تجربتي مع التلعثم وكيف ساعدتني على أن أكون كاتبة أفضل
كنت أعاني أحيانا.. لكن علتي منحتني شغفا بالكلمات واللغة
حرفُ العين في كلمة “عصير” كان أولَ صوت كررته عدةَ مراتٍ قبل نطقه حسب قول والدتي، كما لو كنتُ شريطًا مسجلًا عالقًا. كنت بعمر الثالثة وقتها ولم يكن تلعثمي شيئا معيبا بعد. وكانت علاقتي باللغة بسيطة وقتها. فقد افترضت أنَّ نطقي للكلمات يجعلني أشبه بطائر يغرد. وكنت أتخيل أن اختلافي عن باقي الأطفال قد يعني أنني أملك قدرة مميزة على مخاطبة الحيوانات ومصادقتهم ومعرفة أسرارهم وفقا للغة سرية بيننا.
انتهى الحلم الطفوليّ بمجرد دخولي المدرسة. تعودت التلعثم كلَّما مادة أحد المعلِّمين اسمي أو طلب مني القراءة بصوت عالٍ. حتى أنّي ما زلت أتذكر شعور العار الذي غمرني عندما طُلِبَ مني ذات مرة أن أقرأ مقطعًا من مقال في صحيفة القارئ الأسبوعيّ، لقد كنت في الصف الثالث الابتدائي.
من الأصوات الأخرى الصعبة على من يعاني علتي هو دمج حرفي “س” و”ت”. وفي طفولتي احتجت خمسًا وعشرين دقيقة لقراءة أسطر استغرق الأطفال بعمري لقرائتها خمس دقائق لا غير. في هذا الوقت تعلّمت تقسيم الحروف لمجموعة “جيدة” –مثل الأحرف ف, و, م- وأخرى “سيئة” –مثل الأحرف س, ف, ت-. إضافةً لأصوات العلة الشائكة التي اعتبرتُ لفظها أشبه بمهمة مستحيلة.
كان لكلِّ حرف درجة من الصعوبة تختلف بحسب موقعها من الجملة. لكن عندما قرأت عن مشكلة الكاتب العالمي نابوكوف مع التلعثم، وكيف ربط الأحرف بالألوان لتسهيل فهمها. وجدت أنني أستطيع عمل شيء مشابه بوصف الحروف. فقد بدا الحرف “ج” أشبه بقطعة مطاط تحترق. وأنَّ الحرف “ر” يشبه تمزيق سجادة عتيقة. بينما الحرف “ف” قد مثل زهرة الكوارتز من شدة حبي له.
منحتني أمي مرة كتابًا بعنوان “قصة الببغاء المتلعثم” لتساعدني على مواجهة سخرية الأطفال مني. وعلمني المعالجون آلياتٍ معينة للتدرب عليها في محاولةٍ لتجاوز علتي. حتى أني انضممت لبرنامج علاجيّ شهير في كلية قُربَ منزلي في فرجينيا وأنا بعمر الثالثة عشرة.
خلال البرنامج قضيت ثلاثة أسابيع أجلس في غرفة صغيرة مقابلة لطاولة، وضع عليها جهاز تسجيل وجهاز آخر أسود… يحتوي ضوءً يتحول من اللون الأخضر إلى الأحمر كلما تلعثمت بشكل واضح ودفعت الهواء من فمي أسرع من اللازم.
كان يوضع أمامي كتابٌ سميكٌ مليءٌ بالأحرف والكلمات. ويطلب مني ترديد كل منهم مئة مرة وفقًا لنظام البرنامج بالانتقال من صوت لآخر. على أن أعود للبداية كلما لمحت الضوء الأحمر.
بعد ساعات من التكرار بدأ اهتمامي ينضب، وأصبح عقلي يتخيل الفتاة النحيلة التي كنتُ، تحاول ببؤس ملحوظ لفظَ الكلمات برقة.
بعد خمس وعشرين سنة وعدة برامج علاجية تعلمت أن أتحدث كشخص طبيعيّ معظم الوقت. أيُّ شخص لا يعاني علةً في طريقة تلفظه. فقد توقفت عن الحديث كلما بدأت بالتلعثم تجنبًا لأن أُعتبَرَ شخصًا يعاني. وقد نجحت بذلك لفترة.
ذات مرة ذهبت إلى حفلة في بروكلين حيث التقيت بمجموعة من الأشخاص الذين عانوا علتي ولم يخجلوا منها أو يخفوها. وقد كان مضيف الحفلة محررًا في مجلة خاصة بمن يعاني من عِلَى التلعثم. وكان العديد من الحاضرين أعضاءً في الاتحاد الأمريكي للتعلثُّم.
حينما تحدثت إلى الأشخاص في تلك الحفلة ووصفت تجربتي في البرنامج العلاجيّ الذي ذكرته سابقًا، أخبرني أحدهم بأن البرنامج يتمتع بسمعة سيئة ومعالجوه بكونهم قساة. وأدركت يومها أن المحيطين بي لم يعجبوا بطريقة حديثي المنمقة دون تلعثم. بل شعروا بالأسف تجاهي. فقد اعتبروا طريقة حديثي الحذرة عقبة في تعبيري عن شخصيتي. وبدا لهم أنّني لا أعرف نفسي كفاية ولن أفعل أبدًا، لأنّني تدربت على إخفاء جزءٍ من شخصيتي.
أذهلتني طريقة تفكيرهم. فلم أعتقد يومًا أنّ طريقة حديثي طبيعية وأن على الكلمات أن تتأقلم مع قدراتي.
عندما شاهدت فيلم “خطاب الملك”, والذي يحكي قصة الملك جورج الخامس ومشكلته مع التلعثم. لم أحب النهاية التي أظهرته ملقيًا خطابه عن دخول بريطانيا الحرب العالمية الثانية بسلالة بمساعدة من معالجه ليونيل لوغ. لكني أدركت أن فحوى الفيلم تتعلق بعلاقة الملك بمعالجه. وأن نقاط القوة تكمن في الضعف الذي أظهره أثناء الجلسات العلاجية. وكيف أن معالجه لم يسخر منه أو ينظر له بتقزز، بل تعاطف معه. في تلك الأوقات شعر الملك بأن أحدًا في هذا العالم يراه على حقيقته للمرة الأولى.
فهمت حينها أنّ التلعثم أشبه بتميمة لفتح محادثة عادية، لكن ما يحدث أثناء المحادثة يعود للشخص الذي يعاني وللمصغي إليه كذلك.
قبل فترة قصيرة عملت على تسجيل نسخة صوتية من كتاب. وبينما أجلس أمام مسجل الصوت تذكرت الفيلم والدرس الذي علمني إياه. فقد كنت قلقة وغير متأكدة من قدرتي على أداء المهمة. فقد كان الحديث والقراءة بصوت عال جزء من معاناتي اليومية. لكن تسجيل كتاب كامل يجعلني جزءً من عالم إلقاء الخطب بشكل احترافيّ. وهو عالم لم أعتقد يومًا أن أكون جزءً منه.
عندما شرعت بالقراءة تذكرت ضعف حيلتي في مواجهة اللغة. فأنا لا أملك السيطرة على حبالي الصوتية. وتغدو الكلمات تخرج من فمي بموجة غير متوقعة. لكن عدم قدرتي على السيطرة هذه شيء يثير الحماس بقدر ما يخيفني.
مرة بعد مرة ترددت وتمتمت واضطررت للبدء مجددًا من أول الجملة. لكن مهندس الصوت الشاب شجعني بصبر، وتحدث لي بصوتٍ ومتعاطف، وبعد الانتهاء أخبرته بأن تلعثمي يخلق جوًا حميميًّا في قاعة الدراسة عندما ألقي درسًا. فقال متفهمًا أنّ طلابي يرون ضعفي. واتفقنا على أن نتم الكتاب وإن أخذ منا ضعف الوقت المحدد. وفي التعديل النهائي وعدني المهندس بترك شيء من تكراري ولحظات صمتي في التسجيل.
تكمن السخرية الرئيسية في حياتي بعلتي في الكلام، فهي مسؤولة عن شغفي باللغة رغم ما تسببه لي من معاناة. ودونها لم أكن لأتعلق بالكتابة وأسعى لخلق جمل سهلة اللفظ. وتعلقي بالكتابة يدفعني للتواصل بشكل مستمر.
في صغري تمنيت أن يكون التلعثم طريقًا سريًّا لعالم الحيوان. لكني أدرك في كبري أنه شيء شبيه بتلك الأمنية مع مصغي عطوف، أنه طريقٌ سريٌّ ومباشرٌ لقلب الإنسان.