بارتلبي: القُوَّةُ الفُولَاذِيَّةُ لِتَمَرُّدٍ لَطِيف -مترجم-

هناك قصص قليلة جدًا التي عند إعادة قراءتها مرَّة بعد مرَّة، تبدو أكثر من ممتازة بشكلٍ لا يُصدَّق، وقصّة هِرمان مِلڤيل الغريبة والمُؤلِمة “بارتلبي النساخ” هي واحدة من هذه القِصص. مثل حكاية بلا مغزى واضح، إنّها حكاية تحدٍّ حُمِلَ على معنى ميتافيزيقيّ.

في الواقع إنّ الحبكة سهلة الفهم، في حين أنّ المعنى مراوِغٌ تمامًا. الرَّاوي -وهو لم يذكر اسمه- مُحامٍ من نيويورك، يأخذ على عاتقه انضمام كاتب أو ناسخ جديد إلى مكتبهِ. يَصِف مُحامِينا فَلْسَفته بقولهِ: “أسهل طريقة للحياة هي الأفضل”، ويستمتع بأنّ لديهِ “مَلاذًا مُريحًا”، حيث يمكنهُ “القيام بأعمالٍ تجاريَّةٍ مُريحة بين سندات الرِّجال الأغنياء والرُّهُون العقاريَّة وسَنَدَات الملكية”. لديهِ بالفعل ناسِخان اثنان، أحدهما ملقّبٌ بـ (تيركي) والآخَر بــ (نيـپرز)، كما يعمل لديهِ صبيٌّ واعِد يُدْعَى (جِنْجِر نَتْ).


العمل في المكتب يسير بشكلٍ جيّدٍ جدًا، لذلك يوظِّف الرَّاوي بَارْتِلْبي، ويصفهُ بأنّهُ: “نظيفٌ بشكلٍ شاحِبٍ، مهذَّبٌ بشكلٍ يُرثَى لهُ، بائِسٌ على نحوٍ يتعذَّر شفاؤهُ”. وهو يعمل “بصَمْتٍ، ووَهْنٍ، وعلى نحوٍ آليٍّ”، يُطلَب منهُ في اليوم الثّالِث من عمله أن يُدقِّق مُستندًا. فيقول -وهو الشّيء الوحيد الذي يقولهُ في القصّة تقريبًا- : “أُفَضِّلُ أَلَّا”. بدلًا من ذلك، فهو يُفضِّل، إذا كان هناك أيّ شيءٍ يُفضِّلهُ، أنْ ينظُرَ إلى جدار الطُّوب الفارغ ولا منظر سواهُ يطلّ من نافذتهِ.


وبسبب إحْبَاط المحامي، يُهدِّد تيركي ونيـپرز بضَرْب بارتلبي على عَيْنهِ وتسويدها لهُ. الرَّاوي، الّذي يفخر بما عَهِدهُ عنهُ (جون جاكوب أستور[1]) بالحكمة، و (إدواردز) بالإرادة، و (بريستلي) بالضّرورة، يُقدِّم فرصة أخرى ولو غرفة في بيتهِ. يحاول أن يحصل ولو على أقلّ معلومة من سيرتهِ الخاصّة: “هل ستُخبرني يا بَارْتِلبي، أين وُلدت؟”. والجواب عن ذلك بالطّبع: “أُفَضِّلُ أَلَّا”.

لم تكُن أبدًا “لا”… ولم تكُن أبدًا “لن”، ولا حتّى أيّ رفضٍ صريحٍ، ولم تُقال أبدًا بعدوانيَّةٍ أو بوقاحةٍ. بَارْتِلبي دائمًا يكون في المكتب عندما يبدأ العمل، ويبقى هناك بعد رحيل الجميع. وفي زيارة غير مخطَّطٍ لها في يوم أحد، يجد الرَّاوي بَارْتِلبي هناك، ويتساءل عمّا إذا كان بالفعل يعيش في المكاتب. وهنا يأتي العُنْوَان الفرعيّ المنسيّ:
“قصة وول ستريت” – بارتلبي النّبوءَة الغريبة لــ “حركة احتلّوا[2]“.

إعلان

في النِّهاية، وبسبب الإحْبَاط، ينقل المحامي مكتبهُ، إلّا أنّ المستأجرين الجُدُد يقلقون بشأن الرَّجل الذي يجلس طوال اليوم على الدرابزين. ونتيجة لهذا، يضع المستأجرون بَارْتِلبي في السّجن، حيث يزورهُ الرَّاوي ويدفع نقودًا من أجلهِ حتّى يحصل على وجبات طعام أفضل، لكنّهُ في الزِّيارة الأخرى يُفضِّل ألّا يقوم بذلك، وفي النهاية يموت بَارْتِلبي.. ولكن بسبب ماذا؟ مجاعة؟ كآبة؟… أم لأنَّهُ يُفَضِّل ألّا يعيش؟


يتحدَّى مُعظم الأنصار العُظماء للتَّحدي في الأدب -يَتَراءى لي شخصيَّة الكابتن أهاب في رواية موبي ديك لــ”مِلڤيل”، و الشَّيطان في الفردوس المفقود لـ”جون ميلتون”، و زرادِشت في رواية هكذا تكلّم زرادِشت لـ “نيتشه“، وستِيربايْك في ثُلاثيّة غورمينغاست للكاتِب “ميرفين بيك”- الشَّخص الموجود في السُّلطة، وليس هيكل السُّلطة؛ فالشَّيطان لا يزال يَرْغَب بأن تكون هناك ممكلة عالميَّة، ويَوَدُّ أن يكون مَلِكُها فحسب.

لكن بارتلبي مختلف ويُشَكِّل تحديًّا أكثر قوة؛ إنّهُ شخصيَّةٌ تنفي كل الأعراف التقليديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة واللاهُوتيَّة. فهو خارج تمامًا عن التَّأثير الذي أطلق عليه المُحلِّل النَّفسيّ “جاك لاكان” (الآخر الكبير[3]): وهو الصّوت الدّاخليّ الخارجيّ الذي يجعلنا ننجذب نحو قوة تفرض علينا عقوبات. بَارْتِلبي هو الشَّكل الأكثر تأدُّبًا لرفض كل الأسباب التي من أجلها نتحلَّى بالأدب والتَّهذيب.


بارتلبي كان أحد جوانب الإلهام التي استلهم منها الكاتِب “جورج بيريك” شخصيَّة بَارْتِلْبُووث في رواية الحياة: دليل المستخدم. في هذا الكِتَاب الذي يتساوى تحدِّيهِ بتحدّي “بارتلبي النساخ”، يقوم بارتلبووث برحلةٍ حول العَالَم راسمًا لوحات بألوانٍ مائيَّة لموانِئ، وهذه اللَّوحات تُعَاد إليهِ في شقَّتهِ في باريس حيث يسكن. يعمل بَارْتِلْبُووث من اللَّوحات الفَنّيَّة أُحجية صور مقطوعة، ويُعيد تجميعها، ثُمَّ يحمل اللَّوحات ويضعها في محلولٍ مُنظِّفٍ حتى تذوب الألوان، وما يتبقّى من اللَّوحات إلّا ورق فارغ مع خُطُوطٍ محفورة لأعمالٍ فَنّيَّة سابقة. تتمثَّل خِطَة بَارْتِلْبُووث في ترك أقل قدر ممكن من أثر كان موجودًا على الإطلاق، إلا أنه يفشل في ذلك. يتشارَك بَارْتِلْبُووث وبَارْتِلبي في نوعٍ من عدم الثِّقَة الثَّوْريَّة.


كتب “جيه جي بالارد” ذات مرَّة عن مستقبل أدولف هتلر، أنّهُ يخرج من “المخلَّفات الخالدة” لدى “مراكز التسوُّق الحديثة”. أعتقد أن مِلڤيل يُقدِّم فِكْرة أكثر خطورة، وهي أنّ: المُقاوَمة الثَّوريَّة تأتي من رجلٍ يرتدي بدلة تقليديَّة، ويُصرِّح بشكلٍ مُعتدِل أن هناك أشياء يُفضِّل ألّا يقوم بها.  وبالنسبة لـبَارْتِلبي، فإنّ هذا هو السَّبيل إلى نوعٍ من الاسْتِشهَاد.

المصدر



[1] جون جاكوب أستور:‏ مُهاجِر ألمانيّ المَوْلِد، حقَّق ثَرْوَة طائلة من استثماراتهِ في العقارات في نيويورك، ومن سيطرتهِ الاحتكاريَّة على تجارة الفرو في غرب أمريكا. كان أستور قبيل وفاته أغنى رجل في الولايات المتحدة. قضى أستور بقيّة حياتهِ راعيًا للأُدباء، ومن بينهم (إدغار ألان بو)، وأسَّس (مكتبة أستور). [المُترجِمة زوينة آل تويه – بتصرُّف من موقع ويكيبيديا].


[2]  [حركة احتلوا أو احتجاجات احتلوا]: احتلّوا وول ستريت هي احتجاجات دَعَتْ إلى احتلال وول ستريت في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكيَّة. بدأت المُظاهرَات عندما نادَت بها مجموعات على موقعيْ الفيسبوك وتويتر، وذلك تأثُّرًا بحركة ثَوَرَات الرَّبيع العربيَّ التي أَسْقَطت ثلاثة أنظمة حاكمة في الوطن العربيّ، ووصلت إلى نظامَيْن آخرَيْن بأعلى درجات الاحتقان. بدأت الاحتجاجات بمسيرةٍ صغيرةٍ في 17 سبتمبر من عام 2011 في وول ستريت ، شارك فيها قرابة مئة شخصٍ، في 15 أكتوبر دُعِيَ إلى عولمة المظاهرات لتصبح حدثًا عالميًّا.


[3] الآخر الكبير: فِكْرة تتمثَّل في التفاعُل والتواصُل البشريّ، فهو ذلك المُنظِّم الافتراضيّ للتقليد والتحاور الاجتماعيّ، إنه المناخ الذي يتوافر فيه الوضع الذي يخلق القواعد .الآخر الكبير هو السُّلْطة اللا شُعوريَّة الكبرى التي تُشكِّل اللا وعي الشَّخصيّ لكل فردٍ. بحسب جاك لاكان يعمل الآخر على ثلاثة مستوياتٍ متفاعلة ومتداخلة: المستوى الخياليّ، والمستوى الرَّمزيّ، والمستوى الواقعيّ.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا