تشريح الجريمة: قراءة في كتاب علم الأدلة الجنائية لڤال ماكدرميد
تابعنا العديد من المسلسلات البوليسية التي تُظهر علم الأدلة الجنائية لاعبًا أساسيًّا في الكشف عن الجريمة. وسحرتنا قصص شارلوك هولمز، العبقري القادر على كشف الغموض عن أعتى الجرائم، ذي العين الثاقبة الراصدة لأدق الأدلة على مسرح الجريمة. إذا أثار هذا مخيلتكم يومًا، ودارت الأسئلة بخواطركم، فإنَّ الكتاب الآتي سيكون ضالتكم.
يلقي كتاب “Forensics: the Anatomy Of crime” الضوء على الفروع المختلفة للطب الشرعي الجنائي، ويستعرض فيه التقدُّم الحادث تاريخيًّا في عمليات التحقيق وجمع الأدلة على مدار مئتيْ سنة . تعدُّ السيدة Val McDermid مؤلِّفة هذا العمل (2014) الذي يضم اثني عشر فصلًا من أشهر كُتَّاب القصص البوليسية في اسكتلندا، وهذه نقاطه الرئيسية:
– تعريف علم الأدلة الجنائية Forensic Science:
هو تطبيق المنهج العلمي ووسائله العملية في مجال التحقيقات الجنائية؛ يستفيد هذا العلم من علوم الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، مع التركيز على التعرف على الأدلة وتقييمها.
يتوزَّع علم الأدلة بين التخصُّصات التالية: علم السموم الجنائي، وعلم النفس الجنائي، والطب الشرعي، وطب الأسنان، وطب العظام الجنائي، وعلم الحشرات، والأنثروبولوجيا الجنائية، وعلم الأدلة الجنائية الرقمي، وتحليلات الـ DNA، والبصمات، والدماء، وفروع أخرى كثيرة.
-ثانيا: نشأة علم الأدلة الجنائية:
1- إدموند لوكار:
لم يظهر علم الأدلة الجنائية بشكل ملموس، إلا عندما أنشأ السيد إدموند لوكار، في أوائل القرن العشرين، أوَّل معمل في التاريخ للتحقيقات في مواقع الجريمة، في مدينة ليون الفرنسية عام 1910. وكان لوكار متأثِّرًا بشخصية شارلوك هولمز، لدرجة أن أطلق عليه “شارلوك هولمز فرنسا”. وتمثلت أعظم مساهماته في مبدأ لوكارد، والذي ينص على أن “كل اتصال يترك أثرًا Every contact leaves a trace”.
2- فرانسيس جلسنر لي:
لم تستقر رسميًّا مبادئ تحليل موقع الجريمة إلا في عام 1931. وذلك عندما قامت السيدة فرانسيس جلسنر لي بتأسيس مدرسة هارڤارد للطب الشرعي legal medicine. وجهزت فيها معملًا للمجسّمات المصغرة لمواقع حوادث الوفاة والقتل التي لم يتم حلَّها، وذلك كأداة تعليمية لطلبة الطب.
-ماذا يفعل محققو موقع الجريمة:
1 – مسرح الجريمة:
بمجرد أن تحيط الشرطة بموقع الجريمة، يحين دور محققي الأدلة الجنائية ليبدؤوا في الفحص المبدئي لموقع الجريمة. يلي ذلك جمع الأدلة المبدئية incentive evidences، وهي الأدلة الواضحة التي يمكن جمعها من موقع الجريمة، مثل: سلاح الجريمة، وبصمة اليد، وآثار الدماء. تتم هذه العملية بمهارة فائقة؛ بقفازات وأغطية للرأس وملابس خاصة؛ حافظًا على عدم تلوُّث موقع الجريمة.
2- التصوير وجمع الأدلة:
يتم تصوير موقع الجريمة، من الأرض للسقف ومن ركن لركن، وتُجمع جميع الأدلة الممكنة، وتوضع الأدلة في أكياس صغيرة بلاصقات تدل على نوعها وتاريخ العثور عليها، ليتم الاحتفاظ بها، وعادة ما تقدم الأدلة أثناء المحاكمة إذا لزم الأمر.
– مبدأ “العمل يبدأ من الخارج الى الداخل”:
افترض أنك أشعلت إحدى الألعاب النارية في الكريسماس، وخلّف انفجار هذه “المفرقَعة” قطعًا متناثرةً في كل مكان. بالطبع عليك تنظيف المكان من بقايا هذا الانفجار، وجمع كلّ القطع المتبقية. هَب أنك ستبدأ من موقع إشعال المفرقعة حيث تتوقَّع تراكم أكثر القطع.
هذا بالضبط ما لن يفعله إخصائيو الطب الشرعي. ذلك لأنك عندما تبدأ عند المصدر، ستقفز إلى استنتاجات سريعة بناءً على عدد القطع التي ستجدها هناك، وستبني عندئذ عليها تصورًا كاملًا عن بقايا الانفجار وحجم مخلفاته، وهو الأمر الذي يجعلك تفقد الكثير من التفاصيل.
– المبدأ الحاكم:
يعد بدء العمل من الخارج، ثم التقدم ببطء نحو الداخل، أحد المبادئ الرئيسية في الطب الشرعي. وهو المبدأ الحاكم الذي يلتزم به المحقِّقون في حوادث الحريق ومحلِّلو آثار الدماء في جرائم القتل.
-خامسًا: علم الحشرات ودوره في الكشف عن زمن الوفاة:
1- كين سميث:
لم يبدأ رصد ارتباط الحشرات بحالة الوفاة بشكل رسمي إلا في عام 1968؛ في هذا العام أعدَّ “كين سميث” دليلًا أسماه “دليل علم الحشرات الجنائي Manual Of forensic Entomology”.
وسجل سميث في هذا الدليل الأنواع المختلفة من الحشرات التي تنجذب للجثث، وحدَّد أيضًا أي نوع من الحشرات يظهر عند كل مرحلة من مراحل تحلُّل الجثث.
2- الذبابة الزرقاء:
يستخدم علم الحشرات الجنائي لتحديد زمن الوفاة، وأهم حشرة -في هذا الصدد- هي الذبابة الزرقاء blowfly، وهي الحشرة الأسرع في غزوها للجثث، لمقدرتها الفائقة على اكتشاف بقايا الدماء، مهما قَلَّت. وهي قادرة على اكتشافها من على بعد قد يصل إلى مائة متر، وتضع الديدان بيضها في الجثة، وتستغرق الديدان نحو خمسة عشر يومًا للتحول إلى ذبابة، وبمعرفة زمن ومراحل نمو هذه الذبابة، يمكن للمحقِّقين معرفة تاريخ الوفاة.
3- الخنافس و العثة:
وبعد مضي خمسة عشر يومًا تأتي الخنافس لالتهام بقايا اللحم في الجثة. وأخيرًا تقوم حشرة العثة بالتهام الشعر، بحيث لا يتبقَّى إلا الهيكل العظمي.
– الأطباء الشرعيون Forensic Pathologists:
تبدأ أعمال تشريح الجثة من الخارج إلى الداخل، إذ يبدأ المحققون في جمع عينات بيولوجية من موقع الجريمة، مثل: الشعر، وقصاصات الأظافر، ثم يسجِّلون كل جرح أو علامة في الجثة. بعد ذلك يقومون بفتح الجثة على شكل Y لفحص الأعضاء، ويأخذون منها أجزاء ليتم فحصها بالمايكروسكوب، وفي النهاية تُخاط الجثة بعد الاطمئنان على وجود كلّ الأعضاء في الداخل، تحسبًا لإجراء تشريح آخر.
وعقب قيام أطباء العظام والأعصاب بفحص الجثة وإعداد تقاريرهم، يقوم الطبيب الشرعي بإعداد التقرير النهائي، معتمدًا على التقارير الطبية المختلفة المتجمِّعة لديه.
– علم النفس الجنائي:
1- مم يتكوَّن؟
يضم هذا العلم بين جانبيه علم النفس والقانون والنظام القضائي، ويتفرَّع إلى تخصُّصات أصغر، فهناك المعنيون بالطفل وقضايا الحضانة، والمعنيون بتحديد ملامح الشخصية السيكوباتية، والعاملون في السجون ودور الإصلاح، والباحثون الذين يضعون معايير التطبيق. هذا إلى جانب المتخصصين في تحديد مدى سلامة القدرة العقلية للمجرم لحظة ارتكابه الجريمة، وعادة ما يقدِّمون آراءهم واستشاراتهم للقضاء في ساحة المحكمة، أو للسلطات القضائية.
2- متى يستخدم؟
تلجأ أجهزة الشرطة لخدماتهم عندما تصل التحقيقات إلى طرق مسدودة، دون أي مفاتيح أو إشارات تقود إلى حل القضية. ويقوم خبراء علم النفس بإعداد بروفايل يضم سمات الشخصية، وعاداتها، وأساليب حياتها، وعمرها، ومكان نشأتها، مما يُحتمل توافره في مرتكب هذه الجريمة. وبناءً على هذا، يتم توجيه المحققين نحو الطريق الصحيح.
– أول نظام للبصمات كشفت عنه الأواني الفخارية اليابانية:
1-الاكتشاف:
في عام 1870، شكَّل الطبيب والقس الاسكتلندي هنري فولدذ، بعثة طبية إلى اليابان. وبينما هم في الطريق إلى أحد المواقع الأثرية، لاحظ هنري وجود آثار أو علامات لأطراف أصابع كف على أواني الفخار الأثرية، والتي -على ما بدا- هي آثار أيدي عمال الفخار اليابانيين القدامى. وعند إزالة التراب عنها تصبح واضحة الخطوط ويمكن التمييز بين أثر وآخر.
2- الدراسة:
بعد المقارنة والنظر في بصماته وبصمات أصابع زملائه، افترض هنري أنَّ هذه العلامات هي بصمات للأشخاص، وأنها تختلف وتميز كل فرد عن الآخر. وساعدت هذه النظرية الطبية في إثبات براءة أحد مساعديه، وكان متهمًا بسرقة معدِّات من المستشفى. وقام الدكتور هنري بإرسال اكتشافه إلى تشارلز دارون، العالم الشهير، وفرانسس جالتون، عالم الإحصاء و الرياضيات.
3- التطبيق:
بعد عدة دراسات بدأ أحد السجون الأرجنتينية في إضافة البصمات إلى السجلات الجنائية لديه. وفي الهند قام طبيب يدعى إدوارد هنري بتطبيقه، ثم جلبه معه الى اسكتلنديارد، وأخيرًا شاع استخدامه وأصبح عُرفًا معمولًا به في جميع أنحاء العالم.
– خبراء إعادة بناء الوجه facial reconstruction:
عندما يموت شخص ما، يتعفَّن الجسد ويفقد ملامحه المميَّزة، خاصةً الوجه. لكنّ خبراء “إعادة بناء الوجوه” يقدرون على بناء وجه مماثل للقتيل، سواء من الصلصال أو على أجهزة الحاسب. ويعتمدون على معرفتهم التشريحية بمواقع و تركيب الـ 22 عظمة المكونة للجمجمة البشرية.
ومع استخدام الأنواع المختلفة من الأشعة والتصوير وبرامج الحاسب، أصبح من السهل إعادة بناء الوجوه. ويُذكر أن المحاكم لا تأخذ بهذه العملية، ولكنها ذي فائدة كبيرة في مجال التحقيقات الجنائية.
-جريمة قتل الطفلة روينا:
في 2001، لعبت أوَّل عملية لإعادة بناء الملامح دورًا محوريًّا في حل إحدى الجرائم المهمة. في ذاك العام تم حل لغز الجريمة الوحشية التي قتل فيها “الأب والأم” معًا طفلتهما “روينا ريفرز”. ومن خلال إعادة بناء وجه الطفلة باستخدام الصلصال اعتمادًا على عظام الجمجمة، نجحت الشرطة في فك لغز الجريمة.