رأي أم وحي؟ ج1: جدليّة النبي المعصوم في الإسلام
منذ قرابة أسبوعين، نُشر خبر في جريدة “الوطن” اليومية، ينقل عن الأزهر قوله بأن الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية للبشر في اضمحلال مستمر.
وأن الأزهر تقع على عاتقه مسؤولية تثقيف الناس في السياسة، والاقتصاد، وعلم النفس، والفلسفة، وشتى مجالات الحياة.
أثناء دراستي كطالب بكلية الطب البشري، مرّ عليّ فصلٌ يتحدث عن “موت الرحمة” وما ينبغي على الطبيب فعله إذا ما طُلب منه ذلك، في البداية شرح الدكتور صاحب الفصل معنى “موت الرحمة”، ثم، ودون أن يتعرّض للرأي العلمي، أو الأخلاقي المهني للأمر، باغتني باستهلاله: اجتمع الفقهاء.
وهكذا، عزيزي القارئ، تلحظ أن مرجعنا الأساسي هو الدين، وأن ثقافتنا تتوقف عند القرآن والسنة فلا تتعداهم، وأن ثقتنا تسكن فيهما بلا سواهم، يكفيك أن تشاهد أي برنامج لداعية إسلامي وتنتظر حتى يحين آن فقرة الأسئلة، فتجد الداعية يستقبل أسئلة في الطب، والعلاقات الاجتماعية، وعلم النفس، والسياسة، فهل أتى القرآن بكل ذلك؟ أم قدّمت لنا السُنة النبوية أجوبةً وافيةً عن أي مسألةٍ من مسائل الحياة مهما كانت؟
والحقيقة الواضحة البيّنة، أن القرآن كتابٌ تشريعي روحاني، يصف للناس الشكل الصحيح لعلاقتهم بالله، ويرشدهم السبيل القويم للامتثال لقدرته، ويحثهم على السعي صبو كماله. فهو لم يكن أبدًا كتابًا طبيًا يتحدث عن الوصف التشريحي للجسد الإنساني، ولا مرجعًا علميًا لشؤون الاقتصاد وادّخار الأموال واستثمارها، ولا كتابًا لماكيافيللي يتحدث عن شؤون الحُكم والحُكام وكيفية إدارة الشؤون السياسية. عُني القرآن بالمشكلة الأخلاقية، أرسى إرهاصات العدل والمساواة، وشرط أن تكون تلك بذور النبت الصالح أيًا كان الحقل الذي ينمو فيه، سواءً كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو طبيًا، بيد أنه، وبشكل قطعي، لم يسهب في أي من تلك الحقول.
يقول عصام الزهيري:”من أكثر الشواهد بداهة من تاريخ الناس ومن تاريخ الدين نفسه على أن الأحكام التشريعية في القرآن الكريم هي محض أحكام تنظيمية مؤقتة خاضعة لتبدل وتغيُّر الأوضاع التي شُرعت من أجلها، هو أن هذه الأحكام تعرضت للنسخ عدة مرات. الشاهد الأهم من ذلك في هذا السياق هو أن القرآن كما يفهم المسلم من مضمونه وتلاوته هو كتاب وحي لا كتاب تشريع قانوني، إذ لا تمثل أحكام التشريع فيه غير نسبة ضئيلة من مجمل آياته، ولا يرد به بخصوص باب كامل مثل الأحكام العقابية غير حدود محدودة لا تتجاوز الخمسة تتصل بجرائم معينة، وكان يحال فيها كلها إلى العرف القانوني السائد بين قبائل الجزيرة ويتجادل معه.” (راجع جريدة المقال، عمود “يرحمكم الله”، المقال المنشور بتاريخ 13/2/2019)
وما يبقى لنا إذن هو السنة النبوية وما توفره من وصفٍ مُستفيضٍ لعادات النبي وأفكاره، والتي شملت المجالات مُعظمها وشؤون الحياة أغلبها، ونجد أن تلك الأفكار دائمًا ما تُعفى من المسائلة العلمية وتطبيق المنهج النقدي السليم، رغم كونها أفكارًا بشرية صدرت عن بشرٍ ووجهّت إلى بشر، فهل كان النبي معصومًا فعلًا؟ لا يصدر منه رأيٌ إلا وهو أوفق الصوّاب وأحقه؟
المعنى الدارج للعصمة
إذا ما سألت أحدًا من العامة، عمّا إذا كان النبي قد أخطأ في أي أمرٍ من أمور الحياة، أو خذله التوفيق في رأي قد أشار به على أصحابه، فسيقذفك في حينها باتهامات الفسق والكفر، بل إنك لتحمّد الله إن لم يرديك قتيلًا. فالنبي في نظر العامة، هو نبيٌ كاملٌ معصوم، لا يأتي من رأي إلا وهو الصوّاب ولا يحذو من حذوٍ إلا وهو الحق، بيد أن ذلك لم يرد في قرآنٍ ولا في سُنة، بل إنّ النبي نفسه قد أكّد على أنه بشرٍ يُخطئ ويُصيب: “إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر.” رواه مسلم (2361). وجاء القرآن بما لم يُخالف ذلك : “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.” (الكهف 110)
وأن يكون النبي بشرًا، أي أن فيه من صفات البشر، فيأكل، ويشتهي، ويتغوط ويفرغ، يسهو، ويقصر علمه ويعجز، يمرض ويغضب أيضًا.
مُحاولة لتمحيص المعنى الحقيقي للعصمة النبويّة
إن نظرةً غير مطوّلة على كتب السيرة، تُخرج لنا الكثير من الأخطاء -الصغيرة بالطبع- التي قد جاءها النبي، سهوًا وعن غير قصد، نذكر منها البعض اليسير بغرض التدليل لا الإدانة:
- في سورة “عبس”، تقول الآيات : عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (4)
يروي الطبري في تفسيره، أن الأعمى ذلك هو ابن أم مكتوم: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: “ثنى أبي، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عروة، عن عائشة قالت: أنـزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أمّ مكتوم، قالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني، قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين، قالت: فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِض عنه، ويُقْبِل على الآخر ويقول: “أتَرَى بِما أقُولُهُ بأسًا؟” فيقول: لا. ففي هذا أُنـزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى). - في سورة “التحريم، يخاطب الله نبيّه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
وما حدث أن النبي قد اختلى بمملوكته مارية القبطية في بيت زوجةٍ من زوجاته فجامعها، ولمّا تبيّنت زوجته الأمر قالت: “أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟” فانفعل رسول الله وحرّم على نفسه مارية مملوكته استرضاءً لزوجته الغاضبة، مما جعل مارية تستشعر في قلبها شيئًا من الضير، ذلك أن النبي -لشدة انفعاله- قد سها عن حكم الله، وشرد عن ذهنه وقع ذلك التحريم في قلب مارية، وفي ذلك أنزلت الآية. (راجع تفسير الطبري) - عن رافع بن خديج قال : “قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون (أي يُلقحون) النخل قال: “ما تصنعون؟” قالوا: “كنا نصنفه”، قال: “لعلكم لو لم تفعلوا كان أحسن.” فتركوه فنقصت فذكروا ذلك له فقال: “إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر.” رواه مسلم (2361)
- يروي مُسلم، في كتاب البر والصلة والآداب، عن عائشة رضي الله عنها، أنه قد دخل إلى النبي رجلان، فتكلما بشيءٍ من حديث لم يرُق للنبي، فانفعل النبي عليهما وسبّهما ولعنهما ودعا عليهما، ولما حدثته عائشة تبيّن النبي أن الرجلين لم يكونا أهلًا لذلك السب أو اللعن، وإنما أتى النبي ذلك وهو في غلواء غضبه، فقال النبي: “إني اشترطت على ربي فقُلت: إنما أنا بشرٌ أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحدٌ دعوت عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاةً وقُربة. وفي رواية: “فأيما مؤمنٌ آذيته أو سببته أو جلدته.” (ص116، حديث 2600)
أي أن النبي بشرٌ، يغضب، ويؤذي، ويُخطئ، عن غير قصدٍ بالطبع.
وإن ذلك كله لا يتعارض مع حادثة شق الصدر المعروفة، حيث يروي مُسلم أن النبي كان يلعب في صباه مع أصحابه، فجاءه* جبريل وشقّ صدر النبي واستخرج قلبه، فأزال عن القلب علقةً صغيرة، وقال: “هذا حظ الشيطان منك.” فالمقصود بحظ الشيطان هنا هو رغبات البشر العدوانية المشوّهة والتي دائمًا ما تتواجد فيهم بشكل غريزي، يذكر سيجموند فرويد في الأحلام: أن للبشر غرائز عدوانيةٌ ورغبةٌ فطرية في التدمير والفوضى، وهو ما يظهر في أحلامهم على صورة رموز.
أي أن النبيّ قد تنزّه عن الكره، والحقد، والحسد، والاعتداء المقصود، إلّا أنه يظلّ بشرًا غير معصومٍ كليًا عن السهو والخطأ، والتأثر في آرائه بأعراف الجاهلية وما تلقّنه في صباه وطفولته من تقاليد وعادات وأفكار، وفي ذلك المعنى الحقيقي للعصمة، يقول ابن تيمية: “إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف… وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول. “مجموع الفتاوى” (4/ 319). ولاحظ هنا، عزيزي القارئ، قول ابن تيمية “الكبائر دون الصغائر”، أي أن عصمة النبي تنحسر فقط في تنزهه عن الكبائر، أما الصغائر فقد يأتيها سهوًا مَثلُه كمثل سائر البشر.
العصمة المُطلقة تُنافي حُجةً أساسيةً من حجج الإسلام
قد اصطفى الله نبيّه أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، وجعل في ذلك حجةً لقُريش، فإن كان النبي شاعرًا أو عالمًا لسهل على قُريش ادّعاء أنه من ألّف القرآن، ولخدمهم المنطق في ذلك، ولكن الله أعلم بقريش ومكرهم، فجعل مُعجزته مما يُجيدونه ويتقنونه أشد الإتقان، وهو أن قدّر الله كتابًا عربيًا يعجز عن الإتيان بمثله الشعراء والطلقاء من قريش، علمًا بأنهم كانوا أعلم أهل الأرض بالعربية وأصولها (راجع كتاب محمد متولي الشعراوي معجزة القرآن)، وفي ذلك قال الله: “وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” [العنكبوت:48]. وفي موضعٍ آخر: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ” [الجمعة:2].
إن ما سبق ذكره يُثبت لنا أن رسول الله كان يأتيه الوحي في فتراتٍ معينة، وما دون ذلك فالنبي بشرٌ يتصرف بحسب رأيه والعرف المُجتمعي السائد آنذاك، إذن فما صدر عن النبي دونًا عن التشريعات الفقهية وأمور التوحيد هو رأي بشريٌ محض (راجع مجموع الفتاوى (18/ 7))، والسؤال هنا: إذا كان النبي طبيبًا عبقريًا، واقتصاديًا بارعًا، وعالم نفسٍ لا يُضاهى، وقائد حربٍ منقطع النظير، إذا كان صاحب خبراتٍ جليلةٍ في شتى أمور الحياة بهذا الشكل، فكيف إذن يُمكننا أن نجمع بين ذلك وبين حجة الإسلام الأساسية لقريش، وهي أن النبي كان أميًا؟
إن العامة إذ يتمسكون بتقديس آراء النبي في الطب والاقتصاد والسياسة، ويلغون بشرية الرسول وأميّته، يفسحون في الآن ذاته المجال للشك بأن القرآن بشريٌ كُتب من قبل جهبذ من جهابذة التاريخ.
في ختان الإناث وشرب بول الإبل والدواء المجهول في أجنحة الذبابة
إن الأخطاء الطبيّة الموجودة في صحيح السنة ظلّت موضع جدالٍ لعصور، فيجد المُسلم نفسه ممزقًا بين “كيف يكون بول الإبل مُفيدًا؟” و “كيف يُخطئ النبي؟”، والحقيقة أن الأمر أبسط من ذلك كلّه، قبيلةٌ بدويّةٌ في قلب صحراء نائية، معزولة عن العالم وعن العلم، ورجلٌ عاش في هذا المنفى بين القرنين السادس والسابع الميلادي، كيف تتوقع، عزيزي القارئ، أن تكون ثقافته الطبيّة؟ لن يكون أحد أبطال مسلسل “ذا جوود دكتور” مثلًا، فإذا ما أخذنا ما سبق ذكره في الاعتبار، سنسلم بحقيقة أن النبي، دونًا عن أمور التوحيد، كان يتحدث طبقًا للعلوم والثقافات السائدة، والتي بدورها -وبشكل بديهي- كانت بدويّةً مُتخلفة، ولفظ مُتخلفة هُنا لا يأتي على سبيل الإهانة، فالتخلّف طبقًا لمعجم لسان العرب يعني: تأخّر، وتجاوزته الأمم في مضمار الحضارة.
إن الدفاع عن هذه الأخطاء الطبيّة الجِسام، كختان الإناث مثلًا، لا يجعلنا نغوص فقط في الجهل الطبي، بل في الجهل الديني أيضًا، وإن كان ذلك الغوص يُثبت شيئًا، فهو يُثبت أن المُجتمع العربي يفتقر للحد الأدنى من مهارات التحليل والنقد، وأن بصيرته مأفونة قد طمس عليها التقديس والمغالاة حدّ العماء.
لمَ فقط لا ننصاع لأمر رسول الله، ونعلم أننا “أعلم بشؤون دنيانا”؟