بحثًا عن كلماتٍ لأكثر الأحزان غموضًا (مترجم)

لعل التعرُّف على كلمةٍ تُعبِّر عن شيءٍ طالما شعرت به في حياتك، ولكن لم تعرف كيفية مشاركته مع الآخرين، أمر يبعث على السكينة، بل أنه يكاد يكون أمرًا يساعد على التمكيِّن، أي أن تتذكَّر أنك لست وحيدًا، ولست مجنونًا، بل أنت مجرد إنسان عادي يحاول أن يشق طريقه عبر مجموعة غريبة من الظروف المحيطة.

وهكذا ولِدَت فكرة هذا الكتاب، في رحم هذه اللحظة من الإدراك، التي تهز الكيان عندما تتعلَّم كلمات بعينها مُعبِّرة عن انفعالاتٍ، خاصة بلغاتٍ غير اللغة الإنجليزية: كلمات مثل hygge، وsaudade، وduende، وubuntu، وschadenfreude. وقد لا يتاح لنا ترجمة بعض هذه المصطلحات، لكنها تظل تتمتع بالقدرة على إضْفاء شيء من الأُلفة على إحساسك بدواخل رأسك، وإن كان لوهلةٍ سريعة، فتتساءل: هل هناك غير ذلك من المتاح؟ ما هي فُتَات المعاني الآخرى التي كان يمكن لنا استدراجها من أعماق الساكن، لو أن أحدهم جاء لنا باسم لها؟

ولا نتساءل عادة لماذا تتمتَّع لغة ما بكلماتٍ تُعبِّر عن بعض الأشياء دون غيرها، بينما لا تحتويها لغات أخرى؟ ولا نتصوَّر أن لنا الكثير من الخيارات في الأمر، فالكلمات التي نستخدمها في بناء حياتنا وصلتنا في المهد، أو التقطناها أثناء اللعب، فتقوم بدور شكل من أشكال البرمجة النفسيَّة التي تساعد في تشكيل عَلاقاتنا، وذاكرتنا، بل وإدراكنا للواقع، وكما كتب فيتجنشتاين قائلًا: “إن حدود لغتي هي حدود عالمي”.

وهنا تكمُن المشكلة؛ فاللغة جوهريَّة في عملية إدراكنا، ولا يمكن لنا إدراك العيوب التي تسود اللغة ذاتها. فعلى سبيل المثال، يصعب لنا تحديد ما إذا كانت المفردات التي نستخدمها قد عفى عليها الزمان، ولم تعد تصف العالم الذي نعيش فيه، فلن نشعر سوى بفراغٍ غريب في أحاديثنا، ولا نتيقَّن أبدًا إن كان كلامنا مفهومًا.

ولا شَكّ أن القاموس اللغوي يتطور مع مرور الزمن، فيتم صك الكلمات الجديدة طبقًا للحاجة إليها، إذ تنشأ واحدة تلو الأخرى من مختبر محادثاتنا. إلا أن هذه العملية تتصف بشيءٍ من الانحياز، فهي عملية تكتفي بإطلاق المسميَّات على مفاهيم بسيطة وملموسة وشائعة ويسهل الحديث عنها.

إعلان

أما الانفعالات، فهي عكس كل هذا، ونتيجة لهذا، هناك نقطة هائلة مبُهمَة في لغة الانفعالات، تُمثِّل ثغرات شاسعة في المعجم اللغوي، لا ندرك حتى أننا نفتقد إليها، فلدينا آلاف الكلمات الخاصة بأنواع عصافير الحسون، أو المراكب الشراعية، أو الملابس التاريخية، أما المفردات الخاصة بالفروقات الدقيقة الممتعة للخبرة الإنسانية فتظل بدائية.

لن تفينا الكلمات حقنا أبدًا، وإن كُتِب علينا أن نستمر في المحاولة، ولحسن الحظ، فإن طيف اللغة يسهل التوسُّع فيه لا نهائيًّا. فإن أردنا، يمكننا بناء إطار لغوي جديد بأكمله لسد الفراغات، يتأصَّل هذه المرة في إنسانيتنا المشتركة، وأوجه الوهن المشتركة، وتعقيداتنا المشتركة باعتبارنا أفرادًا –وهو منظور لم يكن له وجود عندما كانت الغالبية من القواميس قيد التأليف. فقد نتمكَّن من فهرسة أبسط نزوات الحالة الإنسانية، بل وتلك الأمور التي قد لا يشعر بها سوى شخص واحد– وإن كانت فرضيَّة هذا الكتاب أن ما من شخص وحيد في مشاعره.

ففي اللغة، كل شيءٍ متاح، أي أنه لا يوجد انفعال غير قابل للترجمة، وما من حزن غامض بقدر يصعب من تعريفه. كل ما علينا هو المحاولة.

مارو موري

تلك البساطة المفرطة للأشياء العادية

إن غالبية الكائنات الحيَّة لا تحتاج إلى أن تُذكِّر ذواتها بروعة الحياة، فهي ببساطة تمضي وقتًا. إن القط العجوز الجالس في نافذة إحدى المكتبات، يقضي وقته متأمِّلاً لساعاتٍ عبور الناس، فيرمش قليلًا بهدوءٍ، يلتقط أنفاسًا ويزفرها، يُشاهِد بكسلٍ شاحنة يتم تفريغ حمولتها على الجانب الآخر من الشارع، دون أن يتفكَّر كثيرًا في أي شيءٍ. وهذا رائع، فهي حياة تستحق أن يعيشها كما هي.

ولعل الكثير من الحياة نمضيه هكذا، في زمنٍ عادي، لا يشوبه أي كفاح هائل، أو أسرار مقدَّسة، أو مكاشفات رائعة، وإنما حالة بسيطة من الحياة المنزلية، تتجلَّى في صورٍ صغيرة، هنا وهناك. كل تلك الأشياء البخسة الصغيرة، تلك الجلجلة المتقطعة للمروحة، فرشتا أسنان تنتظران في كوبٍ بجوار الحوض، صوت نحيب الباب الخارجي القديم، صوت الصرير الإلكتروني الجاف لآلة طباعة إذ تطبع وصلًا، صوت هدير شخص ما يستحم بالطابق الأعلى، ثُمَّ ذلك الشعور بارتداء جوارب صوفية ذات صباح شتوي، وخلعها في نهاية اليوم. جميعها أحاسيس تراودنا دون تفكير، فأقل القليل منها يستحق الملاحظة.

إلا أنه بعد قرنين من الزمان، سوف يتحوَّل هذا العالم إلى مجموعة مختلفة تمامًا من الشخصيات، لن تنظر خلفها لتتساءل عمَّن فاز في المعارك ومتى؟ بدلًا من ذلك، سوف تسعى هذه الشخصيات إلى تخيُّل كيف أمضينا حياتنا اليومية، وجمع الأعمال الفنيَّة الغالية الخاصة بعالمٍ اندثر، بكل تفاصيله البسيطة المورِّثة للحزن، سوف يطَّلعون على الخربشات التي رسمناها في هوامش الكتب، وعلى أوراق الزهور التي تركناها بين صفحاتها،سوف يحاولون تخيُّل إحساسنا بالثياب تلامس أجسادنا، وما تناولناه لوجبة الغذاء في يومٍ بعينه، وكلفتها المحتملة، سوف يتعجَّبون من معتقداتنا الخرافية، وتلك الميمات والعبارات والنكات الصغيرة التي كنا نتشاركها، وأغنيات البوب التي كنا ندندنها دون تفكير، سوف يحاولون تخيُّل الإحساس بالوقوف عند ناصية الشارع، لنتأمَّل الطُرُز المعماريَّة، ونستمع إلى السيارات القديمة المارة، ورائحة الجو، ومذاق الكيتشاب.

ونادراً ما نفكِّر في التمسُّك بهذا الجزء من الحياة، ولا ننحت التماثيل للعامة من الناس، ولا نخلف وراءنا لوحات صغيرة تحيي ذكرى معالم الزمن العادي:

هنا، يوم الخامس والعشرون من مارس

عام ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين

خرج بعض الجيران لتمشية كلابهم

وتبادل الأطفال الإمساك بسلسلة الكلاب

وكانت ظهيرة لطيفة لكل المشاركين

وعلى الرغم من ذلك، فقد وقعت كل هذه الأحداث. كل تلك الخبرات البَخْسة التي يسهل التخلُّص منها، فهي لا تقل واقعية عن أي شيءٍ مذكور في كُتُب التاريخ، ولا تقل قُدْسيَّة عن أي أمر مذكور في التراتيل. لربما وجب علينا الإبقاء على أعيننا مفتوحة أثناء تلاوة الصلاة، وأن نبحث عن المعنى الخفي لتلك الأشياء التي تظهر أمامنا: صوت حبَّات التيك تاك تقعقع في علبتها، ذلك الوجع النابض المُصاحِب للزغطة، وتلك الرائحة الغريبة التي تلتصق بأيدينا بعد الانتهاء من غسل الصحون، فكل منها على حِدَّة يُمثِّل تأمُّلًا، بل تذكرة بما هو واقعي حقيقي.

إننا بحاجةِ إلى هذه الأشياء التافهة الصغيرة في حياتنا، حتى وإن لم يكن لها الكثير من المعنى، وإن كانت مجرد تذكرة أن الرهانات لم تكن فيما سبق بهذا العلو، ولم يكن الأمر دائمًا مسألة حياة أو موت، ففي بعض الأحيان كانت مجرد مسألة حياة -ولا بأس من هذا.

صدمة الطيور الجارحة

اسم– أي الإحساس المستمر بأنه بصرف النظر عن عدد الأيام التي تمضيها في استكشاف بلد أجنبي، إلا أنك لن تتمكَّن فعليًّا أبدًا من وضع قدمك بها، وبدلًا من ذلك، سوف تُحلِّق فوق تلك الثقافة مثل غواص أعلى الشعب المرجانية، منبهر بالنزوات الخلَّابة، فلا يلاحظ المشكلات وأوجه التعقيدات والتفاهات، بينما يستقي من مخزون كبير من الافتراضات التي يحملها كالأسفار أينما ذهب.

“الطيور الجارحة” – طائر يُحلِّق أعلى فريسته + ”الصدمة الثقافية”، أي الارتباك الناشيء عن ضرورة التوافق مع ثقافة مغايرة للثقافة التي اعتاد عليها المرء.

 

حالة الميرينيس

اسم –العزلة المهدهدة التي تصاحب القيادة في وقتٍ متأخرٍ ليلًا– أي الانطلاق في فراغٍ ناشيء عن دندنة من العالم الآخر، يصاحبها خيوط من الجواهر الحمراء تشق الظلام، إذ تنطلق أضواء السيارة مثل أضواء الفنار.

كلمة “مير” merre من اللغة المجرية، والمقصود منها “أين؟” في أي اتجاه؟

 

مجردية

اسم –العادة التي تجعلك تقول لنفسك: إن عملية تبديل واحدة كفيلة بحل كافة المشكلات. أي لو كنت تتمتَّع بالتسريحة المناسبة، لو كنت وجدت شلة الأصدقاء الصحيحة، لو كنت تجني المزيد من المال، لو كان لاحظك، لو كانت تحبك كما تحبها، لو كنت تجد المزيد من الوقت، لو كنت تتمتع بشيءٍ من الثقة– مما يجعلك دائمًا تشعر وكأنك على أعتاب حياة أفضل، أو تنتظر أعلى المنزلق في انتظار دفعة واحدة مساعدة.

قد يهمك: الأمر معقد. لماذا تحتاج بعض الأحزان لوقت أطول كي تلتئم؟

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا