انتفاضة الشعوب: السترات الصفراء نموذجًا للفيلسوف ميشيل مافيزولي

أسير في الاتّجاه المعاكس لِما يقول به كثيرون، من محلّلين ومعلّقين على حراك “السترات الصفراء”، من كونه حالة فريدة وغير مسبوقة في الحقل الاحتجاجي الاجتماعي. بحكم المؤكّد أنه حراك مطبوع بجملةٍ من التصرّفات “اللاحضارية”، من قبيل الإضرار المادي بأماكن بعينها، وتخريبٍ جزئي لمآثر تتميّز برمزيتها، فضلًا عن اعتداءات جسدية متفرّقة وإضرام حرائق، والتي حتى وإن كانت معزولة نسبيًا إلّا أنه مؤشّر على صنف جديد من الاحتجاج  قادم، ومرشّحٌ للتعاظم والتزايد. لكن علينا هنا أن نستحضر رغبةً في التنسيب و درءً للتهويل، ما قاله “دوركهايم” عن الظواهر الاجتماعية التي تعبّر عن مستويات متفاوتة من الغليان العامّ والفورة الجماعية، من أنها لا بد أن تكون مصحوبة بمسلكيات جماعية خارجة عن نطاق “المراقبة والسيطرة”.

“جعجعة القضايا الثانوية” لا ينبغي أن تحجب عنا ما هو أساسي، وكأمثلة عن هذه “الجعجعة بلا طحين” ما روّج له محللّون ومعلّقون هنا وهناك من كون الحراك إيّاه “رافض لمبدإ التمثيلية”، و”عصيان للديمقراطية”، بل ومثال لحركة اجتماعية منفلتة وعصية عن كل توجيه أو تأطير، حركة “عمياء” لأنها بدون قائد يقود خطاها ولا قيادة تسترشد بها، فضلًا عن مطالبتها بمطالب غامضة وغير عقلانية. أو كما جاء على لسان بعضهم وبلهجة مريرة: “إنها حركة اختلط فيها الحابل بالنابل، فما عاد ممكنًا التمييز فيها بين أصحاب السترات الصفراء (الحقيقيين) والمندسّين من مكسّرين و مخرّبين”.

عندما كان صديقي الراحل “جون بودريار” يعمّق طروحاته حول ما أسماه، منذ سنوات خلت، “ظلّ الأغلبيات الصامتة “l’ombre des majorités silencieuses، كنت بالموازاة أسعى جاهدًا لتوضيح ما أعنيه بـ “المجتمع شبه الرسمي” la société officieuse وكشف النقاب عمّا ينطوي عليه من أهمّية نوعية وخصوبة سوسيولوجية. فالظواهر التي كنّا شهود عيان عليها منذ ثلاثة أسابيع تندرج رأسًا في هذا الاتجاه؛ اتجاه استعادة “الأغلبية الصامتة” للسانها، وانتفاض المجتمع شبه الرسمي أو الموازي. يتعلّق الأمر في الحالتين معا، بجزءٍ هامّ من مناخٍ عامٍّ بات يغمر عصرنا ما بعد الحداثي ومن كل جانب. فما عاد ثمّة وجود لحراك اجتماعي تقوده جبهة موحّدة، ومدافع عن مطالب متجانسة، وما عاد ثمّة تجمّع وطني، بالمعنى الذي تحيل به صفة “الوطني” على “المركزي” والموحد والمتجانس والمتطابق، حتى ولو كان تجمّعًا شعبيًا وجماهيريًا حاشدًا.

انتشار جذوة التظاهرات الاحتجاجية الباريسية انتشار النار في الهشيم بحيث اجتاحت، على نحوٍ وبائي، كل المواقع الاجتماعية، ولا تخلو دردشات المقاهي من أخبارها وأصداءها، ولا حتى أي حيّزٍ مكاني يتواجد الناس فيه، لا يبرر مطلقًا، الحديث عن حراكٍ موحّد منظّم ومتجانس. تقديري أنه حراك  من صنع “قبائل كثيرة”؛ قبائل ماضية للزحف على ملتقى من الملتقيات الطرقية، وأخرى تتدافع لمنع الدخول إلى هذا الفضاء التجاري أو ذاك، وفئة ثالثة تكفّلت باجتياح أماكن رمزية لنخبٍ سياسية وتجارية معروفة.

بالمحصلة، يمكن القول أننا بصدد رغبة جماهيرية عارمة في التواجد معًا، في التجمهر والاحتشاد الذي هو عماد كلّ أنسية، هذا هو المشترك وما عداه فمتنافر و متعدد. لا وجود لمطلب مشترك يوحّد بين هذه “القبائل”، وحتى المطالب التي تواتر الحديث عنها في الإعلام وتلوكها الألسن هنا وهناك، هي مطالب متناقضة؛ فبجانب مطلب الاستهلاك بأثمنة أقل (أرخص)، هناك رفض غاضب للعولمة؛ وبجانب المطالبة بالنهوض بالجهوي والمحلي، هناك دعوات لتشجيع التنقّل الحرّ عبر أرجاء المعمورة؛ وبموازاة  الدعوات إلى التآزر والتضامن الجماعي، ثمة تشبّث بالحقّ “الفردي” في امتلاك سيارة شخصية..إلخ.

إعلان

مع هذا “التشتت” المطلبي الذي تتأرجح فيه المطالب بين الشيء ونقيضه أو شبه نقيضه، لاحظنا كيف أن الردود التقليدية للسياسيين ما عادت تنفع ولا هي قادرة على لجم الجموع الحاشدة. ردودٌ تخبط خبط عشواء، وتبدو بالعين المجردة متجاوَزة ودون أدنى تأثير. فالطابع بميسمه لهذا الحراك، وعلى نحو لافت، هو “الشكل” لا المضمون أو (المحتوى المضبوط). وهذه فرصةٌ سانحة للفت الانتباه إلى ما ينطوي عليه الشكل من أهمّية خاصّة لا يُستهان بها، أو لا ينبغي بالمرّة إسقاطها من الحساب “المعرفي” والتحليل السوسيولوجي الرصين والرزين. فالشكل هو ذلك الإطار العامّ الذي يتيح للجماهير بأن تجتمع وتتجمّع وتحتشد وهو الذي يرفدها بأسباب التماسك والتلاحم. فالشكل مُشكِّل la forme est formante (له قدرة على التشكيل والصوغ)، ذاك معطى أساسي ننصح باستحضاره في سياق هذا الحراك وما يماثله من نوازل.

هو ذا تحديدًا ما تجري أطواره على مرأى منا ومسمع. فمن خلال التظاهر والتواعد على العودة إلى التظاهر مجددًّا عند نهاية الأسبوع، وفي الفضاء نفسه يتّخذ الحراك شكله، يكتسب شكله الطقوسي المُهيكل له. ففي السبت الماضي، وقعت عيناي بشارع باريسي على جمعٍ من الأفراد المشاركين في التظاهرات يتواعدون ويقول بعضهم لبعض: “موعدنا هنا السبت المقبل”، تمامًا كما يتوادع ويتواعد لاعبو كرة القدم بعد مباراة أجروها في ناديهم الخاص. فالأمر، أولا وأخيرًا، تعبيرٌ عن رغبة في وجود معوي l’etre ensemble، بمعيّة الغير والذي نعرف بأنه عِماد كلّ أنسية socialité.

وهذه “القبائل” التي هي حوصلة الحراك غير موحّدة الشكل أي غير متجانسة في ملامحها الخارجية، بحيث نجد فيها شبابًا و شيوخًا، ومعدمين وفقراء، ومدافعين عن البيئة، ومناصرين لفكرة النمو؛ النمو المطرد في كل مجالات الحياة. كما نجد من بينهم أيضًا أفرادًا ينتمون لقبيلة “المكسّرين/المخرّبين”، وغالبًا ما يكونون أشخاصًا في  ريعان شبابهم يدفعون دومًا باتجاه الاحتكاك والاشتباك مع أعوان الشرطة les flics حتى صار صنيعهم هذا أشبه بممارستهم لهواية رياضية محفوفة بالمخاطر، ولعلّ اللافت في تصرّفاتهم المطبوعة بدمغة هيستيرية هو سرعة تنقّلها بينهم فيما يشبه العدوى.

اعتقد بأنه لا جدوى مطلقًا، من تحميل مسؤولية هذه الأحداث لمواقف حكومية بعينها ولا لسياسة بحد ذاتها. أمّا حالة الهلع والفزع التي تملّكت سياسيينا و صحافيينا جراءها، فناتجة عن وعيهم المتزايد بأسبابها العميقة  المحرّكة والملهِمة للجماهير، بنسب من الوعي واللاوعي متفاوتة. أسبابٌ قابلة للتلخيص في أن الجموع ما عادت قابلة  للتدجين السياسي/السياسوي وأنها شبّت عن الطوق وقادرة على الاستغناء كلّيةً عن “السياسيين” و”الرسميين” وحريصة أشدّ الحرص على التعبير عن ذلك جهارًا نهارًا. ولعلّ هذا النزوع الجماهيري المطرد عبر العالم كله هو ما كثّفه ذلك الشعار ما بعد الحداثي بامتياز، والذي جاب  المعمورة في هذه الأواخر، إنه شعار “ارحل” هكذا بصيغة الجمع والتواتر، ما يعني “ارحلوا جميعًا وبلا استثناء”.

لكن لابدّ أن نذكّر هنا قصار الذاكرة أن هذا الشعار نفسه هو الذي ضخّ جرعات من الحماسة لا يُستهان بها في السباق إلى الرئاسيات التي أدّت إلى فوز “إيمانويل ماكرون”. وهو ما يعني أن النزعة القبَلية المتنامية le tribalisme في مجتمعاتنا والتحوّلات النوعية المصاحِبة لها وعلى أكثر من صعيد، إنّما هي سيف ذو حدّين، قد تأتي بالأفضل وقد تحمل معها الأسوأ. جدير ذكر أن الرئاسيات الأخيرة في فرنسا غذّت وهمًا كبيرًا عند الناس مؤدّاه أن التغيير ممكن وأن التجديد ليس بمعجزة. لكن عشنا حتى رأينا، بأم العين، كيف أن الأمور سارت باتجاه تعزيز فرضية الرئيس مقترفًا “الخطأ المتكرر” أو مجسِّدا “للمحاكاة القهرية”. hypothèse du président fake على حساب ما كان مأمولًا، وهي فرضية رئيس الجمهورية “أيقونة ما بعد الحداثة”icone de la posmodérnité.(راجع تفصيل المسألة في كتابي الأخير: معنى أن تكون ما بعد حداثيًا، etre posmoderne ومقالة في خاتمته لـ : هيلين سطرول: “أيقونة” أو اجترار للسابق؟، مطبوعات “سيرف” cerf 2018) [ملحوظة: هيلين سطرول هي زوجة مافيزولي (المترجم)].

فلا القرار الرسمي القاضي بتأجيل تسديد القروض المتراكمة، ولا تجميد الإجراءات المزمع اتّخاذها قبل اشتعال شرارة الاحتجاج ستوقف عجلة الانتفاضة وستطفئ جذوتها المتّقدة، ولا هي كفيلة بامتصاص غضب الشبيبة و معالجة حالة الاستياء العامّ والتذمّر الشامل. ومن الوارد أيضًا أن ينتهي أمر الحراك إلى حالةٍ من التراخي، يليه التفكّك بسبب حملات الإذلال المنسّقة والخوف العارم الذي أطلقته. لكن تبقى الإشارة إلى أن ردود أفعال قطاعٍ عريض من الطبقة السياسية ليس من شأنها إلّا أن تزيد من تعميق الهوّة وتوسيع الشقّة المتسعة أصلا بين ما سبق لي وبمواضع كثيرة أن عمّدته بالزوج المفاهيمي: الرأي المعلَن أو “المنشور”l’opinion publiéé من جهة، والرأي العام  l’opinion publique من جهة ثانية.

على كل من يهمّه الأمر أن يستوعب جيدًا هذه الحقيقة السوسيولوجية: لن تتمكّنوا أبدًا من “لجم” و”تقنين” الهبّات والانفجارات الجماهيرية؛ التي تحرّكها بواعث وجدانية ولو من خلال مفاوضات مع “ممثّلين”! و لنستحضر، بهذا المقام، عبارةً قويّة لـ نيتشه، هذا الرؤيوي المتطلِّب الذي لم يُفهم في زمانه و أسيء فهمه بعده، أجدها شخصيا، منسجمة تمامًا مع “روح هذا العصر”، يقول فيها: “لا يُبنى أي شيء حاسم ومصيري في هذا العالم دون أن تعقبه العبارة التسليمية، وبالرغم من ذلك….”

بالرغم من العنف، والحرائق والتجاوزات بالجملة، التي ليس بمقدور الملاحظين تحميل المسؤولية عنها لا لليسار المتطرّف ولا لليمين المتطرّف، فالحاصل اليوم، على مرأى منا و مسمع، هي انتفاضة شعبية ضدّ النخب، خصوصًا الصحافيين، وانتفاضة أيضًا على “الذي انتخبناه رئيسًا فخذلنا شر خذلان!” نعم، فاللاشعور الجمعي، الذي تعجز الكلمات عن نقل مكنوناته، يئنّ تحت وطأة إحساس ساحق وماحق بالعار ناتج عن خديعة حبك خيوطها رجل يُجيد التمثيل، ويوهم غيره بأنه “لسان الشعب” و “الناطق المخلّص” باسم انتظاراته و أحلامه، و بالنتيجة فلا أحد غيره قادر على اختصار الشعب “السائر قدمًا”.

فبصرف النظر عن حزمة من الإجراءات المتخذة لوقف الحراك و القابلة لأكثر من قراءة ولشدٍّ وجذب، فاللافت فيها أن “الجميع” يمكن أن يجد فيها ضالّته و”العظم” الذي  سوف يتلهى بنهشه. فهي لو نظرت إليها من جانب لصالح الأكثر غنى، ومن جانب آخر صالحة للطبقة الوسطى، ومن زاوية أخرى لفائدة الأكثر فقرًا وعوزًا، ذلك أن “العقل” الذي تفتّقت عنه استعان بخدمة تسويق العرض، وفق ما سوف يُرضي كل “القبائل”، أي بالتساوي ظاهريًا بينها. لكلٍّ نصيبه وحصّته و”عظمه”! هناك مخطّط لمحاربة الفقر، وقرار بحذف ضرائب عن الدخول، والإعفاء من ضريبة السكن…إلخ، وبصرف النظر عن هذه التفصيلات التقنية المادية، فالأهم في معاينة الشعب المريرة للآتي: فما أن مرّت “المناسبة الانتخابية” حتى عاد “الطبيعي” و بقوة إلى الواجهة، “الطبيعي” هنا بالمعنى الذي تأوله به “توماس الأكويني” و عمّده في “الهابيتوس”، أي العادي جدًا والمتعوَّد عليه حتى لا نقول المكرور حد الاجترار! هذا الذي يتفنّن فيه المخادع الكبير وأزلامه/حلفاؤه.

هؤلاء العارفون بكل شيء عن أي شيء، والمتوفّرون على “حلول” لكل المشاكل، وقبل ذلك وبعده، لا يتوقّفون عن إعطاء دروسٍ لغيرهم! هؤلاء الذين خاطبوا الشعب نيابة عن الرئيس المحتجب في ذروة الأزمة. فما دام هذا الأخير منشغل بقضايا العالم التي يتداولها مع كبار العالم هنا وهناك، فليس لديه ما سيقوله للقرويين، لـ “أراذل القوم”.

دليلٌ صارخ عن هذه اللامبالاة من “فوق”، أنّه وبالوقت الذي كانت فيه باريس ومارسيليا تغلي و تشهدان صدامات ومواجهات غير مسبوقة في التاريخ الفرنسي المعاصر، ويتعاطف قطاع عريض من الفرنسسين مع معركة “السترات الصفراء” معتبرين إيّاها معركتهم، كان رئيس الدولة يخاطب، دون أن يرف له جفن، “شعبه” من “بيونوس إيريس”، كما لو أنه أراد أن يقول له: إنني منشغل بما هو أهمّ وأكبر، لا بالسفاسف! منشغلٌ بالمشكلات الكبرى لهذا العالم والتي أتداول بشأنها مع كبار هذا العالم، وليس لي ما أقوله لـ”أرذال القوم”! مشهدٌ مخزٍ قلّ نظيره عن مدى عجرفة وغطرسة التكنوقراطي.

لهذا، لا أتصوّر وجود سبيل ما إلى “تفكير مُسكِّن” une penséé palliative  بمقدوره إسكات هذه الانتفاضة أو تدجينها. فمنذ مدّة وأنا ألفت الانتباه إلى الفرق الدقيق الموجود بين المأساة le drame و التراجيديا la tragédie. فالمأساة (الدراما) تعبّر عن وضعية قابلة للتفسير والتجاوز، وتحتمل حلولا نهائية، مأخوذة من “دراماين” DRAMEIN، ومعناه إيجاد حلول بأي وجه من الوجوه. فلا مشكلة إلا ولها حلٌّ من منظور المأساة. بالمقابل، تفرض التراجيديا تأجيل الحل وتعليق الحكم (وضعه بين قوسين دائمين)؛ لتذكّر بذلك بحقيقة عميقة، هي محدودية وقصور كل حلٍّ بشري بتوازٍ مع تناهي الرحلة البشرية على هذه الأرض، وهو ما عبّر عنه “هايدغر” بقول: إنما وُجدنا لنموت. تأسيسًا على ما سبق، علينا أن نتبيّن في مطالب “السترات الصفراء”، من قبيل( تخفيض الرسوم والضرائب والقيمة المضافة، وتطوير الخدمات العمومية، والرفع من الأجور، وتخفيض سعر المحروقات..إلخ)، لا مجرّد مشكلات تستدعي حلولًا “عاجلة” أو “آجلة”، بل و”إثباتًا تراجيديًا للحياة”!

موقنٌ بأن اللازمة المكرورة، التي ما فتئت جماعة المُهادنين المحسوبين على الفكر les bien-pensants والتي تنعت “السترات الصفراء” بيائسين عاجزين عن تدبّر أمورهم المالية حتى آخر الشهر، وراءها ما ردد هؤلاء لعديد المرات: ضقنا ذرعًا من كثرة المصاريف وقلّة ذات اليد. فنحن بحاجة إلى الحلم و الاحتفال la fete وإطلاق العنان لغريزة الحياة فينا دون أن نكون مجبرين في كل لحظة على  تحسس جيوبنا لنعدّ ما فيها من نقود وإنْ كانت ستكفينا أم لا؟! و كم هي دالة، في هذا السياق، أعمال العنف المجاني التي استهدفت بها الجموع وكالات بنكية دون سرقتها أو نهبها، بل قنعت بتخريبها، تخريبها وحسب. معنى ذلك أن هذا الحراك أتى بشيء جديد يجد السياسيون صعوبة جمّة في فهمه واستيعابه، ولعلّ من تعبيراته الباذخة تأكيد الجموع، وبصراحة تلامس الوقاحة، على أنها ما عادت بحاجة إلى السياسيين؛ لكونها ما عادت تثق فيهم بالمرّة، ولا بأي شيء يصدر عنهم قولًا أو إجراءً!  وكلُّ المحاولات لاختزال الحراك في أقصى يمين أو أقصى يسار هو محض تهريج.

الحراك هو على الضفة الأخرى لكل هذا الذي تعوّدنا عليه. الحراك نتاج طبيعي لِما دعوته مرارا و تكرارا “مركزية  جوفية أو تحت أرضية”la centralité souterraine، و مثال قوي عن هذا الجيل الصاعد من الحركات الاجتماعية التي تشهد تناميًا تساعدها في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، و باتت تنتشر على نحو “وبائي”، في ما يشبه العدوى، بل والعدوى نفسها في كل أرجاء المعمورة.

هو حراك رهيب لجهة شعاره المركزي الذي يطالب الجميع من المحسوبين على النخب المدبِّرة بالرحيل، فقد بات مقتنعا بأنه لابديل لكل هذا الهراء السياسي الذي يتكرّر دونما توقّف إلا الرحيل بالجملة!! “ماكرون” نفسه ركب على هذا الشعار وبه وصل إلى سدّة الحكم قبل أن ينقلب عليه، فهو مدين كثيرا لهذه “الإرحليّة”le dégagisme في تنصيبه رئيسًا للجمهورية. وها هو الآن يلعب بالنار بعد أن قلب المعطف وتنكّر لفضله عليه، لا بل ويخاطر بمنصبه وبدفع ثمن باهظ. نعم، يلعب بالنار مع هذه “الجوفية المركزية”، ويخاطر أشد المخاطرة جراء ذلك، فمن شأنها أن تنقلب عليه وترديه “صريعًا سياسيًا” في أي وقت!

لهذه “الإرحلية” وجه “سالب” ومؤسف تمثّل في الكسر والتخريب، كما لها وجه موجب ومشرق، رصده حتى المتابعون لأطواره و المعّلقون عليها أولًا بأوّل. فقد عاينوا بأنه كان سببًا في ولادة وتنامي شبكات التآزر والتضامن اليومي بين الناس أنفسهم في حياتهم اليومية، ومقطوعة الصلة كلية بدواليب الدولة ومنظومتها الحمائية التقليدية التي ما عاد المتظاهرون يثقون فيها ولا ينتظرون منها شيئًا على الإطلاق.

يتبع في مقال لاحق.

الكاتب: السوسيولوجي المابعد حداثي الفرنسي المعروف والأستاذ في جامعة السوربون ميشيل مافيزولي، صدر له بالترجمة العربية عدّة مؤلّفات مثل: “في الحل والترحال: عن أشكال التيه المعاصر”، و”ودنيا المظاهر وحياة الأقنعة: لأجل أخلاقيات جمالية” و”مزايا العقل الحسّاس: دفاعًا عن سوسيولوجيا تفاعلية”، و”عود على بدء: الأشكال الأساسية لما بعد للحداثة”و “تأمّل العالم: الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية”.

المترجم: السوسيولوجي والمترجم المغربي عبدالله زارو، يذكر أن الأستاذ عبدالله قد أثرى المكتبة العربية بعديد المؤلّفات والترجمات، يذكر منها في هذا المقام ترجمته لكتب مافيزولي: “في الحل والترحال: عن أشكال التيه المعاصر”، و”ودنيا المظاهر وحياة الأقنعة: لأجل أخلاقيات جمالية”، و”مزايا العقل الحسّاس: دفاعًا عن سوسيولوجيا تفاعلية”، و”عود على بدء: الأشكال الأساسية لما بعد للحداثة”.

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

إعداد: عبدالله زارو

تدقيق لغوي: أحمد جناجرة

اترك تعليقا