رسم النجوم: دور الفن في تقدم علم الفلك

من رسومات جاليليو للقمر إلى صور هابل، لطالما أسهم الفن في تقديم صورة حية للكون.

في شهر يناير من عام 2004، وبعد عام من انفجار مكوك الفضاء كولومبيا أثناء عودته للأرض، ومقتل جميع رواد الفضاء الذين كانوا على متنه، أعلنت ناسا أنها بصدد إلغاء مهمة الصيانة الدورية لتلسكوب هابل الفضائي؛ ومن ثم، لن يكون أمام هابل، أحد أكثر الأدوات العلمية تأثيرًا في تاريخ علم الفلك على الإطلاق، سوى بضع سنوات فقط للبقاء على قيد الحياة.

قبلة الحياة لتلسكوب عظيم

خلال الأشهر التالية، انهالت الالتماسات الموقعة من آلاف الأفراد على وكالة ناسا. وشهدت قاعات الكونجرس العديد من الاجتماعات وجلسات الاستماع، التي ظهر خلالها كيف أن المواطنين والعلماء على حد سواء– وقد أبهرتهم كمية الاكتشافات والصور التي أنتجها هابل- لن يتقبلوا خطة التقاعد المبكر للتلسكوب.

ورغم أن هابل حينها كان قد حقق جميع أهداف مهمته التي انطلقت في عام 1990، وقام خلالها بما يزيد عن مئة ألف عملية رصد وتصوير، تم من خلاها قياس توسع الكون، والتعرف على كيفية نشأة الكواكب، وأنتج مجموعةً كبيرةً من الصور، مثل الصورة الشهيرة: الحقل العميق وأعمدة الخلق، تلك الصور الأيقونية التي غيرت الطريقة التي نرى بها موقعنا في الكون، واستحوذت على مخيلة الجمهور بطريقة لم يحققها أي تلسكوب من قبل. إلا أن ضغط العلماء والرأي العام الذي طمع في المزيد من الإنجازات، أسفر في نهاية المطاف عن قيام ناسا بمهمة الصيانة. واليوم، لا يزال التلسكوب بمثابة مركز قوي للاكتشاف والإلهام. الشاهد من القصة، أن الفن لعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على تلسكوب هابل، فهل كانت تلك هي المرة الأولى التي يلتقي فيها العلم والفن معًا عبر دروب السماء؟

قدم لنا هابل صورًا مثل أعمدة الخلق، وتظهر فيها بين النجوم تكوينات عملاقة من الغبار الكوني والغازات المولدة للنجوم على شكل أعمدة هائلة الحجم تقع على بعد نحو 6500-7000 سنة ضوئية من الأرض.

علم الفلك والفن، تاريخٌ من متعة الاكتشاف

غالبًا ما يُعتقد أن العلوم والفنون لا يلتقيان؛ ففي معظم الجامعات تشغل الكليات العلمية أماكن منفصلة تمامًا عن تلك الخاصة بالفنون، وفي المكتبات لا تجتمع كتب الفنون مع كتب العلوم على رف واحد؛ لكن الحقيقة أن علم الفلك والفن قد امتزجا منذ قرون.

ففي عام 1610، نشر جاليليو أعماله الرئيسية في كتاب حمل عنوان «Starry Messenger – الرسول النجمي»، ضم بين دفتيه العديد من الرسومات التي رسمها خلال الليالي الطويلة التي قضاها محدقًا في تلسكوبه. أظهرت تلك الرسوم تضاريس القمر، ونجومًا لم يسبق لأحدٍ رؤيتها من قبل، وكذا الأقمار الأربعة الكبرى التي تدور حول كوكب المشتري، والتي أطلق عليها فيما بعد أقمار جاليليو.

إعلان

جاليليو
أنتج جاليليو هذه المجموعة الشهيرة للغاية من ستة ألوان مائية للقمر في أطواره المختلفة كما لاحظه من خلال تلسكوب في خريف عام 1609. وهي تمثل أول تصوير واقعي للقمر في التاريخ.

اعتمد جاليليو على تقنيات فنية مثل: المنظور، وأسلوب الكياروسكورو- وهي طريقة لتصوير التدرج بين الضوء والظلال كانت جديدةً نسبيًّا في ذلك الوقت- لإظهار الجبال والحفر على السطح غير المستوي للقمر. وباستخدام تلك الرسومات كمعيارٍ للقياس، وباستخدام الطرق الهندسية، تمكن جاليليو من قياس ارتفاعات تلك الجبال بدقة مذهلة. بعد ذلك بعامين، قام الرسام البارز في فلورنسا لوديوفيكو كاردي، المعروف أيضًا باسم سيجولي، بتخليد رسومات جاليليو للقمر في لوحة جدارية لا تزال قائمةً في بازيليكا سانتا ماريا ماجوري في روما.

في عصر ما قبل كاميرات CCD الرقمية ولوحات التصوير الفوتوغرافي، كان مطلوبًا من علماء الفلك أن يكونوا فنانين. واليوم، عندما يتم التقاط صورة للكون، فإنها تكون في البداية أحادية اللون «أبيض وأسود»، وتحتاج إلى عمليات متأنية من اختيار وإضفاء طبقات الألوان لإظهار صور مثل «أعمدة الخلق» بهذا الشكل.

اقرأ أيضًا: أقمار جاليليو

صور هابل على قمصان الشباب

قضت جيان إنجلش، الأستاذة بجامعة مانيتوبا، حياتَها المهنية في تحسين التقنيات الفنية للبيانات الفلكية. وأثناء عملها في «مشروع تراث هابل»، الذي تشكل في عام 1998 على يد مجموعة من علماء الفلك، عملت مع فريقها على إنشاء وتنسيق الصور التي ساعدت في إنقاذ هابل. قالت الدكتورة إنجلش: «كان للرأي العام تأثيرٌ كبيرٌ في ذلك، وكان لتلك الصور التي أثبتت مدى جودة التلسكوب دورٌ هامٌّ في إثارة تعاطف الجمهور مع مشروع هابل، وتقبله لتكاليفه المادية الباهظة».

كما أضافت إنجلش أن «صور هابل قد أصبحت من مكونات الثقافة الشعبية، وظهرت في الشوارع مطبوعةً على قمصان الشباب، بل وفساتين السيدات».

الجمهور يشارك في تصوير المشتري

بالإضافة إلى عمل ناسا على تلسكوب هابل، فهي توفر منصةً مباشرةً للجمهور للتعرف على الكون من خلال فن الرسوم المتحركة. في عام 2011 ، أطلقت ناسا المركبة الفضائية جونو Juno، ومهمتها دراسة تكوين كوكب المشتري وتطوره. وقد احتوت المركبة، بجانب أسطول من الأدوات العلمية، على برنامج إضافي يسمى JunoCam. ومنذ وصول جونو إلى المشتري Jupiter في عام 2016، أخذت كاميرا برنامج JunoCam صورًا للكوكب العملاق كل 53 يومًا. يتم تحديد أهداف هذه الصور من قبل الجمهور من خلال التصويت عبر الإنترنت، ويقوم الهواة بمعالجة البيانات الخام والصور بعد أن ينشرها فريق JunoCam على الإنترنت.

يقول كانديس هانسن، المحقق المشارك في مهمة جونو والمسؤول عن تطوير وتشغيل برنامج JunoCam:

«أردنا إعطاء الجمهور فرصة للمشاركة الفعالة، وليس فقط السلبية، في تشغيل أدوات الطيران على متن مركبة فضائية». وأضاف: «نوفر للجمهور ثلاث نقاط التحاق اعتمادًا على قدراتهم. ويأتينا خبراء يرغبون في البدء بالبيانات الأولية، وغيرهم ممن يرغبون في العمل على الصور الملونة وتعديلها ببرنامج فوتوشوب، وكل ذلك جيد».

 في هذه العملية، يضيف البرنامج إلى العلماء منظورًا جديدًا للنتائج. يقول هانسن:

«عندما نحصل على تلك الصور التفاعلية الملونة ذات المعالجة المفرطة، فإنها تجعلنا ننظر عن كثب إلى ما فيها»، وأضاف: «حتى كعالم، فأنا متحمس للغاية لهذه الرؤية الجديدة تمامًا لكوكب المشتري».

في الواقع، لقد نشرت بعض المجلات العلمية بعض إخراجات الهواة لصور برنامج JunoCam. ومؤخرًا، أثارت بعض صور برنامج JunoCam اهتمامًا علميًّا عندما كشفت أن الأعاصير الحلزونية غير المعتادة عند قطبي الكوكب كانت مستقرةً وقريبة من بعضها بشكل لم يكن متوقعًا.

من الرسم إلى المجسمات ثلاثية الأبعاد

في عام 2014، أطلق بينديكت ديمر -عالم الكونيات في مركز هارفارد سميثونيان للفيزياء الفلكية- مشروعًا فنيًّا تعاونيًّا يدعى «نسيج الكون» بالتعاون مع ايزاك فاشيو -الذي كان يدرس حينئذ في معهد الفنون في شيكاغو- لدمج البيانات الفلكية مع الفن في نسيج واحد. باستخدام المحاكاة الحاسوبية لبنية الكون، قام ديمر وفاشيو ببناء نماذج باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد توضح كيف تربط خيوط الغاز والمادة المظلمة بين مجموعات ضخمة من المجرات، في ما يسميه الفلكيون بالشبكة الكونية cosmic web. وتظهر تلك النماذج خصائص جدارية الشبه لا تظهر عادة في الصور ثنائية الأبعاد.

يقول ديمر: «بالنسبة لمعظم التحليلات، لا بأس بالتفكير ثنائي الأبعاد، لكن هناك مجال كامل من الفيزياء الفلكية يهتم بفهم الشبكة الكونية بشكل ثلاثي الأبعاد».

وبمساعدة نول خاص، صنعا أيضًا أعمالًا منسوجة بحجم شاحنة تقريبًا تصور التشابكات البينية داخل الشبكة الكونية. وجاء في ورقة كتباها في 2017 عن التعاون بينهما، «إننا نعتقد أن الفن مثله مثل العلم، يسعى إلى قول شيء حقيقي عن طبيعة الوجود، وأفضل ما يحقق هذا الهدف هو العمل الفني الذي يشتبك مع البيانات الحقيقية وليس فقط التصورات المجازية».

وقد عُرضت أعمالهما الفنية في «معرض الأعمال غير الخيالية» في سافانا بولاية جورجيا وفي «قبة أدلر السماوية» في شيكاغو. ورغم أن المشروع موجه في أغلبه إلى الجمهور، فقد ترك أيضًا أثرًا خفيًا على أبحاث ديمر نفسه، حتى وإن كان مترددًا في تحديد ماهية ذلك التأثير بالضبط. قال ديمر: «أعتقد أن كل هذه الأمور تؤثر على اتجاه عملي بلا شك».

دور الفن في مستقبل علم الفلك

نظرًا لتنامي قواعد البيانات في علم الفلك بصورة أكبر من أي وقت مضى وجمعها بين العديد من القياسات من شتى أنواع التلسكوبات، لا مفر من استخدام تقنيات جديدة للتعامل مع كل هذه المعلومات. وبالاستعانة بمبادئ الفن لإنشاء تصورات علمية، سيستطيع علماء الفلك رؤية عملهم بمنظور جديد، وربما، وهو الأهم، مشاركة اكتشافاتهم مع علماء آخرين بشكل أكثر وضوحًا من التقنيات التقليدية.

في النهاية، أكدت الدكتورة إنجلش على أهمية  الاستعانة بتقنيات الفن في مجال التصوير الفلكي، وأنها بالفعل تعزز علم اكتشاف الفضاء؛ وأضافت: «إن تطبيق التقنيات المستمدة من الفن يؤثر بالتأكيد على الطريقة التي يرى بها الفلكيون بياناتهم ويتفاعلون معها».

نرشح لك: تلسكوب هابل الفضائي يعود للعمل

المصدر
https://undark.org/article/astronomy-art/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

ترجمة: زكريا أحمد عبد المطلب

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا