تونس.. انتخابات محلية في أجواء عاصفة من الأزمات والخيبات
“يبدو أنَّنا فقدنا البوصلة وعَصفت بِنا الرغبات المُنفَلِتة فغرِقنا في “المعارك الدونكيشوتية” الخاسرة، وقد تجلَّى ذلك خلال السنوات السبع العجاف وما تراكم فيها من أزماتٍ خطيرة أدّت إلى تغذية الغضب والحنق لدى المواطنين بعد أنْ عَجِزت الحكومات المتعاقبة عن الإيفاء بوعودها.
صحيح أنَّنا نُعِد لانتخابات بلدية ولكن في أي ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة سيتم تنظيمها؟ وهل أن الديمقراطيّة بِكُل قيمها ومبادِئِها وشُروطِها والتِزاماتِها وأهدافِها تختزل في صندوق انتخاب؟ هذا ما يردده التونسيّون بحيرةٍ بالِغة في أحاديثهم اليوميّة.
سبع سنوات من المزايدات الجهويّة التي تقطُّر وضاعة، وأخرى طبقية ملوَّثة بأوحالِ الحقد الأعمى والحسدِ الأسود والمتاجرة الشعبويّة الرخيصة بآلام الناس ومعاناة الفقراء والمعوزين والضحك على ذقون الحالمين والطامحين والمتطلّعين، والكذب والبهتان والوعود الزائفة.
كل هذا “الكوكتال” الرديء أفقدنا “تُونسيَّتنا”، تلك التي كنّا نتباهى بتجذُّر مقوماتها ونبل خصوصياتها، وأضاع عنّا نموذجنا “الخصوصيّ” ذاك الذي زَرَعَ المُصلِحون بذوره الأولى وتعهده بُناة الدولة الحديثة بالرعايةِ والإحاطة حتى استكمل ملامحهُ الأساسية.
لم تكن المصطلحات اللُغويّة الملوّثة بالعنف المعنوي والمادي، أو الكلمات الملطّخة بدنس التشفي تجد مكانًا لها في القاموس اللغوي التونسي المتداول، ولم تكن آفة العشائريّة والقبليّة والجهويات المقيتة والصِراعات الطبقيّة المشحونة بالخلفيات الدنيئة متفاقمة بهذا الشكل الدرامي المفزع، كما لم تكن النخب هي المُغذيّة لهذا المد التدميري ولا المُحَرِضة على الإندراج في مستنقعاته كما هو الحال الآن.
لقد تغيّر كل شيء وخرج التونسيون من جلودهم ليَجِدوا أنفسهم في معترك صراعٍ متهورٍ مع ذواتهم ، وقد تتالت الأحداث والوقائع التراجيديّة والكوميديّة بشكلٍ خطير حتى وَصَل أغلبُها إلى حد الاستهتارِ بكل القيم والمبادئ، واستهداف الدولة ومؤسساتها، وانتهاك معاني ومقاصد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك لغياب الردع الفاعل والحازم بجميع أشكاله القانونيّة والأخلاقيّة، لأن الإنسان وخاصة في المجتمعات ذات النسب المرتفعة من الأُمّيّين والمُهمَّشين لا يتعامل مع الحُرّيّات إلا بمنطق التَسَيُّب المُطلّق والفوضى العارٍمة.
لا يمكن للمسار الديمقراطيّ أن يتواصل في خَضمِ هذه الأوضاع المُتردّية ولا يمكن للانتخابات أن تكون نَزيهة مهما كان اجتهاد المُنظّمين، وكما لا يمكن للإصلاحات المَوْعودة أنْ تأخُذ طريقها إلى التنفيذ مهما كان حُسن نيّة الحكومة وقوة شرعيّتها، بل إن مخاِطر الانحراف في جميع المسارات هي الأكثر احتمالًا، وقد بدأت مؤشّرات ذلك تظهر للعَيَّان بعد أنْ أصبحت الدولة عَاجِزة عن فرضِ القوانين تَارِكةً الحَبل على الغارِب للفوضويّين والانتهازيّين؛ فما حَدَث لبعضِ المَسؤولين الذين فروا بِجلُودِهم من غَضبِ الرافِضين لَهم في عدةِ مناطق، وما تتعرض له النُخب مثل المحامين والأطبّاء والمهندسين والجامعيّين والإعلاميّين والصَيادِلة وغيرهم، من تشويه لسمعتهم وتشكيك في نزاهتهم وتكثيف الاتِّهامات ضِدهم، يؤكّد أن الحكومة ومؤسَّساتها فقدت السيطرة على الأوضاع ولم تَعُد قادرة على حماية إطاراتها ومسؤوليها ونخبها، وهي حالة خطيرة قد تُمثِل إذا ما استَفْحلت أكثر نقطة اللاعودة في علاقة السلطة الحاكِمة بالمواطنين.
لا شك أن الاندفاع الهستيريّ المّحموم الذي يُبديه الكثير من السياسيّين هو نتيجة رغبة منفلتة في التوظيف الإنتهازيّ للقيمِ والمبادئ والقفز العشوائيّ على معانيها والتدثُّر بها، لخدمةِ مصالِحهم الشخصيّة والحِزبيّة الضيّقة وتنفيذ أجنداتهم وأجندات داعميهم ومُموّلِيهم بالداخل والخارج، خاصّة وأنْ هذه الرغبات تُوحِد أصحاب “المَصالِح المُشتركة” على أساس الإنتفاعيّة المُتبادّلة والمُقايضة في كل المجالات. لكن الأخطر في هذا السياق، هو صمت السُلطة على مثل هذه الممارسات وتواطؤها أحيانًا مع مُنفذيها الذين يشكّلون لوبيات ومراكِز نُفوذ ومجموعات ضاغِطة وبعضها داخل الأحزاب المُشّكلة لِما يسمى بحكومة “الوحدة الوطنية”.
لا أعتقد أنَّ رئيس الحكومة يوسف الشاهد لم يتَفَطَّن لهذه الوضعيّة المُعقدة أو لم يُدرّك خُطورتها على البلاد حاضرًا ومستقبلًا، ولكنَّهُ لم يجد السَّنَد الضروريّ والحاسِم لمواجهتِها، فلا الاتحادات الكُبرى مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسيّ للصناعةِ والتجارة والصناعاتِ التقليديّة والاتحاد الوطنيّ للفلاحين، ولا جمعيات ما يسمى بالمُجتمع المدنيّ أبدت عزمًا واضِحًا على مُساعدته وتعبيد المسالِك أمامه لإجراء اصلاحات ضروريّة لم تعد تتحمل التأجيل.