دينامكيات إدمان العمل

هل أنت مدمن على العمل؟ 

إن إدمان العمل (Workaholism) إدمانٌ يدمّر روح الإنسان ويغيّر شخصيته والقيم التي يتبعها في حياته؛ وذلك لأنّه يُشوّه الواقع الذي يعيشه أفراد الأسرة ويهدد شعورهم بالأمان ويؤدي غالبًا إلى التفكك الأُسريِّ. وفي نهاية المطاف يخسر مدمنو العمل نزاهتهم الشخصية والمهنية أيضًا بشكل مأساويٍّ ومُفجع.

إن أساس الفهم الصحيح لماهية إدمان العمل يتمثل في تفهّمِ الأمور التي تطرأ على سلوك الفرد وشخصيته عندما تفشل العاطفة في تزويده بالرأي السليم والحكم القويم. فرغم أن التركيز ينصبُّ على الساعات الطويلة التي يفرط هؤلاء الأفراد في العمل خلالها، لكنَّ طول ساعات العمل يُعتبر إحدى الأعراض ضمن سلسلة طويلة من أعراض إدمان العمل.

وباعتِباري رائدة في هذا المجال منذ ما يُقارب العشرين عامًا قمت بتعريف الشخص المدمن على العمل على أنّه فردٌ مهووس بالعمل للحد الذي يجعله مشتتًا عاطفيًّا ومدمنًا على السلطة والسيطرة بطريقة قهريَّة بهدف الحصول على استحسان الناس له وتقديرهم لنجاحه. فهؤلاء الرجال والنساء المندفعون نحو العمل يعيشون حياةً شبيهة بتلك التي يعيشها الفأر في دولابه دائم الدوران وبذلك يتدفق هرمون الأدرينالين في عروقهم بشكلٍ مستمر. فهُم يسارعون بالانتقال من خطة إلى أُخرى وذلك لتركًُز اهتمامهم على ملاحقة هدفٍ طَموح أو إنجازٍ ما إلى أن تنعدم أهمية أي شيء أو أي شخصٍ آخر.

إنَّ العمل من أساسيات التمتع بالرفاهية وجزء لا يتجزأ من الشخصية الفردية، لذلك فنحن نعاني من اضطرابٍ عاطفيِّ عميق عند خسارة وظيفةٍ ما أو عندما يمنعنا ظرفٌ ما من مزاولة المهنة. والعدد الهائل للموظفين الذين يحصلون على إجازة مطوَّلة بدعوى إرهاق العمل يُثبِتُ أن الصحة الجسدية والنفسية تتعرضان للانهيار، وخاصةً خلال فترات الركود  الاقتصادي التي تجعل رؤساء العمل (المدمنين على العمل) يقومون بتوجيه طلبات غير عقلانيَّة لموظفيهم. ولا يقتصر هذا على الوظائف التي يقابلها أجر ماديٍّ فقط؛ فأيضًا بعض ربّات البيوت اللاتي يسعين للمثالية والعديد من الطلاب الذين ينشدون الكمال يعانون من هذه المأساة الخطيرة.

ما هو الفرق بين شخص مجتهد في عمله وشخص مدمن عليه؟ 

إن السؤال السابق من الأسئلة المتكررة فيما يتعلق بإدمان العمل، والإجابة هي أن الشخص المجتهد يكون متاحًا عاطفيًّا لجميع أفراد عائلته وزملائه وأصدقائه، ويتمكن من المحافظة على توازن سليم بين مسؤوليات عمله ومسؤولياته الشخصيَّة. ولاستعادة إمكانياته المُستنزفة بسبب موجة مرحلية من الإرهاق الناجم عن الحاجة للالتزام بموعد تسليم محدد أو التعامل مع حالة طارئة في العمل، يقوم العامل المجتهد بتقليص جدول عمله أو منح نفسه إجازة لعدة أيام. ومن الأفكار الجيدة لحماية نفسك من إدمان العمل:

إعلان

  • اتخاذ قرار بتوفير 25% أو أكثر من طاقتك الشخصية لحين عودتك إلى منزلك كل ليلة بعد العمل. 
  • بناء سياجٍ وهميِّ حول أيام عطلتك لحماية نفسك من أي مغريات لمواصلة العمل. 

وعلى النقيض من ذلك يفتقر مدمنو العمل هذه الحكمة؛ فهم مهووسون بأدائهم خلال العمل ومدمنون على ارتفاع مستوى الأدرينالين في جسدِهم. ولإصرارهم على تعظيم ذواتهم يقومون -باعتبارهم أفرادٍ يقودهم الغرور- فور تحقيقهم لهدف ما بتحديد هدفٍ أكبر طموحًا منه؛ فالبقاءُ ضمن مستوى الإنجازات ذاته لفترة طويلة يُعتبر فشلٌ ذريعٌ بالنسبة لهم.

إضافةً إلى ما سبق: يسير مدمنو العمل بسرعة ويتحدثون بسرعة ويأكلون بسرعة ويُفرطون في جدولة مهامهم. وعندما تكون صحتهم جيدة نسبيًّا فإنهم يتمتعون بالقدرة على إنجاز العديد من المهام في ذات الوقت. لكنَّ أساليب المناورة التمويهيَّة التي يستخدمونها وافتقارهم الحتميِّ للتركيز يشير إلى أنهم سيعانون عاجلًا أم آجلًا من اضطراب القلق لأدائهم؛ وهذا لأن الفوضى داخل عقولهم تدفعهم إلى محاولة التحكم بكل تصرف وكل شخص من حولهم، فيتحتم عليهم تنفيذ الأمور تبعًا للطريقة التي تناسبهم حتى وإن كانت محدودة البصيرة، فيرفضون توكيل غيرهم بمهامهم وذلك لأن “الآخرين لن يؤدوا العمل بالمستوى نفسه الذي يؤدونه هم فيه”. وكلما ازداد الانهيار في حياتهم أدى بهم التوتر -سواء أدركوا وجوده أم لم يدركُوه- إلى المعاناة من: 

  • نوبات الهلع. 
  • رهاب الأماكن المغلقة.
  • الاكتئاب.
  • اضطرابات النوم الشديدة. 

يُجبر العديد من مدمني العمل على تحمل المسؤولية قبل أوانهم بسبب ظروف محيطة غالبًا، كمعاناة أحد الوالدين من مرض ما أو وفاة فرد من أفراد العائلة أو انفصال الوالدين. وينتمي آخرون إلى عائلات تسير على نهج منظومة تعتمد على أداء الطفل في تحديد قيمته في العائلة، فيمنح الأهلُ الطفلَ حبًا مشروطًا إذا فاق أداؤه التوقعات وجعلهم يشعرون بالفخر. وغالبًا ما يكون مدمن العمل في طفولته الطفل المُطيع الذي يكون أداؤه جيدًا في المدرسة ويتفوق في الرياضة ولا يُثِير أي متاعب. ورغم ندرة اعترافهم بنوبات الغضب التي تنتابهم لكنَّ إحدى منابع الغضب القابع في أعماقهم والذي يتجلى في مدارك وعيهم هي حقيقة أنهم لم يتمتعوا بطفولةٍ هانئة.

ويكبر بعضهم ليصبح “السيد اللطيف” أو “الفتاة اللطيفة” فيسعون لإرضاء مَن حولهم بطريقة تُخفي العدائية ولا يرفضون أي طلب، ويرغبون -باستماتة- في أن يُعجَب بهم الناس ويحبونهم، كذلك يفعلون كل ما في وسعهم ليحصلوا على تقدير رئيس العمل والزملاء على حد سواء. أما بالنسبة لشخصية مدمن العمل -أو الشخصية التي يحب الناس أن يمثلوها- فهي مُشيّدة بإتقان شديد، وغرورهم فائق بشكل ميؤوس منه وذلك لأن “الأنا” لديهم مكبوتة على نحو خطير. كما ويميل من يسعون لإرضاء من حولهم إلى اختلاق الأخطاء وإسقاطها على غيرهم وذلك رغبةً منهم بتولي زمام الصفات الإيجابيَّة في شخصياتهم.

يسعى مدمنو العمل ذوو الشخصية المتحكمة إلى الحصول على نوع السُلطة الذي يسمح لهم بالتحكم بمن حولهم. ورغم أن هؤلاء الأشخاص الذين يتّسمون بالاستقلالية والانفعالية متغطرسون وانفعاليون لكنَّهم يستطيعون الظهور بمظهر الشخص الجذاب والذكي والاجتماعي عندما يؤدي ذلك إلى خدمة الهدف الذي يسعون لتحقيقه، وغالبًا ما يكون هذا النوع من مدمني العمل قليل الصبر ومتهورًا ولحوحًا وتميل شخصياتهم لتكون من الشخصيات التي تتبع نهج التفكير والمنطق؛ وكنتيجة لذلك يعملون غالبًا في مناصب إداريَّة رفيعة المستوى أو يعملون لحسابهم الخاص. ويشعر هذا النوع من مدمني العمل بالراحة في المواقف التي تتضمن نشاطات بهدف محدد بينما يشعرون براحة أقل في المواقف الاجتماعية ولذلك يواجهون صعوبةً في المحافظة على الصداقات الشخصية، فتجد أن العديد منهم يحيط  نفسه بمعارف من محيط عمله ولكن لديه عدد قليل من الأصدقاء المقربين. 

وتُعد شخصية المتحكم النرجسيِّ شبيهة بشخصية المتحكم بمن حوله إلا أنها تختلف عنها قليلًا؛ فيجب أن يكون المتحكم النرجسي على صواب  طوال الوقت ويتحتم عليه تنفيذ الأمور حسب طريقته الخاصة ويرى الأمور من منظوره الخاص والمحدود، وكذلك يبدو أصحاب هذه الشخصية مقنعين أثناء تلاعبهم بمن حولهم وينفذون الأمور حسب تخطيطهم المسبق بغض النظر عن تبعات ذلك.

وكنتيجة لما سبق فهُم يهددون مصالح الآخرين وتعكس تصرفاتهم استخفافًا بأخلاقيات ومبادئ المجتمع؛ فالقَوانين والأنظمة يجب أن تتماشى مع رغباتهم وتتوافق مع نظرتهم للواقع. ومن المؤسف أن وجهات نظرهم النرجسية تتيح لهم فهمًا محدودًا حول تأثير أفعالهم على غيرهم وذلك لأنهم يفتقرون رهافة الإحساس؛ وذلك بسبب فشل العاطفة في توفير الحكم السليم.
ونادرًا ما يسترخي هؤلاء الأشخاص الأذكياء والمفعمونَ بالحيوية الذين يميلون للمنافسة، كذلك يبدو أنهم يحتاجون لقدر قليل من النوم وذلك لانغِماسهم -رغمًا عن إرادتهم وبشكلٍ قهري- في الامتيازات المُغرية والمُعزِزة للشخصية التي يقدمها أسلوب حياة إدمان العمل؛ فعندما تتوقف العاطفة المكبوتة عن تزويد مدمن العمل بحقيقة مشاعره، فإنه -مع الأسف الشديد- يخسر البصيرة والحِكمة اللازمتين ليُدرك تناقص مستوى كفاءته.

سوف نستعرض في المدونات القادمة ثلاث دينامكيات متداخلة تؤدي تأثيراتها مجتمعة إلى تداخل وتحول الشخصية ذات السلوك الحَسَن إلى شخصية ذات سلوك سيئ. كذلك سنَستعرض الكيفية التي يؤدي فيها السعي نحو الكمالية إلى الهوس الذي يؤدي بدوره إلى زيادة نرجسية الفرد. ولأن الخوف يُعد الأساس الذي ينبع منه الهوس سنبحث في أنواع المخاوف التي تزعزع قدرات مدمن العمل على تنفيذ مهامه. كلك الإصابةُ بمُتلازمة توقف المشاعر عن العمل تترافق مع هوسَ الفرد بعمله، إضافة إلى ذلك يؤدي عدم إحساس الفرد بالمشاعر وانعدام نزاهته -باعتبارهما نقطتي تحول رئيسيتين- إلى إحداث تغييرات جذرية في شخصية مدمن العمل دون وعيه بها والتي تُسرّع من وتيرة تطور إدمان السلطة والسيطرة.

وفي النهاية، سنستعرِض الدور المغري الذي يلعبه كل من الإنكار والسلطة والسيطرة في إدمان العمل –ما أُطلق عليه شخصيًّا مصطلح “الفخ الذي وقع فيه مدمن العمل”. فهذا المزيج الثلاثي يعد من الأسباب الرئيسيَّة خلف فشل مدمني العمل في:

  • النجاة من الخسائر الفادحة والتغيرات الجذرية في الشخصية. 
  • فقدان العديد من الشخصيات المرموقة نزاهتها بسبب التصرفات والسلوكيات اللاأخلاقية. 

إعلان

مصدر
فريق الإعداد

إعداد: راما ياسين المقوسي

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

اترك تعليقا