رحلة الفطرة والنشأة
ترجمة مقتبسة من كتاب Nature via nurture
هذه الترجمة مقتبسة من كتاب Nature via nurture للمؤلف مات ريدلي Matte Ridley، يجيب هذا الكتاب القيّم على معضلة قديمة شغلت الأوساط العلمية على مدار قرن من الزمان، وهي كالآتي: أيهما يضطلع بصناعة السلوك البشري؟ الفطرة التي نرثها بالميلاد أم البيئة التي ننشأ ونتربى فيها؟ المسألة ليست على هذا القدر من البساطة التي تبدو عليها، لأنها وبشكلٍ أو بآخر وجّهت تاريخ العلوم الإنسانية في القرن الماضي لأن ينقسم إلى معسكرين متعاديين؛ أحدهما يمكن وصفهم بالسلوكيين أو البيئيين، حتى الجدل الماركسي ما هو إلا تصور فلسفي للتأثير الخالص للبيئة، أما المعسكر الآخر فقد كان يُبشر بالحتمية الجينية وما إلى ذلك من هذه الأفكار، ومع دخول علم جديد إلى الحلبة يدعى بالإبيجينات تحوّل الجدل ليتخذ شكلًا مغايرًا تمامًا، وأصبح على أهبة الاستعداد لحل المعضلة بشكل مقبول.
تم ترجمة الكتاب إلى العربية عام 2013 بعنوان “الطبع عبر التطبع”، لكن وبشكل أو بآخر خرجت الترجمة إلى الوجود مبتورةً وناقصة وتحتاج إلى تنقيح عميق، ولا تعدو هذه الترجمة التي أقدمها للقاريء الآن كونها محاولة لإعادة تقديم هذا النص المهم بالطريقة التي تليق به، لعلها دعوة إلى إعادة ترجمة الكتاب ليتخذ مكانه المستحق في السياق العربي بما يستحقه القاريء العربي.
مبدئيًا ستكون الترجمة الحرفية لعنوان الكتاب هي “الطبيعة عبر النشأة” كمحاولة من المؤلف للتأصيل لفكرة تأثّر الفطرة الموروثة بالبيئة المحيطة، والسلوك البشري على حال هو رحلة مشتركة للطبيعة الإنسانية والنشأة معًا، إحداهما تعبر عن نفسها من خلال الأخرى، ولذلك أحب أن تكون ترجمة عنوان الكتاب على هذا النحو “رحلة الفطرة والنشأة”، وأرجو ألا يتم اعتبار هذا الأمر افتئاتًا على حقوق النشر بل محاولة لمنح هذا النص المهم حقّه، فإلى نص الترجمة:
“الجنس البشري الضال، الذين لهم إرادة وإرادتهم جعلتهم أحرارًا وأثقلتهم بالمحن كمحكوم عليهم بفرمانٍ علوي، كل أفعال الآلهة ليست إلا ترجمة لذنوبهم، هؤلاء الذين أسموا حماقاتهم زورًا بجرائم القدر”.
من أوديسا هوميروس
“اكتشاف السر الغامض للسلوك البشري -البيئة لا الجينات هي المسئول الوحيد عن سلوكياتنا”، كان هذا أحد العناوين الرئيسة في جريدة “أوبزيرفر” Observer البريطانية التي تصدر يوم الأحد من كل أسبوع، التاريخ: 11 فبراير عام 2001، “البيئة، وليس الجينات، هي سر أفعالنا”.
تبدأ القصة من عند “كريج فنتر” رجل الجينات العصامي الذي أسس شركة من جيبه الخاص بغرض قراءة التتابع الكامل للجينوم البشري لينافس بها مؤسسة أخرى ذات طابع دولي تعتمد على أموال الضرائب والتبرعات، كان مقدرًا لهذا التتابع -الذي يتكون من 3 بليون تكرار لأربعة حروف فقط ليشكل الوصفة الكاملة التي تتحكم في بناء وتسيير العمليات الحيوية بالجسم البشري- أن يتم الكشف عنه ونشره على الملأ على نهاية ذاك الأسبوع، ومن ثم جاءت نتائج التحليلات الأولية على عكس التوقعات المسبقة التي تبناها العلماء حتى أشهر قليلة من تاريخ الإعلان: يحتوي الجينوم البشري على 30000 جين لا 100000 جين كما كان متوقعًا له أن يكون.
تم تسريب تفاصيل الاكتشاف إلى الصحافة في ظل قرار حظر النشر حين قام كريج فنتر بإفشاء القصة في مؤتمر مفتوح في ليون بتاريخ 9 فبراير، وبينما كان روبين مكاي الصحفي بجريدة أوبزيرفر بين الحضور لاحظ بدوره أن قصة الـ 30 ألف جين أصبحت منذ هذه اللحظة ملكًا للعامة. سأله مكاي: هل تدرك أنك قمت للتو بكسر قرار حظر النشر؟
لم يكن هذا هو الكسر الأول للحظر، خصوصًا في ظل المنافسة الشرسة التي شهدها مشروع الجينوم، ولأن فنتر هو الآخر كان يدرك أن القصة التي بحوزته تستطيع أن تتصدر الصفحات الرئيسية للجرائد قبل أن يتمكن منافسوه من تحقيق السبق فقد أجاب: “ببساطة، نحن لا نمتلك ما يكفي من الجينات لإثبات صحة الفكرة القائلة بالحتمية البيولوجية”، وأضاف “هذا التنوع المذهل في السمات بين البشر لا يمكن أن يكون مشفرًا في الـ DNA ، تأثير البيئة أمر لا مفر منه”.
خرج الأمر عن السيطرة تمامًا بعد نشر الطبعة الأولى من أوبزيرفر، قامت الصحف الأخرى باتباع نفس النهج، وكتبت دورية سان فرنسيسكو الإخبارية على سبيل المثال: “اكتشاف الجينوم يصدم العلماء -مخطط الجينوم يحتوي على عدد جينات أقل بكثير من المتوقع-، سقوط علم الجينات عن عرشه”، فيما تخلت الصحف العلمية بسرعة عن الالتزام بحظر النشر مفسحةً الطريق لتداول الخبر حول العالم، وتغنّت صحيفة نيويورك تايمز بفضيحة تحليلات الجينوم التي أسفرت عن جينات أقل بكثير من المتوقع، باختصار لم يكن مكاي وحده المسؤول عن حمّى النشر هذه، ففيما أذاع مكاي الخبر منحه فنتر الموضوع الذي سيكتب عنه.
تسبب الأمر في صنع أسطورة جديدة، لكن في الحقيقة لم يغير عدد الجينات البشرية شيئًا، لقد أخفت تصريحات فنتر استنتاجين خاطئين، أولهما أن عدد جينات أقل يعني أن تأثيرات البيئة على الفرد ستكون أكبر، وثانيهما أن 30000 جين هو عدد أقل من أن يفسر الطبيعة البشرية بينما 100000 جين هو عدد كبير بما يكفي للاضطلاع بالأمر، لكن السير جون سولستون John Sulston لم يعجبه الأمر؛ فقط 33 جين يستطيعون أن يمنحوا كل فرد من أفراد البشر طبيعة فريدة خاصة به.
33 جين في مقدور كل منهم أن يعبر عن نفسه بطريقتين: عامل أو معطل عن العمل On or Off، يشبه ذلك إمكانية أن تقوم بدفع عملة في الهواء ومراقبة الاحتمالات 33 مرة، هذه العملية ستنتج رقم ضخم للغاية يساوي 10 بليون احتمال، ولذلك يمكننا القول بأن 30000 جين لا يمكن اعتباره رقمًا صغيرًا على الإطلاق، لاحِظ أنك إذا قمت بضرب رقم 2 في نفسه 33 مرة فإنك ستحصل على رقم أكبر من عدد الجسيمات الموجودة في الكون المنظور، أما إذا كان عدد الجينات القليل يعني حصول المرء على قدر أكبر من حرية الإرادة، فإن ذبابة الفاكهة لابد أن تكون أكثر حرية من الإنسان، البكتيريا ستكون أكثر حرية من كليهما، أما عن الفيروسات فيمكن اعتبارها في هذه الحالة بمثابة جون ستيوارات ميل [فيلسوف الحرية] عالم الأحياء بأسره.
لحسن الحظ نحن في غنىً عن تلك الحسابات المعقدة لطمأنة الجماهير، لم يحدث أن شوهد أحد العامة وهم يتخبطون في الشوارع ويهمسون لبعضهم البعض بالأخبار المريعة التي تروي قصة جينات الإنسان التي لم تبلغ حتى ضعف عدد جينات دودة، لا شيء يمكن انتظاره من رقم 100000 الذي سبق أن توقعوه العلماء، لا يعدو أن يكون تخمينًا خاطئًا، لكنه كان كافيًا لإدخال إعلان النتائج الخاص بالجينوم البشري، على نحوٍ خاطيء بطريقة سرير بروكس*(1)، إلى حلبة المصارعة القديمة الخاصة بجدل البيئة والوراثة، أيهما يتحكم في السلوك البشري؟ ذاك الجدل الذي استمر إلى ما يقرب قرن من الزمان، والذي لم تتغير طريقة الإجابة عنه على مدار قرن إلا قليلًا، هذا الجدل الذي فصل بين الفاشيين والشيوعيين بنفس دقة الفارق الفاصل بين سياستهم.
ظل هذا الخلاف محتدمًا ويجري بلا هوادة مع اكتشاف الكروموسات والـ DNA وعقار البروزاك(2)، وكان مقدرًا له أن يعود للظهور مجددًا في عام 2003 بنفس الكيفية التي تولّد بها في عام 1953: السنة التي شهدت اكتشاف الجينات، أو في عام 1900: السنة التي شهدت نشأة علم الوراثة، وحتى لحظة ميلاد الجيوم البشري التي نتحدث بشأنها الآن فقد تم استدعاؤها للإجابة على صراع (الطبيعة والنشأة).
على مدار 50 عامًا كان هنالك عددٌ من الأصوات العاقلة التي نادت بإنهاء جدل الطبيعة ضد النشأة، ذاك الذي تم وصفه بكل شيء، بدايةً من أنه ميت ومنتهي وحتى كونه عقيمًا وخاطئًا -انفصام وهمي-، أي شخص يمتلك أقل قدر من البداهة سيعرف أن البشر ما هم إلا نتاجٌ مشترك لتلك العلاقة التبادلية بين الطبيعة والنشأة، لكن لم يستطع أحد إيقاف هذا الخلاف الوهمي؛ فبعد أن يصف الجدل بأنه عديم الجدوى وخاطئ بشكل كامل، يندفع نصير أحد الطرفين إلى أرض المعركة بنفسه ويبدأ في اتهام الطرف الآخر بالمبالغة في تقديراته لأحد الطرفين، إن طرفَي هذا الجدل هما التأصليون nativists الذين سأدعوهم في بعض الأحيان بالجينيين أو الوراثيين أو الطبيعيين، والتجربيون الذين سأدعوهم في بعض الأحيان بالبيئيين أو أنصار النشأة.
اسمحوا لي بإظهار أوراقي على الطاولة، أنا أؤمن بأن البشر هم نتاج مشترك للطبيعة والنشأة معًا، فأنا لا أتخذ موقفًا مناصرًا لأحد الطرفين، لكن هذا لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال أنني أقف في منتصف الطريق بين ضفتي الشارع، أتذكر مقولة السياسي الأمريكي من ولاية تكساس جيمي هايتاور “منتصف الطريق ليس إلا خط أصفر وحيوانات ميتة”، أنوي التأكيد على أن اكتشاف الجينوم قد غيّر نظرتنا لكل شيء، لا بانتصاره في المعركة لأحد الطرفين، لكن بإثراء معرفتنا في كل جانب من الجانبين وصولًا لدفعهما للالتقاء في منطقة وسيطة أكثر عقلانية، وكان لاكتشاف الكيفية التي تؤثر بها الجينات على سلوكاتنا وكيف تؤثر سلوكاتنا على الجينات تأثيرٌ عميق بالشكل الذي أعاد توجيه الخلاف القديم في اتجاهٍ مغاير، لم يعد الأمر طبيعة ضد نشأة لكن طبيعة عبر نشأة.
تم تصميم الجينات ليتم تشغيلها أو إيقافها من قبل تأثيرات البيئة، ولكي نتواصل سويًا على نحوٍ مقبول فإنني أدعوك لأن تنحي جانبًا -لبعض الوقت- أفكارك المسبقة التي تعتز بها وتدعو ذهنك لإعادة التفكير مرةً أخرى، حاول أن تتخيل نفسك في عالمٍ لا تلعب فيه الجينات دور محرك الدمى الذي يتحكم في سلوكياتك، وإنما دمىً تحت رحمة سلوكك؛ عالم لا يقف فيه مفهوم الغريزة ضد مفهوم التعلم، عالم تصبح فيه بعض التأثيرات البيئية -في بعض الأحيان- أكثر استقرارًا من التأثير المباشر للجينات وأقل قابلية للتخلص منها، وحيث تكون الطبيعة مصممة لتوفيق ذاتها تبعًا للنشأة.
هذه الجمل الرخيصة والتي قد تبدو فارغةً من المعنى تظهر للحياة الآن ولأول مرة في نطاق علمي، أود أن أخبرك بقصص غريبة عن العقل البشري الذي تم تصميمه لاستقبال تأثيرات النشأة، هل أبدو لك سخيفًا على نحوٍ ما! لكن لا بأس؛ كلما تعمقنا أكثر في كشف الغموض عن الجينوم البشري، كلما ظهر مدى كون الجينات عرضة لتأثيرات البيئة.
الهوامش مصطلح مستوحى من أسطورة يونانية، ويستخدم للدلالة على مغالطة منطقية تحدث عندما يقوم الذهن بلي ذراع البرهان ليتوافق مع نتائج مسبقة. Prozac هو عقار معالج للاكتئاب، وكان لاكتشافه تأثيرٌ عميق ومثير للجدل لأنه طرح ولأول مرة فكرة أن يتم التأثير على السلوك البشري من خلال التأثير المادي على البنية المادية للذهن.