جبل راشمور: الأسطورة والتاريخ

أثار معلم داكوتا الجنوبية الكثير من الانتقاد نظراً للمساحة التي يشغلها، والنحات الذي نحتها، وتراث الرجال المخلدين فيه.

هذا العام، ولأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان، سوف يتم إشعال ألعاب نارية هائلة احتفالًا بعيد الاستقلال في النصب التذكاري لـ”جبل راشمور”. وتصور المنحوتة وجوه أربعة من رؤساء أمريكا – واشنطن، جيفيرسون، ثيودور روزفلت، ولينكولن – وقد نقشت في واجهة من الجرانيت في التلال السوداء في داكوتا الجنوبية. وخلال العقود الثمانية منذ الانتهاء من المنحوتة، لم يمر وقت قط دون أن يثار جدل حولها.

لذا، فعندما أعلن الرئيس ترامب في شهر مايو أنه ينوي حضور الاحتفالات المقامة في الجبل، فقد اجتذب المزيد من التمحيص في تاريخ الأثر، وتاريخ الزعماء الذين يحتفي بهم، والنحات الذي قدم هذا العمل، والأرض التي يرتفع أعلاها.

فكثيرًا ما انتقد السكان الأصليون المنحوتة، وكان من أحد الأسباب أنها أقيمت على أرض السكان الأصليين، أما مؤخرًا، وفي ظل الحركة الواسعة ضد العنصرية التي شهدتها البلاد، والتي أدت إلى اسقاط نصب لإحياء ذكرى جنرالات الكونفيدرالية وغيرهم من الشخصيات التاريخية، فقد نادى بعض النشطاء بإغلاق جبل راشمور.

وجوه النحات الأربعة

خلال عشرينيات القرن العشرين، كان دوان روبينسون، وهو مؤرخ من داكوتا الجنوبية، يتفكر في سبل لإقامة نصب تذكاري يعمل على جذب السياح إلى الولاية. وتصور السيد روبنسون في البدء منحوتة لتخليد شخصيات من الغرب الأمريكي، مثل المستكشفين لويس وكلارك، أو أوجلالا لاكوتا زعيم السحابة الحمراء. إلا أن النحات الذي تم اختياره لهذا المشروع، وهو جوتزون بورجلوم Gutzon Borglum، فقد استقر على تصور خاص لإحياء ذكرى أربعة من القادة السابقين للقوات المسلحة.

ويقول د. جين سميث، أستاذ التاريخ الأمريكي بجامعة تكساس المسيحية: “لقد اختار النحات الرؤساء الأربع الذين مثلوا في رأيه الإنجازات الكبرى للتاريخ الأمريكي”.

إعلان

وكان السيد بورجلام، قبل أن يتم اختياره لمشروع جبل راشمور، منشغلًا بمشروع آخر، وهو نقش غائر هائل بجبل ستون في ولاية جورجيا، كان الهدف منه تخليد الزعماء الكونفدراليين.

وتم إنهاء المشروع في النهاية دون مشاركته، إلا أن السيد بورجلام كان قد وطد علاقاته مع قادة حركة الكو كلوكس كلان، وشارك في اجتماعاتهم، بهدف تأمين التمويل الضروري لمشروع جبل ستون. كما أنه تبنى أفكار تفوق الجنس الأبيض وأفكار مناهضة للسامية، طبقًا لمقاطع في خطابات له يضمها كتاب “الآباء البيض العظماء”، وهو كتاب ألفه الكاتب جون تاليافيرو عن تاريخ جبل راشمور.

وفي أعقاب البدء في عملية نحت نصب التلال السوداء عام 1927، حاربت إحدى مناصرات حقوق المرأة، اسمها روز أرنولد باول، ليتم ضم صورة الناشطة سوزان ب. أنتوني، فسعت للحصول على مساعدة السيدة الأولى، إلينور روزفيلت، والتي كتبت مخاطبة السيد بورجلام دعماً للفكرة عام 1936. إلا أن الأخير اعترض على الفكرة، وتم إيقاف مشروع قانون بالكونجرس ينص على إضافة وجه سوزان أنتوني، بعد أن قالت لجنة التخصيص أن التمويل محدود ويقتصر على العمل الذي كان قيد التنفيذ فعليًا.

قطعة كبيرة جداً من ثقافة أمريكانا

كان العمل على إنجاز النصب الشامخ شاقًا، وامتد على مدار أربعة عشر عامًا من الديناميت والكسارات. وشق المشروع طريقه بصعوبة لتجاوز الركود الكبير واندلاع الحرب العالمية الثانية، مرورًا بصعوبات اضطرت البناة إلى تدمير محاولة أولى لنحت وجه جيفرسون، وإعادة الكرة من جديد، إلى وفاة السيد بورجلام، الذي خلفه ابنه لينكولن ليستكمل العمل.

وتم إلغاء مخطط أولي لنحت الرؤساء إلى الخصر، وتم الانتهاء أخيرًا من المشروع عام 1941، ومع زيادة الطرق السريعة التي تم إنشاؤها، وزيادة رحلات السيارات التي أصبحت هواية أمريكية، رسخ جبل راشمور نفسه مقصدًا يجب زيارته – فهو قطعة مهيبة من ثقافة أمريكانا، تغطي مساحة ميلين مربعين من الجرانيت، وتجتذب أكثر من مليوني سائح سنويًا.

ومنذ عام 1998، أصبحت الألعاب النارية التي تطلق بمناسبة عيد الاستقلال من عوامل الجذب السنوية، إلا أنه تم إلغاؤها عام 2010 خشية اندلاع الحرائق، وفي عام 2016، وجد تقرير من هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، أن عروض الألعاب النارية السابقة على الأرجح قد أدت إلى ارتفاع نسب كثافة أحد المواد الملوثة المعروفة باسم البركلورات في المياه الجوفية بالمنطقة.

وقد كتب السيد ترامب تغريدة، يدعم فيها عودة “الألعاب النارية الهائلة” إلى النصب التذكاري، ردًا على إعلان كريستي نعوم، حاكمة ولاية داكوتا الجنوبية، وهي من الحزب الجمهوري، العام الماضي، بأن عروض الألعاب النارية ستعود عام 2020، وأعربت عن امتنانها للرئيس “لمساندته في تحقيق هذا”.

تاريخ من الخلافات

تم بناء جبل راشمور على أرض تملكها قبيلة لاكوتا، ويقول نيك تيلسن، وهو أحد أفراد قبيلة أوجلالا لاكوتا، ورئيس جمعية NDN، وهي مجموعة من النشطاء من السكان الأصليين.

وأوضح السيد تيلسن في مقابلة، أن المستكشفين قاموا في سبعينيات القرن التاسع عشر بالاستيلاء على الأرض أثناء البحث عن الذهب، بما كان يعدّ انتهاكًا لمعاهدة حصن لارامي عام 1868، والتي اعترفت بملكية الهنود الحمر للتلال السوداء.

وبعد مرور قرن من الزمان، احتلت مجموعة من الهنود الحمر الموقع، احتجاجًا على انتهاكات المعاهدة، وأيد حكم المحكمة العليا عام 1980 حكمًا بدفع أكثر من مائة مليون دولار على سبيل التعويض لثمانية من القبائل عن الاستيلاء غير القانوني على الأرض.

كما اعترض منتقدو النصب أيضًا على الرجال الذين تم نحت وجوههم في الجرانيت، فقد قال السيد بورجلام أنه قد اختار كل من واشنطن وجيفرسون ولينكولن وروزفلت، حيث أنهم رجال يجسدون “تأسيس وتوسيع وحفظ وتوحيد الولايات المتحدة الأمريكية”.

إلا أن لكل من عمالقة التاريخ الأمريكي هؤلاء تراث معقد، فقد كان كل من واشنطن وجيفرسون من مالكي العبيد، وأوضح د. سميث أن روزفلت سعى حثيثًا لتحويل الهنود الحمر إلى المسيحية واقتلاعهم من جذورهم مع توسع الولايات المتحدة، وأضاف قائلًا: “لقد كان عنصريًا”.

فيقول روزفلت في خطاب له عام 1886: “لن أتمادى في القول بأن الهندي المسالم الوحيد هو الهندي الميت، لكنني أعتقد أن تسعة من كل عشرة ينطبق عليهم القول، ولا أرغب في التعمق في بحث حالة الهندي العاشر”.

وعلى الرغم من أن لينكولن كان صاحب إعلان تحرير العبيد – وهو تحرك وصفه البعض بأنه كان مترددًا ومتأخرًا – فقد تعرض تعامله مع ما عرف بانتفاضة منيسوتا للانتقاد، حيث تم الحكم بالإعدام على أكثر من ثلاثمائة من الهنود الحمر في محاكمة عسكرية بعد اتهامهم بالهجوم على مستوطنين بيض عام 1862.

وعلق لينكولن أنه لم يجد ما يكفي من الأدلة في أغلب القضايا، وخفض عدد المدانين إلى 38، والذين تم إعدامهم فيما عرف بأكبر عملية إعدام جماعية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

النشطاء والمسؤولون يتطلعون إلى المستقبل

قد يعجبك أيضًا

يقول السيد تيلسن أن الجهود الحالية لمجابهة المظالم العنصرية في الولايات المتحدة قد تمثل فرصة لإعادة التفكير في مستقبل النصب التذكاري، فيقول: “يجب إغلاق جبل راشمور هذا النصب التذكاري، ويجب إعادة الأرض إلى السكان الأصليين”.

وفي بيان صدر يوم الإثنين (29/6/2020)، أطلق هارود فرايزر، وهو زعيم قبيلة شايان ريفر زيوكس Cheyenne River Cioux، على النصب بأنه “وصمة على أجسادنا”، ومن ثم يجب إزالته.

وأضاف قائلًا: “يأتي الزوار لرؤية وجود هؤلاء الرؤساء، ويمجدون فضائلهم التي يؤمنون أنها ما جعلت أمريكا هذا البلد الذي نراه اليوم، أما لاكوتا، فيرون في هذه الوجوه رجالًا كذبوا وخدعوا وقتلوا الأبرياء ممن لم يرتكبوا جرمًا سوى أنهم كانوا يعيشون على الأرض التي جاءوا لسرقتها”.

أما د. سميث فيرى أنه يمكن تقديم التعويضات للقبائل “في محاولة للتكفير عن نهمنا واستيلائنا غير المبرر على أرضهم”. وأضاف أن جبل راشمور يقدم فرصة للتعرف على التاريخ الأمريكي، بما في ذلك الأخطاء التي تم ارتكابها، فيقول: “يمكننا أن نحافظ على نصب في مكانه، طالما تم وضع المسمى السياقي المناسب له”.

وقد تم بالفعل وضع بعض السياق في هيئة منحوتة هائلة غير مكتملة “للحصان المجنون”، زعيم قبيلة أوجلالا لاكوتا، والذي قاوم المستوطنين البيض، فقد تم البدء في نحت النصب في التلال السوداء عام 1948، لكنه لم يكتمل، فلا يظهر منه سوى الوجه.

وتقول مورين ماكجي-بالنجر، المتحدثة الرسمية لخدمات المنتزهات القومية، أن زوار المنطقة يمكنهم التعرف على شعب لاكوتا والتلال السوداء أيضًا من خلال برامج يقودها حراس المنتزهات، وأنه يمكن إضافة معلومات عن “مرحلة ما قبل النحت” لجبل راشمور مستقبلًا.

وقد اعترض مسؤولو الولاية على إغلاق جبل راشمور، وقالت السيدة ناعوم في بيان مؤخرًا ردًا على عمليات إسقاط نصب أخرى، وواصفة “التهديدات” للنصب التذكاري: “لن يحدث هذا في مناوبتي”.

وأضافت: “سوف نعمل كل ما في وسعنا لضمان بقاء جبل راشمور بشموخه وجلاله كما هو اليوم، وإن لم يتصف الرجال المكرمون على واجهة جبل راشمور بالكمال، فإن الكمال لله وحده.”

المصدر:
https://www.nytimes.com/2020/07/01/us/mount-rushmore.html#click=https://t.co/pHmJScnYbb

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ليلى أحمد حلمي

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا