تعذيب الثوَّار

إن ما فات ظلم، وهنا ظلمات فوق ظلمات. إن الدافع الرئيس لكتابة هذه السلسلة من المقالات هو هذا المقال المفجِع والمفزِع، فهو أبشع أخطار الاستبداد، ولو اكتفى به لكفى.

حتى يتمكن المستبد من السير في خطته وتحقيق السيطرة المطلقة على الحكم والمال، فهو يواجه أنبياءً وعلماءً وثوارًا، لا يرتضون أن يمر الظلم إلا على جثثهم، فيقفون بأجسادهم النحيلة في وجه الظالم. ولأن الظالم غشوم، ولأن ضميره مقتول، ودينه المال، وإلهه هواه، فأكثر ما يستفزه أن يقف أمامه أحد ويعارضه، لذلك يدوس البشر، ويقطع الرؤوس، وينشر الأجساد، ويحرق الأحياء.

هنا نزور سجونًا لنسمع صرخات المعذَّبين، ونشهد دمائهم المتطايرة على وجوهنا، حتى نتخيل إلى أي مدى يصل خطر المستبد، إلى أي مرحلة من الحيوانية والتوحش والشيطانية والفُجْر والعُهْر يصل المستبد.

أولًا: ترويض الشعب

الترويض هو عملية معروفة لتدريب الحيوانات، وهو يقوم على الاقتران الشرطي؛ أي الربط بين فعل خاطيء والعقاب، فحين يرتكب الحيوان خطأً يُعاقب في الحال، فيدرك الارتباط بين الخطأ والعقاب، وكلما أقدم على خطأ، يعرف أن العقاب آتٍ.

تقول بسمة عبد العزيز: “التعذيب أحد أعنف السلوكيات وأقصاها دونية وعدوانًا، فعل يتفرد به البشر تمامًا، ولا يُرى ما يتشابه معه من قريب أو بعيد لدى الكائنات الأخرى، لا بين الفصيل الواحد، ولا بين الفصائل المختلفة”([1]).

إعلان

وهذا بالضبط ما يقوم به المستبد؛ إذ يروِّض شعبه أن كل معارضة للحاكم/ مواجهة للحكومة/ جرأة على السلطة/ نصرة لمظلوم/ تدخل في السياسة سيتبعها بالضرورة عذاب وجحيم يتنزل عليه، ومن هنا كان المقصود الأول من سجن المعارضة وتعذيبهم هو ترويض باقي الشعب، وهو تطبيق للمثل الشعبي: “اضرب المربوط يخاف السايب”.

وكي تنجح عملية الترويض يجب أن تتسم بعدة سمات:

  • السرعة: لا مانع عند المستبد أن يعاقب أبرياء، أو يكتفي بمجرد الظن في إلحاق التهمة، أو يحيل قضايا إلى القضاء العسكري ويتخطى خطوات قضائية، لأن تأجيل العقاب يفسد عملية الترويض!

ومثال ذلك: في 12/8/1952 اعتصم عمال كفر الدوار للمناداة ببعض المطالب الاقتصادية العمالية. وكان اعتصامهم سلميًا متحضرًا، فكتبوا على اللافتات: “المصانع أمانة فى أعناقنا.. أرزاقنا فى هذه المصانع فحافظوا عليها”.

لكن مجلس قيادة الثورة تعامل مع الاعتصام بأقصى حدة، وأسرع انتقام، فحاصرت الدبابات المصنع، وقبضت على 576 عاملًا، وعقدت محاكمة عسكرية عاجلة، وتمت المحاكمة فى يومين فقط، وأغلب العمال لم يجد من يدافع عنه، وبعض وكلاء النيابة كان يحقق مع مئة عامل فى اليوم الواحد فى تهم عقوبتها الإعدام، وبعد خمسة أيام صدر الحكم بإعدام عاملين: مصطفى خميس، وعمره 18سنة، ومحمد البقرى، وعمره 19سنة، وتم جمع 1500 عامل فى النادى الرياضى بكفر الدوار ليسمعوا النطق بحكم الإعدام!

  • لا استثناء: يجب أن يرتبط العقاب بالمعارضة دائمًا وأبدًا دون أي استثناء، لذلك لا يفلت من يد المستبد أحد، حتى لو كان نبيًا، أو عالمًا، أو صديقًا، أو أخًا، أو امرأةً، أو عجوزًا، أو طفلًا، فلا يعرف حُرمَة أو عهدًا لأحد!

ونضرب لذلك مثالًا؛ في إبريل 1824 نشبت انتفاضة في الصعيد ضد سياسات محمد علي، فحشد قوات من الجيش لتواجه الانتفاضة، فوجد جندي أباه ضمن الحشود، ولم يمنعه ذلك من ضرب الثوار وقتل أباه! وحين علم محمد علي بالواقعة امتدح الجندي وأمر بترقيته([2])!

مثال آخر: ففي مصر عام 2014 أثناء الاستفتاء على الدستور قامت مظاهرة، فقبضت الشرطة على كل المتواجدين في المكان، ومن المقبوض عليهم المواطنة دهب، ورغم أنها كانت حاملًا في الشهر السادس، إلا أن الشرطة لم تستثنها، بل اتهمتها بتعطيل الاستفتاء على الدستور وإثارة الشغب، وحتى جاء موعد الولادة، وولدت في المستشفى ويدها مربوطة بالكلابشات في السرير قبل الولادة وأثنائها وبعدها([3])!  

  • الرعب: يجب أن يكون العقاب مرعبًا ومهولًا، لذلك لا تجد أي تناسب بين الفعل والعقاب، فكثيرًا ما وجدنا مسجونين لسنوات طوال بسبب لافتة أو هتاف.

ومثال ذلك قول الحجاج: “والله لا آمر أحدًا أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه”([4])!

وقد منع الخليفة الحاكم النساء من الخروج من البيوت، فخرجت مجموعة من العجائز، ظنًا منهن أنهن لا يُخشى منهن الفتنة، لكن فور أن علم الحاكم بخروجهن، أمر بإغراقهن كلهن([5])!

وفي عهد الملك توفيق، كان يقضي صيف 1881م في الإسكندرية، فصدم أوروبي بعربته جنديًا مصريًا فأصابه إصابة خطيرة حتى قُتل، فحمل زملاؤه جثة الجندي ودخلوا بها سراي الملك، وطالبوه بالقصاص لزميلهم.

ترك الملك القصاص للجندي، وكل ما شغله: كيف يحمل الجنود جثة ويقتحمون سراي الملك بهذه الفوضى؟!

فشكَّل محاكمة عسكرية، وحكمت على الجنود بأحكام قاسية، حتى أن الجندي الذي أشار على زملائه بإحضار الجثة للملك حُكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة([6])!

ومثال آخر: هو مذبحة الدجيل؛ ففي يوليو 1982م زار صدام حسين محافظة الدجيل وتعرض لمحاولة فاشلة للاغتيال، ودار تبادل لإطلاق النار بين الحرس الجمهوري والمسلحين، وقُتل أغلب المسلحين وقُبض على الأحياء منهم، إلا أن غضب صدام لم ينطفيء، لذلك صَبَّ غضبه على المحافظة بأسرها، فأمر بتجريف 250,000 فدان، واعتقل 600 رجل وامرأة، نصفهم تقريبًا من النساء، وتعرضوا للتعذيب، حتى إن 46 منهم قُتلوا أثناء التعذيب، ومن لم يقتله التعذيب حُكم عليه بالإعدام([7])

تقول بسمة عبد العزيز: “يوصف تعذيب النشطاء السياسيين بأنه فعل ذو دلالة عدوانية تجاه المجتمع وليس ضد شخص بعينه، حيث تُستخدم الضحية دائمًا للإعلان عن القوة المطلقة للنظام وقدرته اللامحدودة على البطش، وحين يفلح الجلاد في عزل ناشط سياسي عن محيطه وحياته الاجتماعية، وفي حرمانه من التواصل مع الزملاء والرفاق، لا يكون قد تخلص من معارض واحد فقط، بل نجح في كسر إرادة وكرامة المجتمع بأكمله”([8]).

ثانيًا: التعذيب بالإهمال

حين يهتم المستبد بشكله أمام العالم، خاصة إن كان المسجون شخصية معروفة، فلا يستخدم التعذيب المباشر بالضرب والإيلام، بل يلجأ إلى التعذيب السلبي عن طريق الإهمال، فيترك المريض بلا علاج، ويترك السجين بلا دورات مياه، ولا غطاء في البرد القارس، ولا تهوية في الحر الشديد، ولا ضوء حتى لا يكاد يرى يديه، ويمنعه الزيارات، فيحبسه في سجن انفرادي لا يرى فيه سوى الجدران حتى يفقد عقله وتنهار أعصابه، وبعد كل هذا التعذيب تظهر الحكومة في الإعلام لترفع يدها وتعلن بوقاحة: نحن لم نقترب من السجين!

مثال: تعذيب د. محمد مرسي

بعد 30/6/2013 تم القبض على د. محمد مرسي، رئيس الجمهورية، وحجزه في حبس انفرادي لمدة ست سنوات، لم يتمكن خلالها من لقاء أهله أو محاميه أو طبيبه، وسُمح له فقط بثلاث زيارات عائلية. كما تم حجبه عن العالم الخارجي تمامًا، فلا أخبار ولا معلومات تصله بأي وسيلة ممكنة. ولم يتمكن من استخدام أغراض النظافة الشخصية لتحميه من الطفح الجلدي. كما لا يوجد سرير في السجن، وكان ينام على أرض خرسانية، مما سبب له آلام في الظهر. ورغم مرضه بالسكر، إلا أنه لم يتمكن من تناول أنسولين، أو العرض على طبيب السجن، أو حتى طبيب على نفقته الشخصية، حتى أن مستوى السكر لديه كان ينخفض أثناء النوم، ومر بحالات من فقدان وعي كلي. كما أنه لم يتناول الطعام المناسب لمرضه. وقد تدهورت حاسة الإبصار لديه. وأثناء عرضه على المحكمة وُضع في قفص من زجاج حتى لا يسمعه القاضي ولا يسمع هو القاضي ولا المحامين، وفي 17/6/2019 أثناء عرضه على المحكمة سقط مغشيًا عليه، وتُرك على الأرض حتى مات([9])!

وبعد كل هذه الخطوات الدافعة نحو الموت، إلا أن الشرطة قد أعلنت أن الوفاة كانت طبيعية، ولم يمسه أحد بسوء!

ثالثًا: فنون التعذيب

تطورت طرق التعذيب عبر التاريخ حتى أصبح للجلادين إرث وتنوع ضخم يختارون منه ما شاءوا من سبل العذاب.

مثل الضرب واللكمات، والدوس على الوجوه بالأقدام، واقتلاع الأظافر، واقتلاع الأسنان، وتعذيب الأعضاء التناسلية، وإغراق الوجه في الماء، والصدمات الكهربائية، والاغتصاب بإدخال عصي في الدبر أو العضو التناسلي للمرأة، وصب الزيت المغلي على الجسد، ووضع ملح على الجروح لمضاعفة الآلام.

ويتخذ التعليق عدة صور، إما تعليق الضحية من يديه حتى تتمزق الأربطة، أو تعليقه من القدمين، وتتدلى رأسه لأسفل، أو تعليقه من اليدين والقدمين ويظل الظهر منحنيًا ومقوسًا حتى يقتله ألم الظهر أو ينزلق غضروف.

وأحد صور التعذيب: كيس القطط؛ حيث يوضع المعتقل في كيس خيش كبير، ويوضع معه في الكيس قطط شرسة، ثم ينهال الجلادون بضرب المعتقل داخل الكيس كي تهتاج القطط وتمزق جسد المعتقل.

ومن الأدوات المخصصة للتعذيب: الكرسي الألماني؛ فهو كرسي معدني يجلس عليه الضحية ويُربط به يديه وقدميه، ومسند الكرسي قابل للدوران للخلف، أمام الجزء السفلي فثابت، مما يجعل العمود الفقري للضحية مقوسًا للخلف، ويمكن أن يدور مسند الكرسي حتى 90 درجة، وبذلك يصبح العمود الفقري عموديًا تمامًا على جسم الضحية، فيشعر بعموده الفقري ينكسر([10])!

وأحيانًا يأمرون الضحية أن يمر بين صفين من الجنود، ويتناوبون عليه بالضرب حتى يصل إلى نهاية الصفين!

ومن الطرق المبتكرة: الحزام الكهربائي؛ إذ يلبس الضحية حزامًا يتحكم فيه الجلاد عن بُعد، وبمجرد ضغطة زر من الجلاد، يصاب الضحية بكهرباء تشل جسده ويتبول لا إراديًا!

ومن طرق التعذيب التي لا تحتاج إلى أدوات: الهرم؛ فيأمر الجلاد أن ينام الضحية على الأرض ويفتح ذراعيه على جانب كتفيه، ثم ينام فوقه سجين ثانٍ، ثم ثالث، ثم رابع، وكلما زاد العدد كان كل الثقل على صدر الضحية الأولى في الأسفل، وغالبًا ما تتكسر ضلوعه، وتتوقف أنفاسه([11])!

رابعًا: التعذيب لن ينتهي

المعتقل لا يتمنى العفو عنه أو الخروج براءة، إذ يعتبر هذا الحل مستحيلًا، كما أن ذل النفس الذي يتعرض له يجعله كارهًا للحياة، لذا آخر حل يتشبث به هو الموت، ذلك هو الحل الوحيد الممكن، الخلاص الوحيد.

لكن الجلاد لا يسمح لمعتقله أن يهرب منه، حتى لو كان الهروب إلى الموت، لذلك يحرص كل الحرص على حياة المعتقل، كي يتمكن من استمرار التعذيب أطول وقت ممكن، ويؤكد للمعتقل أن العذاب هو مصير أبدي لن ينقطع، ويسير الجلاد على خطة منظمة لإيصال هذه الرسالة إلى الضحية: التعذيب دائم بلا نهاية.

يعصب الجلاد عيني الضحية، وهو بذلك لا يرى من أين ستأتي الضربة، ومتى ستأتي، وما الآلة التي سترتطم به، وما شدتها. هذا المجهول المطلق يحرم الضحية من أي توقع، ويجعله دائمًا متحفز للضرب في أي لحظة، ومن أي موضع، كما يجعل توقعه مباَلغ فيه، فيتوقع الأشد دائمًا!

ويستغل الجلاد هذه الحالة فينوِّع موضع الضرب، والأداة، والتوقيت، بشكل عشوائي واعتباطي حتى تنهار كل توقعات الضحية، فلا يلبث أن يتوقف التعذيب مدة، فترتخي أعصاب الضحية،  حتى يأتيه فجأة ودون أي توقع ضربة أشد وأخطر، فلا نعرف أيهما أشد على الضحية؛ الضربة أم المفاجأة المفزعة؟!

وقد يأمر الضابط السجين أن يقف ثابتًا كالجندي، ويضع يديه خلف ظهره، ويرفع رأسه عاليًا ويلوي رأسه لفوق تمامًا حتى يبرز بلعومه إلى الأمام، ويظل ثابتًا هكذا مغمض العينين حتى يظن أن الضابط نسي أمره، وفجأه يضرب الضابط بلعومه البارز([12])!

وأحد الصور التي يتلاعب بها الجلادون ليشعر الضحية بديمومة العذاب اقتحام زنزانته في منتصف الليل، وجرُّوه إلى غرفة الإعدام، ويجهزونه للإعدام، حتى آخر لحظة، ثم يعودون به مرة أخرى، ويظل هذا الضغط العصبي بالضحية حتى تتفتت أعصابه وتتحطم!

حتى الأمل وحبل الرجاء في الله يقطعه الجلادون، فيقول المعتقل اللبناني علي أبو دهن: “قلتُ: لقد اتكلت على الله، وهو المعين والمخلِّص، سيكون جانبي حتى النهاية.

فرد الضابط: الله لا يدخل هنا، هنا الاستخبارات فقط”([13])!

ويحرص الجلادون على حياة الضحية حتى لا يفلت منهم ويهرب إلى الموت، وينقل ممدوح عدوان شهادة موثقة: “كان يلازم في غرفة التعذيب طبيب متخصص، سرعان ما اقترب مني فجس نبضي وطلب منهم أن ينزلوني، ولم يلبث أن حقنني بإبرة.

وفي مرة أخرى مماثلة وبعد أن كاد التعذيب يقتلني بحق، حضر الطبيب ثانية إلى زنزانتي فنظف لي جروحي المتقيحة، وقدَّم لي كأس حليب لأستمر على قيد الحياة، وأجدد قدرتي على تلقي المزيد من التعذيب .. ومضى!

هناك حرص على ألا يموت السجين، ليس خوفًا من المسئولية، فكثيرًا ما يتم التواطؤ لإخفاء الجثة بتذويبها بالحمض، ثم نكران وجود السجين أصلًا، أو إشاعة انتحاره أو قتله أثناء محاولة الهرب، لكن المطلوب هو الإذلال حتى الدرجة القصوى، والموت نجاة للسجين، والانتحار هو رغبة السجين، لذلك دور الطبيب هو حماية السجين من الموت حتى يتلقى أكبر قدر ممكن من التعذيب!([14])

يقول د. مصطفى حجازي: “تشعر الضحية إزاء هذا التعذيب الذي يُصب عليه باستطالة الزمن، حتى يبدو كأنه أبدي لا نهاية له، ويتمنى الخلاص بالموت، باعتباره الراحة الكبرى التي لا تأتي. ويهتم الجلادون كثيرًا بإطلاق شعور الأبدية هذا لدى الضحية. فالمعاناة والآلام تظل قابلة للاحتمال ما دامت مؤقتة، أو معروفة الأجل. أما التعذيب المتكرر الذي يبدو بلا نهاية فهو يكسر الإرادة، وهو ما يستهدفه الجلاد”.

خامسًا: تعذيب الأقرباء

أشد درجات العذاب أن يصل الأذى إلى المقربين من الضحية، فكل ما سبق – مع شدته وهوله – إلا أن الإنسان يمكن أن يتحمله، أما ما يخرج عن طاقة التحمُّل أن يصل الأذى للمقربين، وخاصة المستضعفين، كالأم والأب والزوجة والابن، وكثيرًا ما يستخدم الجلادون الأقرباء كورقة ضغط يجبرون بها الضحية على الاعتراف، أو كسلاح يذلونه به.

وقد وصلت الخِسَّة والعُهْر والفُجْر ببعض الجلادين أن اغتصبوا زوجات أمام أزواجهن، واغتصبوا أمهات أمام أبنائهن! 

يقول أحد الضحايا: “عرضتُ عليهم أن أعطيهم كليتي ليبيعوها ويأخذوا ثمنها، لكنهم رفضوا، وقاموا بالوقوف على ظهري وأخذوا يقفزون حتى كادت ضلوعي أن تتحطم، وعندما هدَّدوني بزوجتى، لم أجد مفرًا من الإمضاء على كل ما طلبوا”([15])!

وشهادة أخرى لرجل أمن اعتقلته الشرطة، ومعه زوجته وابنه، وأخيه وزوجة أخيه، وابن أخيه الذي لم يتعدى عمره أسبوعًا، ويروي أنهم جميعًا قُيدوا من الأيدي وتم التحفظ عليهم في قسم الشرطة مقيدين على الأرض ووجوههم إلى الحائط، وظل ابن أخيه الرضيع ينزف من أنفه وفمه حتى شارف الموت، فتركته الشرطة وأمه.

وفي اليوم التالي تعرضت زوجته لاعتداء جنسي أمامه؛ إذ مزقوا ملابسها وناموا فوقها ليجبروه على الاعتراف، أما هو فقد تعرض إلى اعتداءات جنسية وسب وقذف أمام ابنه وزوجته وأخيه([16]).

ونموذج آخر هو سيد بلال، الذي اعتقلته الشرطة المصرية بعد تفجير كنيسة القديسين 2.11، وتعرَّض للتعذيب حتى الموت، ولم يقتصر الأذى بسيد نفسه، بل طال أقربائه؛ فعقب وفاته تدهورت صحة والدته، وأُصيب توأمه بشلل نصفي نفسي، وفقدت زوجته الجنين الذي تركه سيد بين أحشائها([17])!

ويروي الصحفي الأمريكي (رون سوسكيند) أن CIA قتلوا رجلًا من تنظيم القاعدة، وشكوا أن يكون أيمن الظواهري، فطلب رئيس CIA من عمر سليمان أن يرسل له عينة من دم أخو أيمن الظواهري لفحص DNA ومقارنتها بالجثة، فرد عليه عمر سليمان: “ليس هناك مشكلة، نحن لدينا أخوه، سنقطع ذراعه ونرسلها إليكم”([18])!

وحين لم تتمكن الشرطة المصرية من اعتقال الإمام القرضاوي لتواجده في قطر، اعتقلت ابنته علا القرضاوي، وتكشف بنفسها عن جرحها فتقول للمحقق: “سأعلن إضرابى عن الطعام حتى الموت؛ لأنى بالفعل أموت، فأموت وأنا أقاوم الظلم أفضل من الموت كمدًا بسبب هذا الظلم، أنا أم وجِدَّه، وحصلتُ على أعلى الشهادات في أمريكا، وجئت بأولادى وأحفادى وزوجى ليعيشوا جزء من حياتهم بأرض بلادى، لكن تم القبض عليَّ وعلى زوجي، وبعد قضاء أكثر من سنة ونصف فى السجن حبس احتياطي حصلنا على إخلاء سبيل، وفى اليوم التالى وقبل خروجى من السجن فوجئت باتهام جديد وقضية جديدة بأني كنت أموِّل بعض الأحداث فى مايو، كيف يُعقل هذا وأنا فى زنزانة انفرادية ولم أخرج من السجن طوال ذلك الشهر؟ زنزانة ليس بها حمام، وهل تعلم أيها المحقق ماذا يعنى أن تكون سيدة محبوسة فى زنزانة بدون حمام، حبس انفرادى بلغ ٦٠٠ يومًا، ولا أتمتع بأبسط حقوقى، لمجرد أننى ابنة يوسف القرضاوى، سُجنت لأننى ابنته، يتم استنزاف عمري وروحي لأننى ابنته، لم ارتكب أى جريمة، لم أخالف أى قانون، فإن كان لديكم ما يثبت ادعائكم قدموني للمحاكمة، فهى أرحم بالنسبة لى مما تسمونه حبسًا احتياطيًا، تلك الدوامة الموحشة بين اليأس والرجاء فى عدل يأتي عند كل تجديد، لكن يبدو أنه تم اغتياله ولن يأتي مهما انتظرته”([19])

سادسًا: إذلال النفس

الهدف النهائي لكل طرق التعذيب هو إذلال الضحية واحتقاره، حتى يستصغر نفسه ويحتقرها، ويندم على ما اقترفه في حق الزعيم، ويصغر في نظر متابعيه أو مؤيديه.

يبدأ الإذلال من لحظة الاعتقال؛ إذ غالبًا ما تقتحم الشرطة المنزل ليلًا، ثم تقلب كل متعلقات المنزل، فتكسر ما تجده، وتسرق الأموال، وتقتحم حتى غرف النوم، دون أي إذن قضائي، أو مراعاة لحرمة البيوت، وأحيانًا تُصِر الشرطة على أخذ المتهم بملابس النوم دون السماح له بتغيير ملابسه!

ويطال الإذلال السمعة الشخصية؛ فإن كان المعتقل شخصية عامة، تُصدِر الشرطة بيانات عن المعتقل تطعن في شرفه وعِرضه لتغتال سمعته واسمه قبل أن تغتاله هو شخصيًا، أو تمهد الرأي العام إلى ضرورة تعذيبه.

ومثال ذلك: طالب الطب/ أحمد مدحت؛ فقد ألقت الشرطة القبض عليه، وبعدها نشرت بيانًا بأن الطالب تُوفي نتيجة قفزه من شقة دعارة!

لكن وَجَدَه أبوه في المشرحة وعليه آثار حروق وكدمات، وآثار نزيف في الفم والأنف، وكسر في اليد اليمنى، وكسر في الرأس([20])!

ويمتد الإذلال في عربة الترحيلات؛ إذ تمتليء بالدم والبول والبراز والقيء؛ لأنها تحوي أعدادًا أكبر من قدرتها، ويستمر المعتقلون في العربة مدة طويلة، فيُضطرون إلى التبول والتبرز والقيء في العربة!

وبمجرد وصول المعتقل إلى السجن تبدأ حفلة التعذيب؛ إذ يحتفل الجلادون بالنزيل الجديد، وأحد طرقهم المذلة: الطلب المستحيل؛ إذ يطلب الجلاد من ضحيته طلبًا مستحيلًا، مثل أن يرسم له سلمًا على الحائط ويأمره بتسلق السلم!

وهو ما جسَّده يوسف إدريس في عمل أدبي؛ إذ أمر الضابط معتقلًا ضخم الجثة بأن يضاجع نملة أنثى! وظل المعتقل يتقمس دور النملة الذكر في صغرها ودنوها، وظل الضباط والجنود يضحكون ويستهزءون منه، ومن هوان نفسه عليه مات الضحية بعد هذا الموقف بأيام!

وينقل المعتقل علي أبو دهن إحدى حفلات الاستقبال في السجون السورية فيقول: سأل ضابط: من يتقن اللغة الانجليزية؟

فحضر سجين، فسأله الضابط: ترجم لي “أمك عاهرة”، “أريد أن أضاجع أختك”، والسجين مجبر على الترجمة أمام الجميع ليضحكوا عليه، وإلا تعرَّض لوابل من العذاب([21])!

وإحدى فقرات حفلة الاستقبال أن يحضر سجينين، ويأمرهما الضابط أن يضرب كل واحد منهما صاحبه بالكف على وجهه([22])!

وأحيانًا يأمر الضابط الضحية أن يزحف على الأرض ويمشي على يديه كالحيوانات، بل أسوء من الحيوانات؛ لأنه يأمره أن يمشي على كوع يديه وليس قبضة يده([23])!

ويستمر الإذلال بالسب والقذف الذي يتناول الزوجة، ويطعن في شرف الأم!

ويصل الإذلال لمرحلة التعدي الجسدي بالبصق على الوجه، أو تقطيع الملابس، أو حلق شعر الحواجب! وقد شهد أحد المعتقلين بأنهم أجبروهم على تناول القيء([24])!

ويصل إلى تعرية الجسد، ثم إجبار الضحية على السير عاريًا أمام المعتقلين والجنود، ثم السخرية من جسده العاري والضحك عليه بين الجنود!

ويصل إلى إجبار الضحية على التبول والتغوط في مكانه وأمام الجميع، حتى ينفر منه الجميع، فيقنعوه أنه أصبح حيوانًا ويمارس نفس سلوكهم البهيمي!

وواحدة من أكثر النماذج ذلًا وكسرة ما حدث في كشوف العذرية: في مارس ٢٠١١ ألقت القوات المسلحة المصرية القبض على متظاهرين في ميدان التحرير، وكانت سميرة إبراهيم إحداهن، وتروي ما حدث لها: “أنا اتقبض عليا في اعتصام 9 مارس، أول حاجه عملوها: كهربني ظابط في بطني، وقالوا علينا: إحنا جيبينهم من بيت دعارة. كانوا بيدلقوا علينا ميه، ويكهربونا، ويشتمونا بألفاظ مقززة جدًا. تصوري ناس بتتف عليكِ وبتشتمك وتضربك بالجزمة في وشك. بيندمونا على يوم 25 يناير، بيندمونا إننا عملنا ثورة.

بعد كده خدونا على السجن الحربي، قالوا لنا: يالا عشان تتفتشوا، فضلوا ياخدوا واحدة واحدة لحد ما جه دوري، دخلوني أوضه شباكها متر ونص في متر ونص، شباك كبير وبابها مفتوح، وعساكر شيفاكي من الناحية التانية. لقيتها بتقولي: اقلعي هدومك. قلعت الجاكت. قالت لي: اقلعي هدومك كلها. قلت لها: طيب أستأذن حضرتك تقفلي الباب وأنا مع حضرتك. قالت لي: لا. ودخَّلت عسكري يضربني. اضطريت اقلع غصب عني.

طبعا العساكر واقفين عند الشباك بيضحكوا وبيغمزوا لبعض وأنا عريانه، واللي على الباب شايفني، رايح جاي عساكر وظباط يتفرجوا عليا وأنا عريانه. بجد أنا في اليوم دا اتمنيت الموت، وقعدت أقول لنفسي: هي الناس بتجيلها سكتة قلبية، أنا ليه ميجليش سكتة قلبية وأموت ذيهم؟! .. ذلونا.

بعدين قالوا لنا: هنكشف عليكم عشان نشوفكم بتوع دعارة ولا مش بتوع دعارة.

جه دوري، ولقيتها بتقولي: نامي وافتحي رجلك، البيه هيكشف عليكي. أنا اتعريت قدامهم كلهم، كان فرح، بيتفرج عليا كمية عساكر وظباط، قلت لها: طيب بعد إذنك الكمية دي تقل، فالعسكري كهربني في بطني وشتمني، فاضطريت أنام وافتح رجلي، تخيلي الدكتور قعد يكشف عليا خمس دقايق، تصوري الدكتور سايبني بالوضع ده وماسك الموبيل بيلعب فيه، يعني شوفي بيذلوكي قد ايه، بيكسروا نفسك عشان متفكريش تقولي أنا عايزه حق البلد دي، عشان متفكريش تنزلي مظاهرات تاني”([25])!

***

يقول يوسف إدريس: “أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حرًا أن ترده، أنت تشعر به هنا، حين يكون عليك فقط أن تتلقاه، ولا حرية لك ولا قدرة لديك على رده. هناك تجرب الإحساس الحقيقي بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة، إنما ألم الإهانة، حين تحس أن كل ضربة توجه إلى جزء من جسدك توجه معها ضربة أخرى إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك وعزتك وكبرياءك وقدرك وقيمتك، لذلك غرض الضرب في الأساس هو الإذلال لا الإيلام”([26]).

وتقول بسمة عبد العزيز: “يرى الدارسون لتاريخ التعذيب أن الأهداف الظاهرية للتعذيب مثل العقاب أو الحصول على معلومات ليست المقاصد الأساسية من وراء التعذيب، وأن ثمة أغراضًا أكثر عمقًا تكمن وراء التعذيب؛ كتحطيم الأشخاص الأقوياء الثابتين على مبادئهم، وتدمير هوياتهم، وجعل هؤلاء الأصحاء المتفاعلين مع المجتمع والمحرِّكين له ضعفاءً مُحَمَّلين بالآلام وبأوجاع التعذيب المزمنة، وغير صالحين لممارسة أدوارهم.

حينما يُؤخذ السياسيون أو الصحافيون أو قيادات الاتحادات الطلابية والعمالية إلى أقسام الشرطة وإلى السجون والمعتقلات، لا يكون التخلص منهم هو الهدف الرئيس، على العكس تمامًا، يحرص الجلاد على حياتهم بعد كسر إرادتهم، كي يُعِيد إرسالهم إلى المجتمع مرة أخرى وهم يعانون تبعات نفسية وجسدية مفجعة، ليكونوا عبرة لغيرهم، عبرة تبعث الرعب في الآخرين، وتورثهم الجبن والتراجع واتقاء التعرض لمحنة مشابهة”([27]).

سابعًا: متلازمة ما بعد الصدمة

لا نقول: إن بعض الضحايا سعداء الحظ يُفرَج عنهم ولا يموتون من التعذيب؛ لأن في الحقيقة من مات في سجنه فقد نجا، أما من خرج حيًا فقد كُتب عليه أن تمتد فترة عذابه مدة أخرى!

الخروج من السجن لا يعني انتهاء العذاب، بل يظل مستمرًا بصور مختلفة، فمن ذاق هذه الويلات، فقد تدمرت خلايا مخه، وعظام جسده، وأعضاء جسمه الداخلية والخارجية، والأخطر تحطمت نفسه. فقد أجمعت شهادات المعتقلين أنهم بعد الاعتقال يعانون من كوابيس، وتوتر دائم، وأرق، وسرعة الغضب والاستثارة، ونوبات بكاء، واضطراب في الذاكرة، وفقدان ثقة في الآخرين، وانعدام ثقة في النفس، وشعور بالذنب تجاه باقي المعتقلين الذين أُعتقلوا بسببه أو تركهم في المعتقل يتعذبون كل يوم، وشعور بالذنب تجاه الأقارب الذي عانوا بسببه!

وأخطر ما يخشاه الضحية أن يعود للتعذيب مرة أخرى، ويظل شعور التهديد ملازمًا له وقرينه أينما حل([28])!

ويعاني بعض الناجين من نوبات ارتجاعية؛ إذ يعيد تصور التعذيب بكل تفاصيله من جديد، وتلاحقه التفاصيل في كل لحظة، فحين يغلق أنوار حجرته، يتذكر ظلمة الزنزانة، وحين يحاول ممارسة الجنس يتذكر تعذيب أعضائه التناسلية!

كل هذه المعاناة كفيلة بتدمير الحياة المهنية والزوجية والعائلية والسياسية والفكرية للضحية، وماذا بقي في الحياة ليتذوقها بعد ذلك؟!

تقول بسمة عبد العزيز: “تؤكد الدراسات المتعددة أن الجروح والإصابات العضوية تندمل ويزول أثرها بمرور الوقت، أما الجراح التي تصيب النفس فإنها تستمر طويلًا مسببةً إعاقة أكبر قد تصاحب المرء أحيانًا مدى الحياة، فتشير الدراسات والأبحاث إلى أن تسعة من بين كل عشرة أفراد ناجين من التعذيب يعانون مصاعب نفسية واضحة تستمر إلى عشرات السنوات”([29]).

***

إن كل هذا التعذيب الممنهج والمنظَّم والمرتَّب لا يمكن أن يُعَد حالات استثنائية، وحالات فردية، بل هو عملية منظمة، تخضع لقبول وتأييد وتمويل سياسي من رأس السلطة شخصيًا، وليس فقط قبول من رأس السلطة، بل بتحريض وتستُّر وأوامر من رأس السلطة؛ فيستحيل أن تتوفر غرف التعذيب، وأدوات التعذيب، والمعذِّبين، ومدة التعذيب، ونتائج التعذيب، وأعداد المعذَّبين، والتستر على قضايا التعذيب، بدون علم القيادات وموافقتهم وتحريضهم وتسترهم.


[1]. (ذاكرة القهر) ص26

[2]. (كل رجال الباشا) ص136

[3]. دهب ولدت مولودتها الأولى وفى يديها كلابشات السجن، جريدة المصري اليوم، 14/2/2014 ولدت مولودتها الأولى وفى يديها كلابشات السجن

[4]. (البداية والنهاية) ج5 ص533

[5]. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) ج15 ص101

[6]. (الزعيم الثائر أحمد عرابي) ص47 

[7]. Human Rights Watch (تقرير الكأس المسمومة)  يونيو 2007  

[8]. (ذاكرة القهر) ص278

[9]. وفاة محمد مرسي: ماذا نعرف عن ظروف سجنه؟، موقع BBC، 19/6/2019 https://bbc.in/2xb6IKr

[10]. (عائد من جهنم) ص18

[11]. (عائد من جهنم) ص104

[12]. (عائد من جهنم) ص102

[13]. (عائد من جهنم) ص27

[14]. (حيونة الإنسان) ص74

[15]. (ذاكرة القهر) ص47 نقله عن (يوميات شعب ثائر تحت حكم العسكر) ص73

[16]. (ذاكرة القهر) ص181

[17]. سيد بلال أيقونة الثورة: قتله أمن دولة، جريدة  المصري اليوم، 21/6/2012

[18]. (One Percent Doctrine) p132

[19]. شهادة المحامي/ خالد علي

[20].  أحمد السنى – محمد على أحمد، تفاصيل جديدة في قضية طالب الطب المنتحر بعد براءته من تهمة الدعارة، بوابة الأهرام، 20/11/2016

[21]. (عائد من جهنم) ص75

[22]. (عائد من جهنم) ص75

[23]. (عائد من جهنم) ص102

[24]. (ذاكرة القهر) ص50 نقله عن (يوميات شعب ثائر تحت حكم العسكر) ص236

[25]. شهادة سميرة إيراهيم:  

تكررت هذه الشهادة بتفاصيلها من رشا عبد الرحمن:

وتكررت بتفاصيلها من سلوى الحسيني:

وقد اعترف 4 أعضاء فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هم حسن الرويني، وإسماعيل عتمان، ومحمد العصار، وعبدالفتاح السيسي، أقروا في لقاءات منفصلة بإجراء كشف العذرية للمحتجزات:

[26]. (حيونة الإنسان) ص69

[27]. (ذاكرة القهر) ص277

[28]. (الإنسان المهدور) ص158

[29]. (ذاكرة القهر) ص112

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

اترك تعليقا