ثورة الإسلام على الطبقية الاجتماعية

الطبقية قبل الإسلام

أحد أركان مجتمع الجزيرة العربية الذي يمثل هويته قائم على الطبقية، ومن مسلمات العصر حينئذ أن الناس منازل، فلا يمكن أن يقترب العبيد والضعفاء من مقام السادة والحكام والكبراء. وينقل إلينا د. جواد علي الواقع الاجتماعي لهذا العصر في موسوعته (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)، فيقول:

– “كان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة, على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا!

وكانوا (أغنياء مكة) يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة. ولعل هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال”([1]).

– “القتيل إذا كان شريفًا في قومه، وكان قاتله وضيعًا صعلوكًا أو عبدًا، لا يقبل أهل القتيل بـ”القود”، بل بِعُرف تكافؤ الدم. فعندهم أن دم القتيل الشريف، لا يُغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا أن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئًا للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يُقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر”([2]).

– “اعتقد أهل الجاهلية أن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب؛ فإذا كُلب إنسان أتوا رجلًا شريفًا، فيقطر لهم من دم أصبعه، فيسقون المكلوب، فيبرأ. أو يسقونه من دم مَلِك فيشفى. قال أهل الأخبار: “أجمعت العرب أن دواء الكلب قطرة من دم مَلِك يُخلط بماء فيسقاه”، فيشفى بذلك من الكلب. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد”([3]).

إعلان

– “قد كان سادات القبائل والوجوه يغيِّرون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إله جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أُصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيُشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يُشفى، فيظن أنه شُفي ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا عاد، حمل عبادته إلى أتباعه، فيُعبد عندهم، ويُضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة سيد القبيلة بين الناس. وتاريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة”([4]).

– “إذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما رُوي عن قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان، فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال (وائل بن حجر) الحضرمي منزلًا بالحرة، فمشى معه ووائل راكب، وكان النهار حارًّا شديد الحرارة، فقال له معاوية: ألقِ إليَّ نعلك. قال: لا، إني لم أكن لألبسها وقد لبستها. قال: فأردفني. قال: لستَ من أرداف الملوك. قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك, ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها”([5])!

– “كان الأعراب – سكان البادية – يأنفون من الاشتغال بالحِرف، وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء؛ لأنها في عرفهم حِرف وضيعة، خُلقت للعبد والرقيق والمولى ولا تليق بالحر، حتى إن الشريف منهم وذا الجاه، كان لا يحضر وليمة يدعوه إليها شخص من أصحاب هذه الحِرف، استنكافًا وازدراءً. وقد كان عمل الرسول كبيرًا في نظر رؤساء القوم يومئذ حينما جوَّز حضور طعام الخياط والصائغ وأمثالهما، وكان يحضر منازلهم، فعَدَّ القوم ذلك عملًا غير مألوف ومخالفًا للعرف والتقاليد”([6]).

ويقول العقاد: “إذا بحثنا عن حرية الحقوق في حكومة من حكومات الجاهلية لم نجد إلا استبدادًا بالأمر، كأشد ما عُرف الاستبداد في دولة من دول الطغيان ذوات الصولة والصولجان. فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال. وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحًا مبالغًا في القدح حين استضعف مهجوه لأن:

قبيلته لا يغدرون بذمة … ولا يظلمون الناس حبة خردل

وما كان حجر بن الحارث إلا ملكًا عربيًا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول:

أنت المملك فوقهم  … وهم العبيد إلى القيامة

ذلوا لسوطك مثلما … ذل الأشيقر ذو الخزامة

وكان عمرو بن هند ملكًا عربيًا حين عوَّد الناس أن يخاطبهم من وراء ستار، وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره.

وكان النعمان بن المنذر ملكًا عربيًا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يومًا للرضا يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء، ويومًا للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء.

وقد قيل عن عزة كليب وائل إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه، وقيل “لا حر بوادي عوف”؛ لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره، فكلهم أحرار في حكم العبيد.

ومن القصص المشهورة قصة عمليق، ملك طسم وجديس، الذي كان يستبيح كل عروس قبل أن تُزف إلى عريسها”([7]).

كان هذا هو وضع الاستبداد والقهر والغلبة والطبقية والعنصرية في الجزيرة العربية يوم مجيء الإسلام.

ثورة الإسلام على الطبقية

وضع الإسلام خطة شاملة لمواجهة الطبقية وحصارها، وهي خطة قائمة على محاور ثلاثة:

أولًا: التحرر النفسي: عالج النفس البشرية من داخلها ليطمس عقيدة الطبقية ويرسخ عقيدة المساواة.

ثانيًا: المساواة الإنسانية: تتبَّع كل سلوك وعُرْف نابع عن الطبقية، فحرَّمه وقاومه.

ثالثًا: التكافل الاجتماعي: لم يكتفِ برفع يد الأغنياء عن الفقراء، بل استبدلها بيدٍ تحنو وتساعد وتكفل الفقراء([8]).

أولًا: التحرر النفسي

أصل الطبقية قائم على شعور نفسي سائد مضمر كأنه مسلمة بديهية بأن الناس ليسوا سواسية، فالناس من حيث الخلقة منقسون إلى سادة وخدم. لذلك كان أول علاج اتخذه الإسلام هو من داخل النفس الإنسانية، فطهَّر هذه النفوس ليرسخ مبدأ: الناس كلهم عباد لله، وكلهم أبناء آدم، وكلهم أخوة.

فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾([9]).

وقد ألغى الإسلام كل مفاضلة بين البشر قائمة على النسب، أو الجنس، أو اللون، أو المال، أو المهنة، أو اللغة.

قال النبي: “إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، وفخرها بالآباء. مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب”([10]).

وقال: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى”([11]).

وقال: “إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ”([12]).

وممن تربوا بهذه التربية الإسلامية علي بن أبي طالب؛ إذ جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه وتبينان فقرهما، فاشترى لهما ثيابًا وطعامًا وأعطاهما مالًا، ولكن إحداهما سألته أن يُفضِّلها على صاحبتها؛ لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئًا من تراب فنظر فيه، ثم قال: “ما أعلم أن الله فضَّل أحدًا من الناس على أحدٍ إلا بالطاعة والتقوى”([13]).

ومن المواقف البسيطة التي تعطيك لمحة عن مبدأ المساواة الذي زرعه الإسلام في النفوس، أن علي بن أبي طالب مَرَّ برجل يبيع تمرًا، فيفصل الجيد عن الرديء، ويبيع الجيد بسعر عالٍ، والرديء بسعر زهيد، فاقترح علي عليه أن يخلطهما معًا ويبيعهما بسعر واحد، حتى لا يمتاز الناس وتزداد الفجوة بينهم!

والملفت هنا أن كثير من الأمم حين ساوت بين البشر كانت مدفوعة بدوافع سياسية أو اقتصادية، يقول العقاد: “عُمَّال المدن الإنجليزية لم يُخوَّلوا حق الانتخاب في سنة 1867 إلا لأنهم أصبحوا قوة لازمة للدولة في المصانع، ولم يظفر عمال الريف بمثل هذا الحق إلا بعد ذلك بثماني عشرة سنة؛ لأن خطرهم أهون من خطر عمال الصناعة في العواصم، ولمثل هذه الأسباب خُوِّلت المرأة حق الانتخاب بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأنها اشتغلت بأعمال المصانع أثناء غياب الجند في ميادين القتال.

فمن الواضح إذن أن الديمقراطية قديمها وحديثها لم تقم على الحق الإنساني المعترف به لكل إنسان، وإنما كانت إلى الضرورة العملية أقرب منها إلى المباديء الفكرية والأصول الخلقية”([14]).

أما الإسلام فعلى العكس تمامًا؛ إذ دفعته السياسة والمصلحة العسكرية والإعلامية أن يميز طبقة السادة والأحرار وكبار قريش وأغنيائها، حتى إن بعض السادة وافقوا على الدخول في الإسلام بشرط تميزهم عن العامة، لكن الإسلام أقدم على العكس تمامًا؛ فعادى كبراء قريش وسادتها، ليساوي بين المرأة والرجل، والعبد والسيد، والأعجمي والعربي، وهو أهم الأسباب التي شحنت قريشًا ضد محمد والإسلام.

إذن فالإسلام حين نادى بالمساواة بين الناس كان دافعه أخلاقي صرف، وأدبي بامتياز، وإنساني بحت.

ثانيًا: المساواة الإنسانية

1. تحريم مظاهر الكبر:

تَتَبَّع النبي مظاهر الكبر والتفاخر والتعالي في السلوكيات الظاهرية، فحرَّمها ومنعها.

فوجد الأغنياء يتفاخرون بالشرب في أواني من ذهب، فحرَّم الشرب فيها، وقال: “لا تشربوا في إناء الذهب والفضة”([15]).

ووجد الأغنياء يتفاخرون بلبس الحرير، فحرَّم لبسه، وقال: “إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة”([16]).

ووجد الفقراء يقفون ويلتفون حول سادتهم وهم قعود، فنهى عن ذلك.

روى جابر أن رسول الله قد اشتكى من مرض، فصلَّينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا، فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قعودًا، فلما سلَّم قال: “إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا”([17]).

2. النهي عن الكيل في الميزان:

يُروى أن أبا جهينه كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر([18])!

وكانت هذه سمة الأغنياء؛ لأن الفقير مضطر ولا يملك الرفض، فقال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴾([19])، ولاحظ التعبير القرآني: (اكتالوا على الناس)، فتقدير الجملة: اكتالوا الناس، لكن تم التعبير بـ(على) للدلالة على الهيمنة والتحامل على الناس.

3. عدم التمييز:

عن ابن مسعود قال: مرَّ الملأ من قريش بالنبي، وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ هؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾([20])([21])

4. المساواة أمام القانون

قال النبي: “إنما هلك من كان قبلكم، أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف، والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها”([22]).

ولتعرف كم كانت هذه المساواة صعبة المنال وعظيمة الأثر، نقف عند حادثة لجبلة بن الأيهم الغساني، فقد كان آخر ملوك العرب في الشام، وقد أسلم ودخل مكة في موكب مهيب، وحين جاء للحج في عهد عمر، أثناء طوافه وطأ أعرابي رداءه، فلطمه جبلة، فقال عمر: القصاص. فقال جبلة: أيضربني الأعرابي؟! قال عمر: نعم. فقال جبلة: أوترون أني جاعل وجهي نِدًّا لوجه جَدْيٍ جاء من عمق! بئس الدين هذا، إذن أرجع عن دينكم هذا الذي يُقاد فيه للسوقة من الملوك. وهرب إلى الروم وارتد عن الإسلام([23])!

رغم أن الحادثة هي حادثة ارتداد رجل عن الإسلام، وتستحق الحزن والتحسر، لكن أنقلها بفخر واعتزاز، فهي تُظهِر بوضوح أن هذا الدين والعدل هما توأمان ملتصقان، لا ينفصمان ولا يتخلفان عن بعضهما، فمن كفر بأحدهما كفر بالآخر تلقائيًا.

وقد حرم أبو موسى الأشعري أحد جنوده حقه، فاعترض الجندي، فجلده أبو موسى وحلق رأسه! فرحل الجندي إلى عمر واشتكى له صنيع أبي موسى، فكتب عمر إلى أبي موسى: “إن كنتَ فعلتَ ذلك به في ملأ من الناس، فعزمتُ عليك لما قعدتَ له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلتَ ذلك به في خلاء لما قعدتَ له في خلاء حتى يقتص منك”([24]).

5. تحريم الاحتكار:

كان الاحتكار أحد أدوات الأغنياء للتحكم في الفقراء وإذلالهم والسيطرة على طعامهم وشرابهم، حتى نهى عنه الإسلام وقال النبي: “من احتكر طعامًا أربعين ليلة، فقد برئ من الله وبرئ الله منه”([25]).

6. تحريم الربا:

كان من العرب قبل الإسلام أغنياء متفرغون للربا، خاصة من اليهود؛ لأنهم يحرِّمون الربا فيما بينهم لكنهم يحلونه مع باقي الأجناس، فحين يأتيهم الفقير المحتاج يريد مالًا يتقوى به على متطلبات الحياة، فبدلًا من المساعدة، يستغل حاجته، فيعطيه المال مقابل سداده في وقت معلوم مع زيادة في المبلغ، فإذا حلَّ الأجل ولم يكن عند الفقير ما يسد به دَينِه، زاده الغني فوق الدّين أضعافًا مضاعفة، وأجَّل عنه السداد، وهكذا يظل الدَّين يتراكم فوق الفقير أضعافًا من الربا الذي يهد كاهله، ويُزيد ثروة الأغنياء بلا عمل ولا جهد!

ولك أن تتصور عملية التفاوض على هذه الزيادة، فهو تفاوض بين طرفين غير متكافئين، فللغني أن يضع الزيادة التي يريدها، وعلى الفقير أن يخضع ويرضى رغمًا عنه، وليس له أن يرفض، فهي عملية ابتزاز واستغلال وقهر!

وبعد مدد طويلة كيف يأول الوضع الطبقي في المجتمع؟ إن الغني يزداد غنًا، والفقير الذي كان عليه دَيْن بمبلغ صغير ازداد بتراكم الفوائد، فربما يعمل طوال حياته لرد فوائد دَينِه فقط!

وينتج عن ذلك أيضًا سوء العلاقة النفسية بين الأغنياء والفقراء في هذا المجتمع الربوي؛ فتصور نفسك فقيرًا لا تجد مالًا لتشتري علاجًا لابنك، فلجأت لصاحبك ليعينك، فأعطاك المال مقابل زيادة فاحشة، ولما وجدك غير قادر على السداد، بدلًا من الرأفة بحالك، ألزمك بفائدة أكثر على المال، وزاد من دَينك، فهل تبقى بينكما علاقة إنسانية أو أخوية؟!

ما كان للإسلام أن يصمت أمام هذا الاستغلال والابتزاز وإفقار الفقراء، فقد انحاز إلى صف الفقراء، فلا نقول إن الإسلام حرم الربا، بل لا نجد الإسلام شنَّع وجرَّم وأغلظ في تحريم فعل مثلما فعل مع الربا.

قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾([26])، لاحظ تهديد المرابين هنا بأنهم أصحاب النار خالدون فيها! ولاحظ انتهاء الآيات بقوله: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾، لذلك قال كثيرون أن منكر تحريم الربا كافر.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾([27])، لاحظ هنا التهديد بحرب من الله ورسوله، وهو تهديد لم يشهد القرآن مثيلًا له مع أي من المحرمات.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾([28])، لاحظ مرة أخرى ختام الآية بقوله: ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾.

وقال جابر: “لعن رسول الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه”([29]).

واستبدل الإسلام هذا القرض الربوي بالقرض الحسن، وهو إقراض المال للمحتاج من غير زيادة عليه حين إعادته.

﴿ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾([30]).

﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾([31]). وقد سمى القرآن إقراض الفقراء إقراءً لله تعالى.

ولم يكتفِ الإسلام بالحث على القرض الحسن، بل حث من يقرض غيره أن يصبر على صاحب الدَين، فإن تعثر، فليمهله حتى ميسرة، ووعد المقرِض الممهِل لصاحبه بثواب عظيم وجليل.

﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾([32]).

وقال النبي: “تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال الله عز وجل: تجوزوا عنه”([33]).

وقال: “من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفِّس عن مُعسْرٍ، أو يضع عنه”([34]).

ولم يكتفِ الإسلام بإمهال الفقير للسداد، بل أمر وحث على التصدق على الفقراء وإعطائهم المال دون سداد.

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾([35]).

﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾([36]).

لاحظ في النهاية المقارنة الصارخة بين حالة المرابي؛ الذي لا يرحم الفقراء، ويستغل حاجتهم، ويزيد على كاهلهم، ليزداد ماله دون أي التفات لغيره، بحالة المتصدق؛ الذي يبادر لينتقص من ماله ليزيد مال الفقراء، ويبادر ليساعدهم وينقذهم من حاجتهم دون انتظار أي سداد. هذه هي النقلة النوعية والطفرة الاجتماعية التي أحدثها الإسلام، لذلك هي ثورة قلبت الموازين ونصرة المظلومين.

7. التشجيع على العمل

أحد أسس الطبقية الاجتماعية: وجود طبقة كادحة وعاملة وخادمة مقابل طبقة غنية مستهلكة متمتعة، لا يعملون، ويتأففون من العمل والخدمة، وينظرون للعمل نظرة احتقار وانتقاص.

لذلك شجَّع الإسلام على العمل، واعتبره مفخرة للرجل أن يعمل ويعرق ويلوث يديه من العمل ويغبِّر قدميه في التراب سعيًا على العمل.

قال النبي: “ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده”([37]).

وقال عمر بن الخطاب: “والله لئن جاءت الأعاجم بالعمال، وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة. فإن من قَصَّر به عمله، لا يسرع به نسبه”([38]).

ثالثًا: التكافل الاجتماعي

لم يكتفِ الإسلام برفع يد الأغنياء عن الفقراء، بل استبدلها بيدٍ تحنو وتساعد وتكفل الفقراء.

1. فرض الزكاة

قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾([39]).

وبذلك قد فرض الله على كل غني موسِر أن يقطتع جزءًا من ماله ليهبه إلى الفقراء. وهذا الفرض إذ نألفه نحن المسلمين، إلا أنه طفرة وقفزة في التشريع لصالح الفقراء والمحتاجين.

2. الوقف

الوقف هو نوع خاص من الصدقات التي يتبرع فيها المتبرع بشيء عيني وينص على بقائه واستمراره، على أن ينتفع الناس بريعه وخراجه دائمًا.

وقد حث النبي على هذا النوع من الصدقات، منها على سبيل المثال: أن عمر بن الخطاب أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي وقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ فقال النبي: “إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها”. فتصدق بها عمر، أنه لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث، وتصدَّق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف([40]).

ومن هنا أصبح الوقف سمة للمجتمع المسلم، فتنافس الأغنياء على التبرع بأشياء باقية وخيرها مستمر، مثل بناء المساجد، والمستشفيات، والمدارس، وحفر الآبار، والمكتبات العامة، إلخ.

وفي بعض العصور كان المصدر الأول لتنمية المجتمع وتنشيط العلوم ومساعدة المحتاجين هو مال الوقف الثابت الذي يُدِرُ خيرًا مستمرًا. ومن هذا الوقف حُبست أموال للإنفاق على الجامعات، والإنفاق على طلبة العلم، وتأسيس مكتبات، وتزويج بنات الفقراء، وتأسيس مستشفيات، وحفر آبار، وبناء مساجد([41]).

يقول ابن بطوطة: “الأوقاف بدمشق لا تُحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف العاجزين عن الحج، يُعطي لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهي اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأساري، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يُعطَون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها.

مررتُ يومًا ببعض أزقة دمشق، فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صحن من الفخار الصّيني، فتكسرت واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام لا بدّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضًا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا”([42]).

3. الكفالة الاجتماعية

قال النبي: “ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع”([43]).

وقال: ” من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له”([44]).

وقال: “من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس”([45]).

إن العالم اليوم يشهد فجوة شاسعة بين الأغنياء والفقراء، وتكاد تنقطع كل رابطة ووسيلة للتواصل من حيث أماكن السكن، ومدارس الأطفال، والمستشفيات، واللغة، وهو ينذر بكوارث اجتماعية متمثلة في انتشار البلطجة وقطع الطرق والسرقة وانتشار التحاسد والتنمر، الخ. لذلك كان لابد من التحذير للتقارب من طبقات المجتمع، وشيوع التعاون وتكثيف دور مؤسسات المجتمع المدني والتكافل الاجتماعي.


[1]. (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ج7 ص124

[2]. (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ج8 ص133

[3]. (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ج8 ص134

[4]. (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ج11 ص43

[5]. (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ج7 ص291

[6]. (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) ج14 ص231

[7]. (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) ص157

[8]. (العدالة الاجتماعية في الإسلام) ص32

[9]. النساء: 1

[10]. (مسند أحمد) ج14 ص349 رقم (8735)

[11]. (مسند أحمد) ج38 ص474 رقم (23489)

[12]. (صحيح مسلم) ج4 ص2198 رقم (2865)

[13]. (الفتنة الكبرى) ج2 ص146

[14]. (الديمقراطية في الإنسان) ص13

[15]. (صحيح مسلم) ج3 ص1637 رقم (2067)

[16]. (صحيح البخاري) ج7 ص150 رقم (5835)

[17]. (صحيح مسلم) ج1 ص309 رقم (413)

[18]. (التحرير والتنوير) ج31 ص190

[19]. المطففين: 1-4

[20]. الأنعام: 52

[21]. (تفسير الطبري) ج11 ص375

[22]. (صحيح البخاري) ج8 ص160 رقم (6787)

[23]. (الطبقات الكبرى) ج1 ص203

[24]. (تاريخ المدينة) ج3 ص809

[25]. (المستدرك على الصحيحين) ج2 ص14 رقم (2165)

[26]. البقرة: 275-276

[27]. البقرة: 278-280

[28]. آل عمران: 130-131

[29]. (صحيح مسلم) ج3 ص1219 رقم (1598)

[30]. المزمل: 20

[31]. التغابن: 17

[32]. البقرة: 280

[33]. (صحيح مسلم) ج3 ص1194 رقم (1560)

[34]. (صحيح مسلم) ج3 ص1196 رقم (1563)

[35]. البقرة: 276

[36]. الروم: 39

[37]. (صحيح البخاري) ج1 ص57 رقم (2072)

[38]. (الديمقراطية في الإسلام) ص65

[39]. التوبة :60

[40]. (صحيح البخاري) ج3 ص198 رقم (2737)

[41]. (الوقف الإسلامي – مجالاته وأبعاده)

[42]. (رحلة ابن بطوطة) ج1 ص331

[43]. (صحيح الأدب المفرد) ص67

[44]. (صحيح مسلم) ج3 ص1354 رقم (1728)

[45]. (صحيح مسلم) ج3 ص1627 رقم (2057)

إعلان

اترك تعليقا