جناية الماركسية على تركستان الإسلامية
كان من أهمّ ما ميَّز تاريخ أوروبا الحديث هو ظهور أيديولوجيّات وأفكار شكلت العقل الغربي ومنطق تفكيره، وإن اختلفت هذه الأفكار وتضاربت رُؤاها في بعض الأحيان، فكان القرن التاسع عشر الميلادي عصرًا متجدِدًا لانطلاق هذه الأفكار وانتشارها، فكانت الماركسية من أشهرها والتي جاءت كردٍ على الرأسمالية المزدهرة ومحاولةً للحلول مكانها، في الفكر الغربي الذي يُرسّخ الاستعلاء المركزي للإنسان الأوروبي.
لتنطلق الماركسية وأيديولوجيتها الشيوعية في ساحة التاريخ، وتأخذ حقها من الإجرام الأوروبي الغربي على بقية شعوب العالم، فكانت تركستان في شرق العالم الإسلامي نموذجًا تاريخيًا واضحًا لجناية الأيديولوجية الماركسية.
نشأة الفكر الماركسي وامتداده
الأيديولوجية الماركسية باختصار تعبر عن ضرورة تأسيس الاشتراكية الاجتماعية في إدارة الموارد والإنتاج، وقد ظهرت في المجال الاجتماعي والاقتصادي على يد الفيلسوف الألماني كارل ماركس ثم صديقه إنجلز منتصف القرن التاسع عشر، تعتمد على المادية التاريخية كفلسفة وتتبنى الإلحاد نفيًا للدين، ثم تنادي بالفكر الاشتراكي والدولة الشيوعية ردًا على الرأسمالية والليبرالية.
وهي ككل الفلسفات وتيارات الحداثة الغربية، نشأت تمردًا على بقايا الكهنوت الكنسي والتصاعد الرأسمالي، فصارت تندِّد بالطبقية وتنادي بالمجتمع الشيوعي والاقتصاد الاشتراكي، ليتوسَّع التيار الماركسي في عددٍ من البلدان الغربية ويتحول إلى أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومنتديات ثقافية، لها وزنها في المنظومات الغربية.
لكن لم يظهر التطبيق العملي للماركسيّة إلا بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م، والتي انتهت بتأسيس الاتحاد السوفياتي كنموذج للدولة الشيوعية القوية والمنتظرة، لتتجدد النظريات في الفكر الماركسي فصار هناك ما يسمى بالماركسية اللينينة والماركسية الستالينية، والتي تنسب للزعيمين السوفيتيين لينين وستالين، كما تكررت التجربة من جديد في الصين على يد ماوتسي تونغ ورفاقه عام 1949م، ثم في دول أوروبا الشرقية وبعض بلدان شرق آسيا وأمريكا اللاتينية إبان فترة الحرب الباردة.
لماذا تركستان؟
يطلق لفظ تركستان على مَواطِن الشعوب التركية في آسيا الوسطى والتي شملها الفتح الإسلامي منذ القرن السابع الميلادي، فصار يطلق عليها بلاد خراسان أو منطقة ما وراء النهر، فكانت من أقطار العالم الإسلامي التي تفيض بالحضارة الإسلامية، وصارت مدنها كبخارى وسمرقند وطقشند وفرغانة وخيوة تشكل مراكز حضارية حيوية متصلة بباقي بلاد المسلمين في تلك القرون المزدهرة.
وقد تعرَّضت هذه البلاد لضرباتٍ موجعة أدت إلى اضمحلالها؛ بدايةً بالغزو المغولي ثم بقيام الدولة الصفوية في فارس وتأثيرها في تلك الأنحاء، وأخيرًا بتمدد الروس في الشمال واجتياحهم لها في عهدي القيصرية والشيوعية.
فكان هذا نتيجة طبيعية لتفكك هذه البلاد والضعف الحضاري لأقطارها، والذي جرى مثيله في باقي البلاد الإسلامية منذ القرن الثامن عشر -على الأقل-، حيث وقعت معظم مناطق العالم الإسلامي في قبضة الاستعمار الأوروبي، بينما انفردت روسيا والصين بمناطق تركستان.
الغزو السوفيتي لتركستان الغربية وآثاره المدمرة
وقد وقعت تركستان تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعاش أهلها هناك أيامًا صعبةً تحت حكم القياصرة الروس وسطوة كنيستهم الأرثوذكسية، والذين نهجوا سياسات الاستعمار العسكري في إدارة البلاد، لكن مع قيام الثورة البلشفية عام 1917م واستبدال روسيا القيصرية بروسيا الشيوعية؛ تعرّض المسلمون في تركستان لاضطهاد على يد الشيوعيين السوفييت فاق بكثير اضطهاد زمن القيصرية.
فقبل هذا وعد البلاشفة الماركسيون وقائدهم لينين المسلمين بالاستقلال والحرية في حال وقوفهم مع الثورة الشيوعية ضد الحكم القيصري، وقد استجاب المسلمون بالفعل ودعموا الجيش الأحمر حتى انتصاره وتأسيسه الاتحاد السوفياتي، وما لبث أن انقلب على المسلمين في محاولتهم للاستقلال وتأسيس دولتهم في تركستان، فأقام عليهم مذابح رهيبة منذ عام 1920م.
فقمع السوفييت بعد ذلك جميع ثورات المسلمين في تركستان، وزادوا من قبضتهم الحديدية على البلاد فدمّروا المساجد والمدارس الدينية، وأفرطوا في الدعاية لأفكار ماركس في النوادي والمدارس والوسائل الإعلامية، لتترك الماركسية أو”الإلحاد الأحمر” آثارًا قاسية في المجتمع التركستاني المسلم الذي عانى الأمرين.
وبعد الحرب العالمية الثانية نفذّ الإتحاد السوفياتي إجراءات ستالين الوحشية بعد أن اتهم المسلمين بالتحالف مع النازية والتآمر مع الغرب، فقام الشيوعيون من جديد بذبح الملايين في تركستان وتحويل ما تبقى من المساجد إلى أندية ترفيهية ومستودعات للمحاصيل الزراعية، واستمرت الأوضاع في تدهور وانقسم المسلمون في تركستان الغربية إلى جمهوريات اشتراكية تابعة لموسكو تحكم بالنار والحديد، ولم يجد المسلمون طريقة لحفظ دينهم وثقافتهم إلا ببناء مدارس قرآنية تحت الأرض بعيدًا عن أعين الماركسية، فقد رسّخ الاحتلال الروسي الطويل ثقافته ولغته حتى استُبْدلت الحروف العربية بالحروف السلافية الروسية، وسعى إلى محاربة أبسط مظاهر التدين.
وفيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م، خلَّفت الشيوعية في تركستان آثارها الفظيعة، حيث ورَّثت جمهوريات آسيا الوسطى هناك نُظم علمانية متوحشة التي أسستها الماركسية من قبل، وقد استغلت القوى الغربية زوال سلطان الشيوعية فتدخَّلت في تركستان واستمالت بعض النخب النافذة هناك إلى صفها وتقاسمت البعض الآخر مع الروس، لتبقى تركستان الغربية في معاناتها تحت الهيمنة الغربية والروسية.
مأساة تركستان الشرقية في ظل الاحتلال الصيني
وتركستان الشرقية هي القسم الشرقي من بلاد تركستان الواقعة في آسيا الوسطى، والتي عمّها الإسلام منذ قرونه الأولى، لكن الضعف والتفكُّك الذي أصاب العالم الإسلامي في القرون الأخيرة قد جعل هذه البلاد فريسةً للاحتلال الصيني، الذي احتلها ابتداءً من القرن الثامن عشر والتاسع عشر في عصر حُكم الأسرة المنشورية للإمبراطورية الصينية.
وقد اندلعت ثورات المسلمين في هذه الفترة؛ إلا أن الصينيون تمكنوا من قمعها جميعا بمذابح ومجازر، كما ساعد وقوع بلاد التركستان الغربية في يد الروس في هذا الأمر، حيث تعاون الروس في كثيرٍ من الأحيانِ مع الصينيين للسيطرة على تركستان الشرقية، سواء في عصر الإمبراطورية أو الجمهورية في القرن العشرين، والذي استمرت فيه الثورات التركستانية في وجه الصين.
لكن الوضع سيعرف تطورًا جديدًا بدءًا من عام 1949م، حينما قامت الثورة الشيوعية في الصين على يد المجموعة الماركسية بزعامة ماوتسي تونغ، فاتجهت إلى تركستان لشن حملات إستئصالية ضد المسلمين، فقام الشيوعيون بمذابح مهولة في العقود التالية إلى درجة تحوَّل فيها أغلبية المسلمين الأيغور هناك إلى أقلية، أمام عِرق الهان الصيني الوافد والذي استوطن تركستان الشرقية.
والآن أمام كل إخفاقات مُسلمي الأيغور في نيل استقلال -أو حكم ذاتي على الأقل- في الجمهورية الصينية التي يُسيطر عليها الحزب الشيوعي، أقدمت الصين بأيديولوجيتها الماركسية الاستئصالية بإقامة معسكرات اعتقال للمسلمين ومحاسبتهم على أبسط مظاهرهم الإسلامية، من أجل جرْدِهم من دينهم وإبادتهم وتطهيرهم بالكامل وإجبارهم على الإلحاد، في مشهد يعيد ذكرى محاكم التفتيش في الأندلس.
قضية تركستان في واقع العالم الإسلامي
لقد صارت قضية تركستان من قضايا الأمة الإسلامية الموجعة، سواء بقسميها الشرقي أو الغربي، فتركستان الغربية والتي كانت تسمّى بتركستان الروسية، لم يعد فيها من معالم الإسلام إلا قليل من المظاهر، فمعظم هذه البلاد تحكمها ديكتاتوريات علْمانية خلفها الإرث الشيوعي الثقيل، وورثت أساليبه في قمع واضطهاد كل توجه إسلامي ينادي بالتحرر والاستقلال من الهيمنة الروسية والغربية اللتان تقتسمان البلاد وتستعبدان العباد، فقد كانت هذه الجمهوريات السوفياتية شبيهة بالجمهورية التركية الأتاتوركية في القرن العشرين حيث سلطة العلمانية المتوحشة والمتطرفة المعادية للإسلام.
أما في الجزء الشرقي من تركستان وهو المعروف حاليا بتركستان الصينية أو إقليم “شينغيانغ” الصيني، فقد صارت قضيتها من مآسي العالم الإسلامي اليوم، حيث يجري اضطهاد فظيع للمسلمين في أراضيه بواسطة معسكرات اعتقال شبيهة بالمعسكرات النازية في أوروبا، حتى صار مجرد امتلاك مصحف وسجادة صلاة تهمة للارهاب والتطرف، ومن ثم الاعتقال والتعذيب وربما الإعدام، فصار التركستانيون مطاردين ومشردين في ديارهم، وتخضع بيوتهم للمراقبة المباشرة من قبل السلطات الصينية، وكل هذا أمام أنظار بقية المسلمين والعالم.
فبلاد تركستان الإسلامية التي كان لها إسهام في ازدهار حضارة الإسلام عبر قرون عديدة في التاريخ؛ صارت الآن تعيش مأساة حقيقية في ظل تسلّط أنظمة عاتية في الإجرام والإرهاب، والتي أنجبها الفكر الماركسي الشيوعي المجرم وأيديولوجيته الإلحادية التدميرية التي خرّبت تركستان وجعلته قاعًا صفصفًا، فإذا كُنَّا نُعاني نحن المسلمون بالمجمل من هيمنة منظومة الغرب العالمية؛ فإن جزءًا آخر في شرق العالم الإسلامي وهو تركستان يعيش في معاناة شديدة، جرّاء احتلال مجرم كالصين في تركستان الشرقية وروسيا –بشكل غير مباشر- في تركستان الغربية، والتي تتدخل فيها القوى الغربية كذلك.
المراجع: محمود شاكر، مواطن الشعوب الإسلامية في آسيا: تركستان، دار الإرشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 1970م. محمود شاكر، تركستان الشرقية، مؤسسة الرسالة، بيروت،1973م. عبد الله بن زايد، الاشتراكية الماركسية ومقاصدها، الطبعة الثالثة، 1986م.