النبوءة “قصّة قصيرة”
لفح الهواء البارد وجهي وأنا أغادر البيت في طريقي إلى العمل بنفس الروتين اليومي الذي أؤدّيه.
نفس الخطوات الرتيبة التي أكرّرها كلّ يومٍ من البيت إلى مكان عملي في ضاحية المدينة، في تتابع انسيابي كدولاب ناعورة في مجرى مائي..من البيت إلى موقف الحافلات المتوّجهة إلى الضاحية حيث مقرّ العمل؛ وأيّ عمل توقيع الحضور والدردشة مع الزملاء في أحاديث الدنيا والدين وتوقيع الأوراق ..صرف ..طلب ..إخلاء عهدة وغيرها حتى ينتهي الدوام وهكذا كل يوم لا جديد.
الجديد عندي شخصيًا هو ذاك الحديث الذي أتبادله مع المجنون العمّ صالح، نعم (المجنون) هل تستغربون من العبارة؟!
طبعا من حقكم.
أنتم تشبهون صديقي عصام الذي يثور لمجرد أن اذكر له ما دار بيني وبين العم صالح، فيقول صارخا:
– أكيد أنت مجنون!
لماذا؟!
كل يوم تتحفني بما قاله المجنون صالح!
عم صالح رجل طيب!
لوّح بيده وهو يقول:- لم نختلف على طيبته لكنه مجنون وأنت الرجل العاقل المتزن تقف في الشارع لتتحدث مع مجنون!
صدقني يا عصام أنا أشكّ في جنونه!
نعم! (يفتح فمه في بلاهة)
ثم يلوّح بيده في استغراب:
تشك!
نعم عم صالح لا يؤدي من أمور الجنون ما يلفت أو يدل على أنّه مجنون ..إذا كان الجنون هو الإتيان بحركات غريبة فالعالم كلّه مجانين.
اسمع لا وقت لي للجدال في هذا الموضوع أنا ذاهب.
وهكذا تسير الأمور دائما عصام ضد طريقتي في التعامل مع العم صالح.
صدقوني العم صالح هو الوحيد الذي يكسر روتيني اليومي القاتم هو الذي يغير ألوانه بحديثه الذي أراه ممتعًا.
ما أن أقترب منه ويلمحني بطرفه حتى يبتسم لي وهو يقول :- أهلا بالصديق العزيز .. ثم يميل نحوي في هدوء:
– معك سيجارة؟
رغم إني لا أدخّن لكنّي أُخرج علبة السيجارة التي أخبّئها خصّيصًا له وأمدّ له بواحدة وأشعل عود الثقاب لنبدأ الحديث.
عم صالح رجل ثرثار لكن أحاديثه ليست مملة إنه تارةً يحدّثني عن نفسه، وتارةً عن العالم من حوله – كما يراه هو طبعًا-، وتارةً يغيب عني – كما أحس – ويذوب في تهويمة صوفيّة وكأنّه يحدّث شخصًا آخر بكلام لا أفهمه ..وما أن يرى عصام حتى يفرّ هاربًا.
وكم ألوم هذا الـ (عصام) على إزعاج العمّ صالح.
مرة قال لي عصام:
– صدقني يا حسن لم أعد أدري من المجنون أنت أم العم صالح؟!
تطلّعت نحوه وأنا أقول:
– لماذا؟
استند بظهره على الكرسي وقال:
– منْ يراكم تتحدثان يظن إنكما صديقان قديمان أو (دفعة) جامعة واحدة.
لا بأس من ذلك!
يثب في ثورة وهو يقول:
– أنت يا حسن لم يبقَ إلا المجانين كي تحاورهم.
ثم يشير إلى الناس الذين يملؤون الشارع وهو يقول:
– إذا أردت الحديث فما أكثر العاقلين!
التفتُّ نحوه وأنا أقول:
– أين هم؟!
هؤلاء الذين هم في غمار الحياة وصراعها أشبه بالمجانين ..بل مجانين حقيقة.
يا رجل الجميع في لهاث ولن تلقَ عاقلاً من هؤلاء، وثمّ إنّي آخذ بمقولة ( خذ الحكمة من أفواه المجانين ).
ثم ربتُّ على كتفه وأنا أدفعه للنهوض،
– هل نتمشى إلى البيت؟
سرنا صامتين.
قلت:
– هل تعرف يا عصام الفرق بين الجنون والعبقرية؟
نعم شعرة واحدة
صحيح .. لماذا لا يكون المجنون رجلاً عبقريًّا ولكننا لم نفهمه؟
يضرب عصام يديه وهو يقول:
– هذا الذي كان ينقصنا .. المجانين عباقرة!
لنقل كانوا عباقرة.
نعم وبعد ذلك!
كثير من العباقرة في أواخر أيامهم أصبحوا مجانيين ..شوبان وناش و…
قاطعني قائلا:
– لكن على الأقل بدؤوها عباقرة وختموها مجانين ..لكن مجنونك هذا رسمي منذ البداية.
تمتمتُ في شرود:
– من يدري.
***
مرّت الأيام وأنا وعصام وعم صالح في دولاب الحياة السائر بنا، والحديث لم ينتهِ عن الجنون والعبقرية والمجانين ولا شيء جديد.
قلت لعصام مرة:
– هل تعرف الفرق بين الماس والفحم يا عصام؟
لا يا أستاذ الكيمياء فأنا تخصص عربي ولست كيميائي مثلك.. ما الفرق؟
لا فرق، فالفحم – أو ما نسميه الكربون في الكيمياء – يمثل هو والماس وجهين لعنصر واحد فالماس رغم غلاء ثمنه ما هو إلا صورة من صور الفحم أو ما نسميه نظير بلغة الكيمياء.
تعني أن الماس أحد نظائر الكربون؟
تماما.
معلومة جديدة ..هل تعرف أنها أول مرة أعلم بذلك؟
تأكد أنها سليمة!
أعرف ذلك ألست (لافوازييه) عصرك لكن ما الذي ذكرك بهذه المعلومة الآن؟
أقول في شرود:
– أعتقد أن الجنون والعبقرية نظائر لعنصر واحد تمامًا مثل الفحم والماس.
يتنهد عصام وهو يقول:
– عدنا إلى العم صالح من جديد!
***
المدينة لم يتغير فيها شيء وكذلك الناس تمامًا كالحجارة رغم أنهم يتحركون.
وأنا في طريقي اليوم رأيت العم صالح فابتدأت الحديث قائلا:
– هه عم صالح كيف حالك؟
أمرٌ مهول يا بنيّ أمرٌ مهول!
شدّتني كلماته وأنا أقول:
– ما هو الأمر المهول يا عم صالح؟
زلزال ..زلزال!
أي زلزال .. الدنيا بخير.
لوّح بيده نافيًا وهو يقول:
– لا ليست بخير عمّا قريب سيأتي الزلزال ..الزلزال.
ويفر هاربًا وأنا أحاول اللحاق به لكن دون جدوى.
عدت إلى منزلي مفكرًا في الزلزال الذي يقصده العم صالح؟
ماذا يعني؟
وإذا كان حقًا سيأتي زلزال فكيف عرف العم صالح بذلك؟
وغيرها من الأسئلة فلم أنم تلك الليلة.
في الصباح لم أجد العم صالح في طريقي كما هي عادة كل يوم، وعندما حدثت عصام بالموضوع انفجر ضاحكا في وجهي وهو يقول:
– زلزال ؟!! صدّقت كلام هذا المجنون!
أقول بحدّة:
– ليس مجنونًا!
أنت المجنون إذن الذي يصدق كلام مجانين، يا رجل لا بد أنه مجرد كلام يقوله لك لكي تعطيه سيجارة أو أي شيء.
الحقيقة لم أقتنع بجواب عصام لكن لم أجادل.
***
مرت الأيام وجاء اليوم العظيم وشعرنا بالأرض تميد من تحت أقدامنا.
لقد حدث الزلزال الذي قال عنه العم صالح!!
نعم لقد حدثت الكارثة ؟!
والتفتُ إلى عصام في صمت وكل منا ينظر إلى صاحبه في ذهول؛ لاشك أنما دار في ذهني هو نفس ما دار في ذهن عصام ..أين العم صالح؟
كيف عرف بأمر الزلزال؟
وخرجنا نحن الاثنين نبحث عن العم صالح في الأماكن التي تعودنا أن نراه فيها، ولكن دون جدوى.. لا أثر للعم صالح!
تدقيق راغب بكريش