طفولته والمشاكسات والسوء الذي كان يفعله، مثل الغش في اللعب وفضح أحد الاطفال في فعلة سيئة يقترفها رغم أنّ الأمر حين يُطبَّق عليه من الآخر يكون مزعجًا بالنسبة إليه، ليسأل أوغسطين في الأخير عن ما إذا كان يمكن لهذا أن يُدعى براءة؟ (15)
لا شك أنّ نظرة أوغسطين إلى الأطفال أو كذبة براءة الأطفال لا تخلو من نزعته الأنثروبولجيّة حول الخطيئة التي كان يراها موروثة وموجودة حتى عند الأطفال، من دون نسيان معرفته على وجه الحق واعترافه بطيشه منذ طفولته ومراهقته الأمر الذي كان مُنهِكًا لوالدته.

– اللّغة: لقد درس عدة فلاسفة ومنهم فيلسوف وعالم اللغة فيتجنشتاين* اللّغة عند أوغسطين كما لا يزال فكره اللّغويّ مؤثرًا في عدة نظريّاتٍ لغويّةٍ. (16) فهو يقول أنّه حين كان صغيرًا كان يملك فهمًا قبل أن يتعلّم اللّغة، وأنّ ذكائه من سمح له بفهم العلامات التي كان يعلِّمها له الكبار ليفهم طبيعة الأشياء وهذا الأخير هو هبة إلهيّة كما اعتقد أوغسطين. (17) فالذكاء هو الحد الفاصل بين الإشارة ومقدرة ربطها بفهم الأشياء وليس مجرد علاقة بين الإشارة والأشياء.
يقول القدّيس أوغسطين أنّ الكلمة هي علامة وكل علامة هي دلالة على شيء ما، وبذلك فهو يطرح على ابنه أديوداتوس عن معنى كلمة «لا شيء» ليجيبه ابنه بأنّ معناه «ذلك الذي لا يوجد»، بالتالي فجواب ابنه يذهب بنا إلى كون الكلمة ليست لها دلالة عكس قول والده، غير أنّ أوغسطين لا يرى أنّ إجابة ابنه صحيحة في تعريف “لا شيء”، كما يرى أنّ كلمة لا شيء هي حالة نفسية تصيب الشخص وهو يبحث عن شيءٍ ما ليجد أنّ الشيء الذي يبحث عنه غير موجود، بالتالي فهذا ليس معناه أنّ الشخص يبحث عن لا شيء، إنّ كل كلمة هي دلالة على شيء أو حدث ما عند أوغسطين. (18)
كما في محاورة أخرى مع ابنه أديوداتوس يقول: نحن حينما نتكلم نريد أن نتعلّم شيئا ما أو نتذكره. (19)
الأمر الذي يعارضه ابنه بطرح أمثلةٍ كالغناء فاللّغة في الأغنية تقوم لأجل الترفية والاستمتاع، أما المثال الآخر فهو الصلاة فلا يمكن أن يكون الغرض منها هو تعليم الرب.
أيّ أنّ اللّغة في تقدير أديوداتوس وذلك هو الصحيح لا تأتي لنتعلَّم ونعلِّم ونتذكر فقط بل لكي نفعل بها عدة أمور ونعيش عبرها.
لقد كتب أوغسطين كتابًا عن قواعد اللغة تم تسليمه لعائلة كاسيودوروس* في القرن السادس ميلادي وقد كان كتابًا مهمًا في اللغة حسب كل من تطلّع عليه كما تم تعرضه للسرقة بعدما كان في أحد المكتبات. (20)
إنّ كتابات أوغسطين عن اللّغة كانت من الأهميّة حد أن درسها فيلسوف اللغة فيتجنشتاين وعدة باحثين كما رأينا تناولوها في دراساتهم سواء أشادوا بها أو تم نقدها علميًّا.

إعلان

-النفس والبدن: إنّ النفس عند أوغسطين تفكّر وتوجد وتحيا وتعتقد وتتذكر، كما أنّها تعرف ذاتها وهي ليست مادة أو هواء. كما أنّها تتميز بثلاثة أمور وهي التذُّكر والإدراك وإرادة للشيء. (21)
وإنّ الفكر لا يكون عن طريق الجسم أو المادة بل عن طريق النفس، كما أنّها نفسٌ واحدةٌ وليست عدة نفوس كما قال أفلوطين، والنفس هي متغيّرة ليست ثابتة لكن خالدة، كما أنّها ليست من نفس الله، أما عن أصل النفس فلم يفصل أوغسطين في ذلك غير أنّ أكثر احتمال رآه هو أنّ الله قد خلقها حيث تنتشر إما بالتوالد أو أن يقوم الله بخلقها كل مرة في المولود. (22)
أما عن اتحاد النفس مع الجسم فهو اتحاد يجهله أوغسطين ويصفه بالغريب غير أنّه ليس كما يتصور المانويّين أنّ الجسم سجن للنفس أو شيئًا مثل هذا، بل إنّ النفس والجسم متلازمان حيث يقول: إنّ النفس والجسم لا يؤلفان شخصين بل إنسانًا واحدًا. (23)
إنّ النفس إذن كما يرى أوغسطين تعلو على الجسد وتتصف بالثبات وبالوحدة، كما أنّها تشترك في الفكر والاعتقاد والتذكر، ولا ريب أنّه ما من أحدٍ سيجهل التأثير الأفلاطونيّ على أوغسطين عند خوضه في موضوع النفس والبدن رغم اختلافه مع العديد من أطروحات الأفلاطونيّة حول ذلك.

-المعرفة: لقد كان أوغسطين يعتقد بمذهب الإشراق وهو مذهب يرى في المعرفة أشبه بنوع من أنواع الحدس إذا شئنا ذلك حيث يتعلَّق بنهل الذات من الجواهر النورانيّة أو الإله. (24) لقد كان أوغسطين يفصل بين المعرفة الماديّة والمعنويّة، فالمعرفة الأولى تعتمد على الحواس غير أنّ النفس تشارك في هذه المعرفة وهذا الإدراك فهي ليست معرفة ماديّة مطلقة يقوم بها الحسّ. كما أنّني حين أعرف الموجودات وأدركها فأنا أتذكر ما قاله لي الشخص، (25) أما المعرفة المعنويّة أي الباطنيّة التي تختص بالروحانيات والمطلق فهي تعتمد على الإشراق والمعرفة عن طريق الله الذي وهبنا ذلك إذ يقول: كما أنّنا نرى الماديات في ضوء الشمس فكذلك خُلقت النفس الناطقة بحيث تستطيع أن ترى المعقولات في ضوء لا جسمي يشرق عليها. (26) وإنّ العقل لا يستبعده أوغسطين من المعرفة فلا يمكننا إدراك شيء من دون استعمال عقولنا والرغبة في فهمه. (27)
كما يرى أوغسطين أنّ هناك فرق بين الحكمة والعلم؛ فالحكمة تختص بمعرفة الأمور المطلقة أو الخالدة والباطنيّة أما العلم فيشمل عالمنا المادي ومواضيعه، وإن الكتاب المقدّس يتضمن الشيء الأول أيّ الحكمة. (28)
ويمكننا إن شئنا تقسيم المعرفة كذلك عند أوغسطين إلى معرفة انطباعيّة إذا صح القول أيّ المعرفة التي تظهر بالنسبة لنا مثل أنّ الصوت الذي نسمعه هو صوت جميل أو الرائحة التي نشمها ما هي إلا رائحة زكيّة فلا يمكن أن نرى أنّها رائحة زكية من دون أن تكون كذلك ومن جهة المعرفة المجردة التي لا تحتاج منا صدقًا لأنّها صادقة في ذاتها مثل العمليّات الحسابيّة أو المنطقيّة.

-الله: يرى أوغسطين أنّ نظام الطبيعة أيّ العالم كله يوضح ويظهر لنا الله في تأمّل جميع المصنوعات والظواهر وجمال الطبيعة التي خلقها، كما أنّه مادامت الطبيعة تتغير فإنّ ما هو مؤكد هو في أن يكون الخالق هو الوحيد الثابت. (29)
كما رأى أنّ صورة الله لا يمكن الوصول إليها غير أنّنا نستطيع الوصول إليه من خلال العقل والمنطق والوعي بالذات وبنفوسنا، (30) وهو ليس ثلاثة فهو يقول: الأب والابن والروح القدس إله واحد، وحده مفرد وعظيم كليّ القدرة. (31) وكذلك «ليسوا ثلاثة آلهة ولا ثلاثة صالحين بل إله واحد صالح كليّ القدرة». (32)
لقد رأى أوغطسين أنّ ردود الأساقفة على المهرطق أريوس الذي جعل الابن أدنى من الأب ضعيفة ولهذا فقد تناول كتابات من خمسة عشر بابًا كان عنوانه الثالوث لكي يشرح أو يحاول إيصال فكرة الثالوث للعالم، فهو يرى أن مبدأ التثليث ليس معقدًا لهذه الدرجة كما أنّه وبشكل تبسيطيّ يمكننا فهمه من خلال مثال «التفكير الكلام الإرادة» رغم أنّه غير كافٍ للإيضاح. (33)
يرى أوغسطين أنّ الله ليس عددًا أو يمكن وصفه بأعداد غير أنّ الثالوث أي الأب والابن والروح القدس علاقتهم ليست علاقة مادية بل اصطلاحية علائقية فهو ليس أب حقًا أو ابن وإنّما علاقة تعبِّر عن العقل والذات، فالأب هو الذات والابن هو الكلمة أو العقل، كما يقول أوغسطين أنّ الروح القدس منبثق من الأب والابن وليس الأب فقط. (34)
كما لا يمكننا القول أنّ الأب هو الابن والابن هو الأب والروح القدس هو الأب والابن أيّ أن نقوم بخلط الأقانيم بل يجب القول أنّ الأب هو أب الابن وإنّ الابن هو ابن الأب وإنّ الروح القدس هو روح الأب والابن. (35)
وكتبسيط لكلام أوغسطين فالأمر مثل القول أنّ طبيعة الإنسان تتكوّن من روح وعقل ومادة، وهذه الثلاثة أمور تشكل لنا إنسانًا واحدًا وليس ثلاثة وبالتالي لا يمكننا القول أنّ الروح هي نفسها العقل والعقل هو نفسه الروح وهكذا غير أن الثلاثة جميعًا متحدين معًا في شخصٍ واحد.

-السعادة: لقد رأى أوغسطين في الفلسفة الأخلاقيّة التي تجعل من اللّذة الجسدية أساس السعادة أمرًا خاطئًا بل يصل بالأمر حد الحقارة، كما أنّ الجسد ليس فوق النفس حتى يهتم الشخص بلذته ناسيًا النفس التي يملكها والتي هي أساس كل شيء بما في ذلك الحسّ والجمال ومركز السعادة. (36)
يقول أوغسطين أنّ الجميع يريدون السعادة وكذلك يعرفون ماهيتها غير أنّ سعادتهم مختلفة فكل شخص وكيف يرى لذّته؛ فهناك من يرى لذّته وسعادته في أن يصبح جنديًا وهناك من يرى سعادته في أن يحقق إنجازًا آخر. (37)
يقول أوغسطين «الحياة السعيدة ليست شيئًا آخر سوى أن يبحث المرء وفقًا لما يعتقد أنّه مصدر اللذّة». (38)
كما يرى أوغسطين في الفلسفة سبيلًا نحو تحقيق السعادة غير أنّه في فقرة أخرى يقول أنّ الفلسفة تجلب الألم فهل يمكن ما قصده أنّه يمكن للسعادة أن تتحقَّق حتى بوجود الألم؟
لاشك أنّ أوغسطين هنا يرى الفلسفة طريقًا نحو الأمل في تحصيل السعادة، غير أنّ أهم لذّة أو اللذّة القصوى حسبه هي لذة الوصول إلى الله أو «الاستمتاع بالله». (39)
لقد كتب القدّيس أوغسطين كتابًا عن السعادة بعد تعميده كما قرأ كتاب شيشرون كما أسلفنا الذكر في المقال الأوّل والذي كان يدافع فيه عن الفلسفة ويجعلها تحصيلًا للسعادة العقليّة حيث أثّر في أوغسطين بالغ الأثر، كما رأى أنّ اللذة الجسميّة ليست مفتاح السعادة بعدما خاض حياة الجسد ومتعه من دون أن يفوز بها، ناهيك أنّ موضوع السعادة أنهك عقول الفلاسفة منذ القديم فكتب عنه معظمهم لهذا نحن في موقع لا يمكن أن يجعلنا نتعجب من اهتمام أوغسطين بموضوعها.

-الأخلاق: إنّ الكثير من السلوكات الأخلاقيّة حسب القدّيس أوغسطين تتغير حسب الزمن والظروف، فهي لا يجب أن تكون بالضرورة مطلقة بل نسبيّة، كما أنّ السلوك اللا أخلاقيّ بالنسبة لنا يمكن أن يؤدي إلى سلوك لا أخلاقيّ آخر كمجرم قتل آخر لأنّه كان شاهدًا على جريمته، أو الكذب لمداراة الكذبة الأولى. (40)
كما أنّ القيم الأخلاقيّة التي نقرّرها تختلف حسب الظرف، فالجنس هو أخلاقيّ في إطاره الشرعيّ أما في إطار آخر فنحن نراه غير ذلك. (41)
كما أنّ الأخلاق عند أوغسطين تتعلق بمنطلقاتها ودوافعها أو النيّة والقصد منها، كما يكون الاستثناء كذلك أمرًا عاديًا مثل ما فعلته أحد الزوجات في قصة معروفة للجميع وقتها ولو أنّ الكثيرين يرونه غير سلوكًا لا أخلاقيًّا حين مارست الجنس مع من يعذّب زوجها رغبةً في تحريره. إنّ ما فعلته الزوجة حسب أوغسطين هو فعل يدل على إخلاص وحب شديد للزوج وليس عكسه. (42)
كما رأى أنّ كل جيل يرى عصره من أسوأ العصور أخلاقيًّا غير أنّ ذلك لا معنى له فالإنسان وحياته الاجتماعيّة هي التي تجعل عصره إما طيبًا أو عكس ذلك؛ فعلى الإنسان أن يغيّر ما يراه خطًأ ويتحمّل مسؤولية ما نراه من لا أخلاقيّة. (43)
يرى أوغسطين أنّه ليس من الأخلاق الركض فقط وراء المظاهر والشهوات وترك ما هو أخير وأسمى الخير، حتى الخير لا يجب علينا أن نستعمله أو نستغلّه لنيل مصلحة منه، كما أنّ الإرادة تلعب دورا في الفعل الأخلاقيّ وكذلك الحب. (44)
قد يكون العنف عند أوغسطين فعلًا أخلاقيًّا حين تشرعه السلطة، فالدولة لها الحق في استعمال العنف ضد الجماعات التي تمارس الأذى على الناس وتستبيح الأمن وأعراضهم، كما يشمل ذلك الدفاع عن النفس. (45)
يقول القدّيس أوغسطين في كتابه مدينة الله متحدثًا عن موضوع القتل حين يكون استثناء. «غير أن تلك السلطة الإلهيّة قد وضعت بعض الاستثناءات في تحريم القتل، ويأمر الله أحيانًا بالقتل بواسطة شريعة عامة أو من خلال وصية وقتيّة أو خاصة» (46)
لهذا فيمكن أن تكون بعض الأمور التي نراها خالية من القيمة الأخلاقيّة مثل القتل عقابًا كان أم أمرًا، مسموحا به إذا صدر من سلطة عليا كما في الشريعة اليهوديّة، ففي الأمر قبول وعمل بوصايا الرب العارف بكل شيء.

خاتمة

سلك عدة فلاسفة ولاهوتيّون في القرون الوسطى منهج القدّيس أوغسطين حتى عصر النهضة خاصة مع تأسيس المدرسة السكولاستيّة* التي جمعت بين العقل واللاهوت، ومع أن أوغسطين تميّز بعدة أفكار ومباحث أخرى مهمة فإننا لم نرغب في ضمها إلى مقالنا بغية عدم الإطالة مع التركيز أكثر حول سيرة حياته التي عرفت صراعات عديدة روحيّة وجسديّة وعقليّة قبل أن يهتدي إلى المسيحيّة.
لقد كان القدّيس أوغسطين نقلة نوعيّة ميّزت المسيحيّة الغربيّة بمنهجها وأساسها الرهبانيّ الذي يعود له الفضل الكبير إلى تأسيسه، ورغم وجود ما يثير الجدل والنقد في كتاباته سواء من مسيحيين غيره أو فلاسفة تنويريّين إلا أن مركزه بقي راسخًا في العالم المسيحيّ.

شرح المفاهيم و المصصطلحات:

رينيه ديكارت [ 1596 – 1650 ]: فيلسوف ورياضي فرنسي، عراب الفلسفة الحديثة، اشتهر بمنهجه التحليلي وثورته الفلسفية التي أحدثها حول الذات والوجود الله، أهم أفكاره يعرف: الكوجيتو الديكارتي” أنا أفكر إذن أنا موجود “. من أهم مؤلفاته: تأملات في الفلسفة الأولى، مقال عن المنتج.
لودفيغ فيتجنشتاين [1889 – 1951 ]: فيلسوف وعالم لغة من النمسا، اختص بدراسة فلسفة اللغة، والمعرفة والمنطق.
عائلة كاسيودوروس: عائلة شرقيّة نافذة هاجرت إلى إيطاليا يُعتقد أنّها من سوريا، من أهم أفرادها المؤرخ والسياسي فلافيوس كاسيودورس.
المدرسة السكولاستية: وتعرف أيضا بالفلسفة المدرسية وهي مدرسة القرون الوسطى التي قامت على الجمع بين الفلسفة والإيمان المسيحيّ وسيطرت على الفكر الغربي حتى عصر النهضة، من أهم أعلامها القديس توما الإكويني وانسلم وبونافانتورا.

- المصادر :
1 - اعترافات القديس اغستينوس، أوغسيطنوس أوريليوس، المجتمع التوتسي للعلوم والآداب في الفنون، ترجمة من اللاتينية إلى العربية إبراهيم الغربي، ص: 261
2 - مدينة الله، دار المشرق بيروت، القديس أوغسطين، نقله إلى العربية الخور أسقف يوحنا الحلو، ص: 65.
3 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، هنداوي، يوسف كرم ، ص: 32. 
4 - أوغسطين، المركز القومي للترجمة، آفاق للنشر والتوزيع، جاريث ب. ماثيوز ، ص: 67
5 - تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط ، هنداوي، يوسف كرم ، ص: 33 .
6 - أوغسطين، المركز القومي للترجمة، آفاق للنشر والتوزيع، جاريث ب. ماثيوز ، ص:، ص 70 ، 71 .
تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، هنداوي، يوسف كرم، ص: 33 .
7 - أوغسطين، المركز القومي للترجمة، آفاق للنشر والتوزيع، جاريث ب. ماثيوز، ص: 66. 
8 - مقدمة قصيرة جدًا أوغسطينوس، هنداوي، هنري تشادويك، ص: 56 .
9 - نفس المصدر السابق، ص: 56
10 - نفس المصدر السابق، ص: 40 .
11 - نفس المصدر السابق، ص: 56 ، 57 .
12 - نفس المصدر السابق، ص: 57 .
13 -اعترافات القديس اغستينوس، أوغسيطنوس أوريليوس، المجتمع التوتسي للعلوم والآداب في الفنون، ترجمة من اللاتينية إلى العربية إبراهيم الغربي، ص: 31 .
14 - نفس المصدر السابق ص: 30 .
15 - نفس المصدر السابق، ص: 50 .
16 - أوغسطين، المركز القومي للترجمة، آفاق للنشر و التوزيع، جاريث ب. ماثيوز ، ص: 47 ،  60 .
17 - نفس المصدر السابق، ص: 57 .
18 - نفس المصدر السابق، ص: 53 .
19 - نفس المصدر السابق، ص: 50 .
20 - مقدمة قصيرة جدا أوغسطينوس، هنداوي، هنري تشادويك، ص: 45 .
21 - نفس المصدر السابق، ص: 75 ، 76 ، 77 ، 91 .
22 - الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، هنداوي، يوسف كرم، ص: 36 ، 35 ، 37
23 - نفس المصدر السابق، ص: 37 .
24 - أوغسطين، المركز القومي للترجمة، آفاق للنشر والتوزيع، جاريث ب. ماثيوز ، ص: 58 .
25 - نفس المصدر السابق، ص: 81 .
26 - الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، هنداوي، يوسف كرم، ص: 39 .
27 - مقدمة قصيرة جدًا أوغسطينوس، هنداوي، هنري تشادويك، ص:63
28 - لاهوت التاريخ عند القديس أوغسطين، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، زينب محمود الخضيري، ص: 21 ، 22 .
29 - الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، هنداوي، يوسف كرم، ص: 33 .
30 - مقدمة قصيرة جدا أوغسطينوس، هنداوي، هنري تشادويك، ص: 108 .
31 - تاريخ الكنيسة، عصر الآباء، دار الثقافة، جون لوريمر، ص: 339
32 - نفس المصدر السابق والصفحة.
33 - مقدمة قصيرة جدا أوغسطينوس، هنداوي، هنري تشادويك، ص: 107 ، 108 .
34 - نفس المصدر السابق، ص، 109 .
35 - مدينة الله، دار المشرق بيروت، القديس أوغسطين، نقله الى العربية الخور أسقف يوحنا الحلو ، ص: 494 ، 495 .
36 - الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، هنداوي، يوسف كرم ، ص: 46 ، 47 .
37 - أوغسطين، المركز القومي للترجمة، آفاق للنشر والتوزيع، جاريث ب. ماثيوز ، ص: 216 ، 217 .
38 - نفس المصدر السابق، ص: 222 . 
39 - نفس المصدر السابق، ص: 219 .
40 - مقدمة قصيرة جدا أوغسطينوس ، هنداوي ، هنري تشادويك ، ص: 72 ، 76 .
41 - نفس المصدر السابق، ص: 76 .
42 - نفس المصدر السابق، ص: 76 ، 77 
43 - نفس المصدر السابق 121 .
44 - نفس المصدر السابق، 76 ، 77 ، 78 .
45 - نفس المصدر السابق، ص: 95 ، 98 ، 123
46 - مدينة الله، دار المشرق بيروت، القديس أوغسطين، نقله الى العربية الخور أسقف يوحنا الحلو، ص: 41

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تدقيق علمي: عصام أسامة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

الصورة: 1480 , ( Saint Augustin dans son cabinet de travail ( Botticelli Ognissan

اترك تعليقا