جاك لاكان و أليغوريا (الرسالة المسروقة)
قِصَّة (الرسالة المسروقة) للروائي الأمريكي (إدجار آلان بو)، هي قصَّة قصيرة بوليسيَّة تَحكي عن أن وزيرًا من البلاط الملكي يأتي إلى (أوجست دوبين)، وهو المحقق الذي ابتدعَه (إدجار آلان بو) في قصصه البوليسية، لكي يجد أن رسالةً قد سُرِقَتْ من الملكة، ويحمل نصُّها كلامًا مُهمًّا قد يضرُّ بالأمن العام، وسنأتي على ذِكْرِها بإيجاز. لكن المثير للدهشة هو أن (جاك لاكان) قد استهلَّ بها المجموعة الأولى من مقالاته في (كتابات Ecrits) في فصلٍ دراسيٍّ استغرق عامًا كاملًا، وهو سمينار (الرسالة المسروقة). فما القيمة العلمية والتحليلية التي وجدها (لاكان) في هذا العمل الأدبي لـ (بو)؟ وما مدلول الرسالة اللاكانية التي يَوَدُّ (لاكان) تمريرَها وإثباتَها للمحلِّلين آنذاك؟
ملخص القصة
تدور قصة الرسالة المسروقة حولَ رسالةٍ وُجِّهَت إلى ملكةٍ من جهة مجهولة -مجهولة للقارئ- لكن الملكة هي وحدها التي تعرف المُرسِل. وبينما كانت تقرَؤُها، دخل الملكُ الغرفةَ؛ ولِتُبعِدَ عنها مظاهرَ الارتباك، قامت بترك الرسالة مفتوحةً بجانب السرير، فلا يَظهر منها إلا عنوانُها، محاوِلةً إبقاءَ الأجواءِ طبيعيةً كي لا يلاحظ الملك وجودَ الرسالة. وقد تزامن هذا مع دخول الوزير الذي لاحظ القلق في عيون الملكة وتحديقها المستمر تجاه الملك، كما أنه لِفِطنته تعرَّف على خط كاتب الرسالة -لَربَّما كان يعلم مدلول الرسالة أو عَلاقة الملكة بها- فقام بوضعِ رسالةٍ أخرى أخرجها من جيبه بجانب الرسالة الأصليَّة. وعلى حين غِرَّة، حمل الرسالة الأصليَّة على مرأى من الملكة، وذهب تاركًا رسالتَه غير المهمة. فكانت الملكة عاجزة عن التعبير لأنه حينها سيفتضح أمر الرسالة ومحتواها. وبعد مغادرة الملك للغرفة، اتصلت الملكة بأمين الشرطة، وطلبت منه الحضور بحُجَّة أن رسالةً تهدِّد الأمن العام للمملكة، ويجب العثور عليها، ولكن بتكتُّم ودون علم الملك، وأثارت الشبهات حول الوزير، مما دفع الشرطة إلى تفتيش منزل الوزير، لكنهم لم يجدوا الرسالة، فاستعان رئيس الشرطة بدوره بـ (أوجست دوبين) المخبر البارع بحل المشكلات بشكل منطقي، فينتهي (المشهد الأول)، ليُفتتح (المشهد الثاني) بـ (أوجست دوبين) وهو يباشر البحث عن الرسالة، ويُخرجها من على رف في مكتب الوزير عندما كان الوزير مشتتًا، ويُعطيها لرئيس الشرطة مقابل مكافأة مالية. وقد اعتمد (أوجست) في بحثه على مبدأ: “إذا أردتَ إخفاءَ شيءٍ مهمٍّ فضَعْه في مكانٍ مكشوفٍ لتُبعِدَ عنه الشبهات“. وهكذا فعل الوزير في وَضْعِهِ الرسالةَ بشكلٍ واضحٍ أمام أعين الشرطة. وهذا كان إيجاز قصة (الرسالة المسروقة) لـ (بو).
الرسالة المسروقة والإشكاليات التحليلية للتكرار القهري
وبالعودة إلى (لاكان)، فقد ظهر اهتمام (لاكان) بالقصة عند الإشكاليات التحليليَّة للتَّكرار القهري. بالنسبة لـ (لاكان)، هناك مشهدان في القصة: المشهد الأول (وهو المشهد الأساسي) هو مشهد سرقة الوزير للرسالة من الملكة على غفلة من الملك، والمشهد الثاني (التكراري للمشهد الأول) هو سرقة (دوبين) للرسالة من الوزير على غفلة من الشرطة. وحيث ذكرت (شوشانا فيلمان) عن تحليل (لاكان) للقصة، أن ما يشكِّل التكرار لدى (لاكان) ليس مجرد التشابه في موضوع السرقة المزدوجة، لكنَّه الموقف البنيوي برمَّته، الذي تحدُث فيه السرقة المتكرِّرة، يأتي اللص في كل حالة نتيجةً لعَلاقة موضوعية مؤلَّفة من ثلاثة أطراف؛ والمشاركون الثلاثة في المشهد الثاني هم: الشرطة و(دوبين) والوزير؛ حيث يحتل (دوبين)، بالطريقةِ نفسِها، وضعَ الوزير في المشهد الأول، ويحتل الوزير في المشهد الثاني موقع الملكة في المشهد الأول، وتحتل الشرطة في المشهد الثاني موقع الملك في المشهد الأول؛ وهكذا يعكس كلُّ مشهدٍ صورةَ الآخر، ويصوِّر المشهدان التبادلَ المتكرِّرَ لثلاث نظرات، ثلاث ذوات، تُجسِّدها في كل مرة شخصيات مختلفة. وإن ما نحن أمامه هو تبديل في ثلاثة أوضاع وظيفية، في بنيةٍ تُحدِّد ثلاث وجهات نظر مختلفة، وتُجسِّد ثلاث علاقات مختلفة لعملية الرؤية:
العلاقة الأولى (نظرة اللارؤية): الملك والشرطة.
العلاقة الثانية (ترى وتخفي): الوزير والملكة.
العلاقة الثالثة (ترى أن النظرة الأولى والثانية تركتا ما يجب إخفاؤه في متناول من يريد الاستيلاء عليه): الوزير و(دوبين).
وغاية (لاكان) من كل هذا إثبات أن إزاحة/تحويل الذوات تتحدَّد بالوضع الذي يحتلُّه الدالُّ المَحض (الرسالة المسروقة بأطرافها الثلاثة). وهذا ما سيؤكِّد لنا مكانتَه كتكرارٍ تلقائيٍّ. وبمعنى آخر أكثر سلاسة، تُصبِح الرسالةُ دالَّ اللاشعوريِّ أو رمزَ الدالِّ، حتى تتمكَّن من إلغاءِ ما تدلُّ عليه، أيْ كبت ما تدلُّ عليه. فالرسالة -برأي (لاكان)- هي دالُّ المكبوت الذي يعود بالعَرَض، وهي بديله الرمزي المتكرر؛ وهو في الواقع نفس ما يجري مع التكرار القهري من سلوكيات طقوسيَّة؛ فإن الرغبة اللاشعورية بمجرد كبتها، تُواصِل الحياةَ في وَسَطٍ رمزيٍّ بديلٍ يحكم حياة الذات وأفعالها دون أن تُدرك معناها أبدًا أو تدرك النمطَ التكراريَّ الذي تشيِّده.
يقول د. عدنان حب الله عن لسان (لاكان):
“إن الرسالة المسروقة تمثل بحقٍّ الدالَّ بكلِّ معانيه وأفضليته على المدلول؛ فالقصة تدور حول مَن بحوزته الرسالة، وهي تنتقل من يدٍ إلى يدٍ، بغضِّ النظر عمَّا تحتويه هذه الرسالة من معلومات”.
فالرسالة بمثابةِ رمزٍ ينتقل ضِمْنَ حَلْقَةٍ مُعيَّنة، بحيث لا يُمكن لأحدٍ أن يسمِّيَه دون أن يَدخل في لعبته ويتحمَّل النتائج المترتِّبة عليه. وهذه الرسالة، بمكانٍ ما، تُمثِّل اللاوعيَ الخاصَّ بكلٍّ منَّا، وتَحمل دوالَّ كلٍّ مِن مكبوتاتنا؛ فالوزير يعلم أن الرسالة (الدَّالَّ) مهمة للملكة، لذلك لم يُفشِها، لكنه يُبقيها في حوزته ملوِّحًا بها عند الحاجة؛ لأنه يدرك أنها الآن تخشَى افتضاحَ أمرِها. فكان على (دوبين) إعادة الرسالة في نهاية المطاف؛ لأنه أدرك أنه سيدخل في لعبة حَمْلِه للرسالة، وموقعه كحاملٍ للدَّالِّ ومُتمكِّنٍ من كشف المدلول فيها (أي محتواها)؛ وإنها لمسئولية ربما صعبة، فوجب تسليمها إلى صاحبها.
وهكذا قارب (لاكان) تدخل (دوبين) وإعادته للرسالة، بتدخُّل المحلل الذي يُخلِّص المريض من العَرَض؛ فمهارة المحلل لا تأتي من قوته العقليَّة، بل من إدراكه لموقعه التكراري الذي يسمح للمحلل بإحلال الموقع الثالث اللاشعوري الذي يستلم الدالَّ/الرسالة من المريض، وتبديلها برسالة أخرى (الدال بدالٍّ آخر)، عبر التحويل بتكرار الصدمة، وإحلال بديل رمزي مكانها في الحال، ليدرك المريض في نهاية المطاف رغبته التي رُمِّزَت من خلالِ دالٍّ سابقٍ كان يتمظهر في عوارضَ مستعارَة.
في الختام، إن ما وجده (لاكان) في القصة هو حركةُ الدَّالِّ ذاته داخل البنية الواحدة بين ثلاثِ ذواتٍ متفاعلةٍ فيما بينها، مهمتها نقل الرسالة؛ كلٌّ منهم بدوره، وبما تقتضيه مصلحتهم؛ لكن في نهاية اللعبة على أحدهم أن يُعيدَ الرسالة لصاحبِها، ويُنهي الدائرة، وإلا استمرَّت للأبد بشكلٍ تَكراريٍّ قهري. كذلك الأمر في العَلاقة بين المريض والعَرَض والمحلِّل؛ الأخير يلعب دور المستلم للرسالة، من خلال التحويل من المريض عليه في شكلِ تحويلٍ مضادٍّ من المحلِّل، فيجتاف الرسالة الكلاميَّة، ويُعيدها للمريض بشكلٍ آخرَ مُغايرٍ لِمَا استلمَه، كاشفًا الغطاءَ عن تمظهرات الرغبة لدى المريض.