“امرأتان في امرأة”: قراءة في رواية المناضلة نوال السعداوي

ترمز رواية “امرأتان في امرأة” للمناضلة نوال السعداوي تنازع شخصيتين في جسد امرأة واحدة تعيش تناقضات المجتمع المصري الأبوي لأقصى حد، وهي تحاول أن تعيش تفردها واستقلاليتها المنظور لهما من طرفها كقدر حتمي.

دوافع اختيار هذا الكتاب

الرغبة في اكتشاف عالم الرواية النسائية الغني بالأحاسيس، أو بعبارة أخرى، الرغبة في التعرف على الرواية التي يكتبها القلب، بعد أن سئمنا بعض الشيء من الرواية التي يكتبها العقل.

السبب الآخر كان شخصيًا للغاية، ويمكن تقديمه على النحو التالي:

التعرف عن قرب على المناضلة المصرية نوال السعداوي التي يطالها من التشويه والتقبيح ما لم يسبق أن طال أي امرأة عربية من قبل.

يمكن تقسيم رواية “امرأتان في امرأة” إلى شقيْن

الشق الأول:

وهو الشق الذي تقدم فيه بهية شاهين (بطلة الرواية) نفسها كثائرة على عقلية القطيع وراغبة في التفرد والانعتاق من قيود هذا المجتمع المُوجه بالتقاليد والأعراف، والذي تصك الحكومة أفراده كما تصك النقود في قطع مخروطية متشابهة. على هذا المستوى، لا يمكن تقديم نوال السعداوي (نوال السعداوي أو بهية شاهين الأمر لا يختلف) إلا كمناضلة عمومية وليس فقط كمناضلة نسوية، ونذهب أبعد من ذلك فننظر إليها كتنويرية من الطراز الرفيع، باعتبار التنوير، حسب نص كانط الشهير، ليس شيئًا آخر سوى رفض وصاية الآخرين علينا. ويصل رهاب القطيع عند بهية شاهين كما يسميه جورج طرابيشي، إلى درجة التحقير والهجاء وتشبيه الناس بالنمل والدود.

إعلان

من المقاطع القوية التي تصور هذا الاشمئزاز من القطيع، نجدها تصف زميلاتها في كلية الطب بالقول: “تجمعن متكئات، متلاصقات، وسرن برؤوسهن المطرقة إلى الأرض، وعيونهن المنكسرة، وسيقانهن المتلاصقة في تلك الخطوات الدودية الزاحفة.” ونجد أيضًا هذا المقطع: “مخلوقات أدمية مُسخت بقدرة قادر، بقوة هائلة غير بشرية، تحول البشر إلى مخلوقات أخرى غير بشرية”. على أن نوال السعداوي تتفنن في رسم صورة القطيع وتميز أنواعه، فهناك قطيع الأساتذة الجامعيين، وقطيع أفراد الأسرة، وقطيع الطالبات، وأخيرًا قطيع الموظفين الذي ينتمي إليه أبوها مما جعله يفقد هيبته أمامها: “وأبوها أيضًا خدعها. كان يظهر أمامها في البيت بجسد طويل ضخم، وظهر مشدود وكف كبيرة قوية قادرة على صفعها، مع أنه ليس إلا واحدًا من آلاف الموظفين في الحكومة”.

في هذه الظروف، يبقى الحل هو اختيار طريق التفرد، ويظهر الاسم للوهلة الأولى كرمز لهذا التفرد وعدم التشبه بالقطيع وانتشاله منه. تعبر البطلة عن هذه الحقيقة بالقول: “في انتفاضة جسدها تدرك أن لها جسدًا خاصًا، يمكن أن تحركه وتهزه فلا تهتز معه الأجسام الأخرى، أن له اسمًا خاصًا حينما يرن في الجو ترفع رأسها وتندهش. وفي كل مرة تسمع النداء تندهش، وتدرك بإحساس خفي أن أحدًا يناديها باسمها من دون الأسماء الأخرى، ويتعرف على جسدها من ملايين الأجساد، ويستطيع أن يميزها من بين المخلوقات السابحة في الكون بالبلايين.” غير أن الاسم ليس بذلك المفعول السحري الذي تتصوره بهية شاهين، فهو سرعان ما يبدو لناظريها مجرد تحديد لمكانها ضمن القطيع، وبالتالي فهو ليس تمييزًا بقدر ما هو تأكيد لانتمائها للجموع، وهذا ما يبرر رفض البطلة لاسمها ولشخصية بهية شاهين لصالح امرأة أخرى تسكنها وتريد عكس ما يراد لها، وهذا ربما سبب التسمية الغريبة للرواية، أعني “امرأتان في امرأة”. وهنا بالذات يصبح التفرد مجرد سراب وأسطورة. ففي نظر الناقد الأدبي الراحل جورج طرابيشي، التفرد لا يصنعه رد الفعل، بل الفعل والمبادرة وهذا ما يغيب عن ذهن بهية شاهين.

الشق الثاني:

هنا يصل نقد المجتمع الذكوري إلى أوجه عبر تسليط الضوء على تناقضاته الصارخة، منها من جهة، حين يطلب منها أن تتجرد من رغبتها الجنسية قبل الزواج، وهذا ما يعبر عنه مجتمع الشرف الجنسي فعليًا بختان البنات، ومن جهة أخرى حين يطلب منها أن تكون امرأة في كاملة أنوثتها وغنجها بعد الزواج وهذا ما تعبر عنه ثقافة استهلاك مساحيق التزيين والألبسة النسائية المثيرة. غير أن بهية شاهين تسقط في التنميط الذي يفرض عليها من حيث تريد الهروب منه: فهي برفدها أن تتصرف تبعًا لرغبة مجتمع الشرف الجنسي فتعبر رغبتها الجنسية تسقط في المصير الذي يراد لها بعد الزواج، أي أن تتحول إلى مجرد دمية جنسية، وحين ترفض أن تكون مجرد دمية جنسية تقع في البرود الجنسي التي يريده لها الأب والأخ وكل حراس الشرف. إنها مأساة بهية شاهين خاصة ومأساة المرأة العربية عامة.

غير أن جورج طرابيشي، في كتابه “الأدب من الداخل” يدعونا إلى عادة استعرض أحداث رواية “امرأتان في امرأة” حتى نفهم السر وراء نسوية بهية شاهين الشرسة أو حتى الفاشية بتعبير جورج طربيشي نفسه وكرهها للجنس، وما يرافق ذلك من رفض للمجتمع الأبوي والذكوري الذي تعيش وسطه. فاكتشاف بهية شاهين الطفلة لأعضائها الجنسية رافقه ضرب وقمع وهذا ما يعبر عنه هذا المقطع: “لتثبت لها الحقيقة. لكنها ضربتها على يدها وصاحت: “تحرمي.” ولم ترد. فضربتها مرة أخرى وهي تقول: “قولي حرمت.” ولم ترد. فرفعت يدها في الهواء وصفعتها على وجهها.” وهناك حدث آخر وهو حدث اكتشافها لدم الحيض وهي آتية من المدرسة، وما رافق ذلك من حملقة الشرطي فيها وهي تركد مخلفة وراءها آثار بقع الدم. وهناك أيضًا حادث منعها من اللعب والقفز من طرف أمها مخافة تسببها في هتك غشاء بكرتها، مما جعلها تكون صورة سوداء عن أنوثتها باعتبارها حاجزًا قوي أمام مرحها وسعادتها، وأمام الحياة بصفة عامة. وهناك أيضًا واقعة ختان أختها الكبرى وما سببه لها من كوابيس.

غير أن حل عقدة الرواية ومعاناة البطلة، سيأتي على يد شاب هو الآخر من هواة التفرد، وعلى يديه ستتمكن بهية شاهين من تحقيق ذاتها عن طريق النضال ضد قمع الحكومة، ومن أجل ضمان عيش كريم لأفراد الشعب المصري المغلوب على أمره. وهكذا تسقط بهية شاهين في مفارقة أخرى، وما أكثر المفارقات في هذه الرواية، وهي أن رغبتها في التفرد والاستقلالية عبر النضال ستجعلها ضمن قطعان الشعب الذي تناضل من أجله. هذا الشعب الذي طالما احتقرته وشبهته بالدود والنمل. وهي المفارقة التي كان بوسع بهية شاهين أن تتجنبها لو أنها نظرت إلى هذه القطيعية من منظور الفارق الطبقي وليس منظور النخبوية والأرستقراطية التي سقطت فيهما البطلة في أكثر من موضع من الرواية.

مها يكن من أمر، تبقى الراوية النسائية حبلى بالنضال والدعوة إلى الحرية، وهو نضال يمكن توسيعه من نطاقه الأول والضيق نسبيًا (أي الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بالمساواة) إلى نطاق أوسع يستهدف تحقيق الحرية والعيش الكريم للجميع سواء كانوا رجالًا أو نساءً.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: يوسف اسحيرد

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا