ما يحدث في بلاد النور

خمس دقائق كانت المدة الفاصلة بين الوهم والحقيقة، الجزع والصبر، الضعف والقوة، الهزيمة والانتصار، وأيضًا بين الحياة والموت. وخلالها قد أثار بطلنا جدلًا واسعًا في بلاد النور، مما جعل الكل يتحدث ويتهامس هنا وهناك، كان اسمه أول ما تلتقطه أذناك حينما تهم بدخول أي حارة، غير مستوعبين أن هناك شابًا قد فعل ذلك الإثم بالفعل، خائفين مترددين ومنبطحين فكانوا يخفضون أصواتهم إن جاء الحديث إلى رد فعل الحراس على هذا الذنب العظيم! ويستبدلون الفعلة بيا حفيظ يا حفيظ!

خيم الليل على المنطقة المذنبة على حد قول كبير الحراس، فكان قد خرج إلى الناس يخطب فيهم مهددًا بأن الصبي هرب لأنهم السبب في ذلك لا محالة! هرب الصبي وترك المأساة تبتلعنا، لقد تجرأ علينا هذا الوغد بفعلته المقيتة ثم ماذا؟ ثم هرب! لا تنشروا اسمه، لا تنظروا إلى فعلته بل إلى أنفسكم التي نخرها دود الإثم، بالفعل أنتم الآثمون حينما أبعدتم أولادكم عن التعاليم المقدسة، توليتم عن المعابد وذهبتم إلى مواخير الرقص والفجور، قرأتم ونهلتم من أفكار وبحور الخوارج فتجرعوا من الآن كؤوس الهزيمة بدلا من الخمر، وارقصوا على أجسادكم الهالكة لا مفر حينما يحل عذاب الجبار القوي!

أغلق مساعد كبير الحراس الباب ونظر إلى أعلى لتلتقي عيناه مع نظيرتهما عند كبير الحراس، فوقع قلب الشيخ الكبير أرضًا حينما رأى جهنم تتمثل في عينين، قطعت أنفاس كبير الحراس الصمت المدقع قبل أن يبدأ الحديث المتوقع، فقال بذلك الهدوء الذي يسبق العواصف وبلغة العوام التي لا تستخدم في المعابد: “استلم فضلات كتاباتك يا شيخنا، أتمنى تكون مبسوط”.
جمع الشيخ رائيل كل قواه ليرتب ردًا يليق بالمكان المقدس قائلًا باللغة المقدسة:
“كتاباتي ليست لها دخل، لقد أسهمت في الحضارة ورفعة هذه البلاد بلا ريب، لا في التخريب الملوث الذي وصل لعقل هذا الشاب بالتأكيد، لقد فهم هو كلامي بالخطأ”.
استحال كبير الحراس وحشًا وانقض على الشيخ ليلكمه ثم كظم فعلته عند اللحظة الأخيرة، حينما أدرك وهن العجوز وأنه حتمًا سيموت في يده، فاكتفى بأن يقول بلغة المعبد وهو ينظر في عينيه:
-نحن أمة واحدة لا يجب أن تنفك، لا وجود لخيار آخر غير السير على نهج الجماعة، من ولد هنا سيكبر هنا مدافعًا عنها مسلم لتعاليمنا ومطيعًا، والخروج إثم كبير لا بد من إقامة الحد على فاعله!
رد الشيخ بوهن:
=الشباب الجدد لا شأن لهم بصراعاتنا، علينا فقط إرشادهم لا إجبارهم مثل الأنعام!

-آه من فلسفتك الفارغة! طيب ماذا يا حكيم عصرك وأوانك إذا اختاروا الجحيم؟ نحن نرشدهم إلى النور وهم بقلة عقلهم يختاروا الظلام الحالك، بئس هؤلاء الفسقة الخوارج!
فرد العجوز بترقب:
=لكن التعاليم لا تحرض على القتل إذا ما جنحوا إلى السلم وأنت أدرى بذلك يا كبير الحراس
انتفض كبير الحراس وأحكم قبضته على عنق العجوز يهدده قائلًا:
-اسمع أيها الشيخ الخرف لن أسمع منك حرفًا قبل أن تأتيني بهذا الصبي الماجن حتى نريه عواقب فعلته الدنيئة، أما عنك فسأضعك أنت وفلسفتك الفارغة في منجنيق واحد لتصبح خير قذيفة على العدو في الحرب القادمة!
حاول الشيخ بلع ريقه لكنه وجده زقومًا كأنه ابتلع حجرًا، كان يعرف جيدًا مصير أميهار الشاب المرح الذي لطالما علمه فقام الأخير بمجادلته عندًا تارة وعن علم وقراءة تارةً أخرى، لم يعرف لماذا فعل أميهار فعلته، لقد نصحه مرارًا أن يخفي ما آمن به حديثًا حتى لا يقع المحظور، كانت كل تلك الأفكار تنهال على الشيخ وهو يخرج من المعبد الكبير مفزوعًا لكن ممتنًا إلى آخر أمل وهو أن يصل إلى أميهار قبل الحراس، كان متجهًا إلى بيته وهو لا يستطيع التفكير إلا في الشاب اللماح المحب للحياة يا ترى أين هو الآن؟ لابد أنه اتجه إلى الجنوب إلى أرض بعيدة عن الحراس وكبيرهم، أرض لا يوجد بها مجانق ملتهبة طوال الوقت، وحروب مؤججة وصراعات بين الحراس وبعضهم البعض!

ظل يردد الشيخ في داخله “يحفظك الإله يا أميهار” طوال الطريق بين المعبد وبيته، وبالطبع كان مراقبًا من قبل الحراس فالجميع هنا مراقب حتى كبير الحراس نفسه، لكنهم لا يظهروا إلا ليقتلوا بسرعة وبخفة وكأن القتيل قد فعلها بنفسه، فشعر الشيخ وكأن الهواء له ألف عين تلاحقه فتصبب جبينه عرقًا على الرغم من برودة الجو الملموسة، تعثر وهو يمشي متلفتًا ووقع مرتين وهاهي الثالثة لكن حمدًا للإله كانت الوقعة على عتبة باب بيته الذي وجده مفتوحًا، مما جعله يغرق في ظلمة أفكاره وتذكر الشيخ معلمه الأكبر الذي قتله الحارس داخل بيته بحربته حتى يتبين للخلق أنه قتل نفسه! يا لوقاحتهم لا يجددون إلا في طرق القتل! حتى إنه حدث بالفعل أن يقتل الفرد نفسه ليتخلص من عذاباتهم المستمرة ثم يقولون هاهو قتله بعده عن إله النور، يا لغبائهم المستعر وأياديهم الملطخة بالدماء! لكنه هدأ حينما تذكر أنهم يريدون أميهار لا هو، وأميهار هارب، اهدأ أيها العجوز فلا أحد يعرف أنك المبشر المجهول، حينما أغلق بابه عليه انفرجت أسارير الطمأنينة لكنها تجلطت فجأة واستحالت الأسارير إلى الفزع ذاته، فإذ به وجد أميهار مقتولًا على مقعده!

إعلان

وجم الشيخ وانهارت قسمات وجهه حزنًا، سيقولون أنه قتل أميهار حتى يدججوا بكتاباته نيران القتل والاعتداء، حتى وإن كفر بتعاليمهم فإن هذه التعاليم نفسها لا تحض على قتل هذا الوجه البرئ المسالم، لكنهم لا يفسرون منها للناس إلا كل ما يحرض على الظلام حفاظًا على سلطتهم المهددة دائمًا، تقرب الشيخ من أميهار رويدًا رويدًا وكأنه يحايل الوقت ليحيي الإله من مات، وفي ظل السكون المخيم فُزع الشيخ حينما ضحك أميهار فجأة قائلًا بلغة العوام:
“الصراحة كان نفسي أفضل مقتول حبة كمان لكن ضحكي غلبني، قلتلك يا شيخ محدش هيقدر على أميهار الجبار” والذي قام بدوره فجأة مستعرضًا بحركات راقصة وكأنه على حلبة مسرح ما ثم انهمر في جرعة ضحك هيستيري. بلم الشيخ قليلا ليستوعب ما يحدث وأن هذا المحتال نصب عليه هو شخصيا وأنه لم يمت حقا.. فذهب دون كلمة إلى زير الماء حتى يروي عطشه أولا ليرجع إليه مبتسما قائلا باستنكار: أنت قلبت المنطقة كلها يا أميهار! أنت مدرك اللي هببته!
فرد أميهار وهو يهز كتفيه وكأنه غير مهتم:
-عملت مثل ما يفعل الناس كل يوم في الحانات والأسواق لكن الاختلاف بس إنها مش آلهة الجنوب وإنما الإله بتاعهم الموقر وكهنته!
= تقوم تكسر تماثيل النور يا أميهار؟ هو ده اللي علمتهولك طول السنين اللي فاتت دي؟

لو كانوا بيحترموا آلهة الجنوب مكنتش أنا جيت ناحيتهم، عموما كده كده أنا نازل الجنوب ومش هقعد هنا دقيقة واحدة
فاستطرد بتهكم رافعًا يديه إلى السماء:

– فقلت أخلي ختامها مسك في أرض كبير حراس إله النور.
= وهتهرب ازاي يا فالح والحراس في كل حتة؟

– أميهار عامل زي الزيبق ولا نسيت يا شيخنا لما كنت بهرب من دروس كبير الحراس نفسه!
= احترم قلقي عليك ومش كل حاجة تاخدها بسخرية
فقرر أميهار أن يطمئنه حقا، لذلك خلق وجهه جدية غير معتادة، وبسط خريطة كان قد رسمها بنفسه داعيًا الشيخ أن ينظر إليها فوضح له طريقًا إلى الجنوب لا يعرفه الحراس، طريقًا إلى أرض النور الحقيقية، وإنه بالتأكيد سيأخذ الشيخ معه لأن تركه قد يجعل مصيره المنجنيق كما هدد كبير الحراس، التفت أميهار إلى الشيخ مبينًا طريقة هرب الأخير دون أن يشعر بتعب، فإنها حقًا حيلة جيدة يا أميهار!

تبين صبيًا صغيرًا من مريدي الشيخ كبير الحراس صوت أميهار المتسرسب من أعمدة الخوص، فذهب ليخبر الجميع أن أميهار في بيت الشيخ رائيل! آخر مكان يمكن أن يخطر على بال الحراس صحيح! إن مساعد كبير الحراس نفسه هو الذي يأوي أميهار، ياللعجب!

وفي خضم انشغالهم بالخريطة وبخطة أميهار المحكمة كانت أعمدة الخوص لبيت الشيخ رائيل تبكي وتتمنى لو أنها تستحيل بشرًا لتنبه أميهار ومعلمه بالنيران المتسللة إليهما، والتي قد أشعلها الأهل والناس لا الحراس، الأهل ذاتهم التي لطالما ضحك وسطهم أميهار كثيرًا وأضحكهم وأمطرهم بنكاته وخفة ظله، لكنهم الآن الخوارج التي عليهم محاربتهم أينما كانوا! دُهش الرجلان حين فوجئا بالنيران والهزيمة معًا، تخبطا وصرخا كثيرًا هنا وهناك ولا أحد يسمع! بل قذائف النار حاصرتهما من كل جهة وصوب، لا مخرجًا ولا نورًا في بلاد النور، فقط أصوات تجهر بالانتصار “قتلنا الخوارج، قتلنا الخوارج”، ياليتهم حتى أصوات الحراس لكنها كانت أصوات أهل بلاد النور التي لا ترى بالفعل النور.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: غصون حجاج

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا