المُعالِجة النفسية التي كَرِهتني | مايكل بايكون (مترجم)

كان ذهابي إلى محلّلة نفسية للأطفال أربعَ مرات في الأسبوع ولمدة ثلاث سنوات سيئًا بما يكفي. وقراءةُ ما كتبَته عني كان أسوأ.

شهد يناير من عام 2022 وفاة  «إدنا أوشونيسي- Edna O’shaughnessy»، إحدى رائدات التحليل النفسي للأطفال، والتي أطلقت على نفسها ذات يوم لقب: «خادمة ميلاني كلاين». تدربَت أوشونيسي في عيادة «تاڤيستوك – Tavistock»، ومارست المهنة بشكل خاص لعقود في شمال لندن. في عام 2015 نشرت مجموعة من المقالات مستوحاة من خدماتها لعدد من العملاء، ثلاث من هذه المقالات تستند إلى تحليلها لفتى في الحادية عشرة من عمره، تُسميه «ليون-Leon».

بنظرة خاطفة إلى ليون في أول لقاء جمعهما، داخل ما أطلقت عليه أوشونيسي «غرفة اللعب» أدركَت أنها بصدد تحدّ صعب.

ونظرًا لأن الوالدين لم يأتيا بأي ذكر للاكتئاب، تتذكر قائلة:

”لم أكن أتوقع الطفلَ شديد الاكتئاب الذي جاءني للجلسة الأولى؛ صبي محطَّم وبليد، جلس على المقعد الصغير أمامي“.

إعلان

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى أصبحت أوشونيسي مقتنعةً أنَّ ليون ليس مريضًا اكتئابيًا فحسب، وإنَّما يعيش في عالم من الرموز المشوًّهة.

تقول: ”الوسادتان اللتان تجاورانه على مقعده، تمثلان والدين مجردين من الجنس، يحتضنهما ويبقيهما حوله“. على باب غرفة اللعب تلك، قيل بأنَّ ليون قد ميز «عضوًا ذكريًا وخصيتين» وعلى بقع الأرضية تخيّل شكلًا مشوشًا لـ «مهبل وفم».

يبدو أنَّ السرد القائم على التحليل الكلايني يعتبر موجهًا فقط إلى الزملاء المهنيين، الذين سيعتبرون تشويه ليون جزءًا من عملهم اليومي. بعد اكتشافي مقالات أوشونيسي مؤخرًا، وجدتُني أقلَّ تقبلًا، لم يستغرق الأمر سوى بضعة صفحات حتى أدركت أنَّ ليون البليد، في الحقيقة كان أنا. لقد تعرفتُ على نفسي، ليس من خلال الأوهام التي نسبَتها لي، وإنَّما لظروف حالتي والمقتطفات من محادثاتنا التي ذكرتها أوشونيسي.

انخرط والدي مهنيًا مع تاڤيستوك، والتي كانت في الثمانينيات معقلًا لمحللي كلاين. في عام 1986، قام بتسجيلي مع أوشونيسي، وبدأت فيما تبين أنها ثلاث سنوات من الجلسات الخاصة، أربعة أيام في الأسبوع، قرابة الأربعين أسبوعًا في السنة، في منزلها الواقع في منطقة هامبستيد.

لم يكن هناك شيء يحدث معي يتطلب جلسات علاج نفسي شبه يومية لشهور وسنوات. بالتأكيد كنت خجولًا، وأتردد أحيانًا في المشاركة في أنشطة جديدة، بجانب بعض القلق حيال فكرة بدء المرحلة الثانوية، لكنني لم أكن مكتئبًا بأية حال، كنت طفلًا راضيًا. حتى أنَّ والديّ قد اختلفا حول حاجتي إلى تدخل أم لا. كتبت أوشونيسي: ”كانت الأم مترددة بعض الشيء، تُصرّ على أنَّ ليون مجرد صبي عادي، لا يسبب إطلاقًا أية مشاكل“.

تحرص أوشونيسي بشدة على التأكيد على أنَّ البيئة التي قابلت فيها العملاء كانت بيئة سريرية. ولكن، لو كانت كذلك حقًا، لكان من المفترض لعملية تشخيصها وعلاجها للمشكلات أن تكون أكثر صرامة. سيتوقع المرء أن يطرح المعالج الحقيقي أسئلة أكثر تحقيقًا. هل هذا الطفل مضطرب حقًا؟ لو كان كذلك، هل يحتاج أربع ساعات أسبوعيًا من العلاج؟ هل الفوائد المحتملة للعلاج تفوق أضرار إبعاده عن دروسه وعن التواصل الاجتماعي؟ وحتى لو توافقت كل هذه النقاط، فهل التحليل النفسي هو التدخل المناسب؟

كان تأويلها لإجاباتي غالبًا ما يبدو سخيفًا بالنسبة إليّ، وتزايدت رغبتي في التعبير عن ذلك.

لكن أوشونيسي، التي تنظر إليّ من خلال عدسة النظرية الكلاينية المشوًّهة، لم تشكّ ولو للحظة في حاجتي لاهتمامها، والعلاج؟! فترة ممتدة من التحليل النفسي بالطبع! وصفة طبية لا أشك في أنَّ أوشونيسي كتبتها لكافة عملائها، بغض النظر عن تشخيصاتهم. كان بإمكان أي شخص بالغ منهم اختيار استثمار وقته وماله بشروطه الخاصة، وكان له مطلق الحرية في الانسحاب إذا ما وجد الأمر منافيًا للمنطق، ولكن هذه الرفاهية لم تكن متاحة للأطفال.

في الجلسات الأولى، كنت أتفاعل مع أوشونيسي وأجيب عن أسئلتها، والتي عادة ما تضمنت سؤال: ”بماذا تفكر؟“.

كان ما تستخلصه من إجاباتي غالبًا ما يبدو سخيفًا بالنسبة لي، وتزايدت رغبتي في التعبير عن ذلك. وكما ذكرت في إحدى مقالاتها، قلت لها ببساطة:  ”أنا أكره كلامك“.

مع تقدم العلاج، بدأت أراه كشكل من أشكال الاحتجاز، تزايد شعوري بعدم الارتياح لصحبة أوشونيسي، وبدأت أحضر الجلسات في وقت متأخر. وبحلول السنة الأخيرة، كنت أقضي ساعات عديدة في إنجاز واجباتي المدرسية شبه متخفٍ خلف صندوق ألعاب كبير. وفي أوقات أخرى، هربت إلى الحمام المجاور لأقرأ كتابًا. كان هذا السلوك ليثير اهتمام معالج نفسي ماهر.

على الرغم من أنَّ والدتي قد سبق وقيّمتني على أنني ”لا أسبب مشاكل إطلاقًا“، صرتُ بحلول السنة الثالثة أختبئ من أوشونيسي في دورة المياه. هل وقع مكروه في المنزل أو المدرسة؟ أو ربّما سبب العلاج النفسي مشاكل أكثرَ مما حل!

من الانتقادات المألوفة التي عادةً ما تُوًّجه إلى التحليل النفسي، أنّه يقوم على معتقدات غير قابلة للتفنيد؛ لا توجد طريقة لإثبات أو دحض النظريات التي يقوم عليها ولا الاستنتاجات التي يتوصل إليها، وبالتالي فهو غير مقبول علميًا.

غير أنَّ أوشونيسي تصرُّ في مقال بعنوان  «ما هي الحقيقة السريرية – What Is a Clinical Fact؟» (1994) على أنَّ موضوعية التحليل النفسي مضمونة من خلال قيام المحلل بـ ”الإشراف والنقاشات مع الزملاء“. مع ذلك، فإنَّ هؤلاء الزملاء يتشاركون بالفعل نفسَ عقيدة المحلل، وما يناقشونه في أي يوم سيتألف بالكامل مما اختار المحللُ إخبارهم به بالصيغة المشتركة، مما قد يجعل المجموعة بأكملها حلقة من المنجمين.

الطبيعة المنغلقة لهذا الترتيب تتجلى في مذكرة تأبينية عن أوشونيسي نشرت عام 2022 بواسطة المحللة النفسية الألمانية «جيزيلا كلينكورت-Gisela Klinckwort» ، تصف فيها الأخيرة أوشونيسي وهي تقود جلسة مؤتمر انعقد عام 2013، والذي تضمّن نقاشًا حول الفترة التي قضتها مع ليون.

تقول كلينكورت: ”كان مثيرًا للإعجاب أن نشهد كيف قامت «ريد» بمراقبة سلوك الطفل وكلامه، وكيف فهمت ليون فهمًا عميقًا ووصلت إليه بأبسط الكلمات“. «ريد» كما عرفت، كان لقبَ أوشونيسي بين زملائها. أظنُّ أنَّ كلينكورت جسّدت بدقة أجواءَ عملية ”الإشراف والمناقشات“ التي كانت تجري بينهم، لكن ما لا يمكنها معرفته أنَّ رواية أوشونيسي عن طبيعة العلاقة بيني وبينها، تقريبًا من اختراع الأخيرة.

كبالغ، حين أقرأ مقالات أوشونيسي، أرى كيف كانت تحاول أن تدمجني في إطارها النظري، من خلال مراجعة النظرية لتتناسب مع تفاعلاتنا. يظهر ذلك بوضوح في تشابكها مع مفهوم العقدة الأوديبية عند «سيجموند فرويد – Sigmund Freud»؛ ادّعى فرويد أنَّ جميع الأولاد يمرون بإحدى مراحل النمو حيث يرغبون فيها بوالدتهم، ويرون فيها والدهم كمنافس جنسي. ولكن، ترصد أوشونيسي في مقال «عقدة أوديب الخفية» (1989) مشكلةً خطيرة: ماذا يحدث حين يُظهر أحد عملائك ”قليلًا أو حتى لا يُظهر أية مادة أوديبية؟“

تصف كيف أنَّ المحلل النفسي النمساوي «هاينز كوهوت – Heinz Kohut» يقترح تنحية عقدة أوديب تمامًا، غير أنَّ ذلك لن يُجدي نفعًا؛ إذ ينطوي على مخاطرة الابتعاد عن إحدى تعاليم فرويد الرئيسية. لحسن الحظ، توصلت أوشونيسي إلى حل بمساعدة ليون. استنادًا إلى حالته، تفترض أنَّ العملاء يمكن أن تكون لديهم عقدة أوديب ”لا مرئية“، وأنَّ عدم ظهورها لا يعني بأنها غير ذات صلة بالعميل، وإنَّما هي مركزية ومكثفة بما يكفي لتكون القوة المهيمنة التي تؤثر على حياته العقلية. وبهذا تكون أوشونيسي قد حققت إنجازًا هائلًا؛ بالنسبة للمحللين النفسيين الذين يتساءلون عما إذا كانت عقدة أوديب عالمية كما ادعى فرويد، يمكنهم أن يطمئنوا، فحضور أو غياب المادة الأوديبية دليل على وجودها! النظرية لا زالت قائمة، وهناك طريق واعد جديد أمام العمل العلاجي لاكتشافه.. كل الطرق تؤدي إلى التحليل.

لقد قادها إحساسها العارم بأهميتها الخاصة إلى تجريد حياتي من أي معنى يتجاوز التحليل النفسي.

مع توسيع مجال ”المادة الأوديبية“ لتشمل كلًا من العلامات المرئية وغير المرئية على حد سواء، بدأت أوشونيسي تكتشفها في كل تفاعل مع ليون تقريبًا. إحدى الحقائق التي أولتها اهتمامًا كبيرًا، هي أنني خلال الأشهر الثمانية الأولى من الجلسات، قد اخترت الجلوس على مقعد صغير بين وسادتين. لو لم تخني الذاكرة، فقد جلست هناك لقرب المقعد من الباب، ولكونه مريحًا بما يكفي للجلوس لمدة خمسين دقيقة.

لكن أوشونيسي قد نأت بنفسها بعيدًا عن مثل هذه الاعتبارات العادية، فهي مقتنعة بأنَّ ”وسادتي ليون“ هما ”أبوان مجردان من الجنس، البقايا المريحة التي طُردت منها المكونات المخيفة الماثلة على الباب والأرضية“.

يجدر بنا أن نتساءل كيف وصلت أوشونيسي إلى هذا الاستدلال وزخارفه؛ القضيب والخصيتين والفم والمهبل، تلك الأشياء التي قيل بأنها لاحت أمامي كخنجر ماكبث. لم توضح متى، وفي أي مرحلة صرحتُ بأني أرى هذه الأشياء. سأكون مندهشًا لو فعلت، نظرًا لأن كلمة “فم” وحدها من بين هذه الكلمات كانت في قاموسي آنذاك. ما لدينا هنا هو محض إسقاطات، ليس من اللاوعي الخاص بليون، وإنما من مستودع النظرية الكلاينية المتهالكة.

أحد مثالب الوقت الذي قضيته مع أوشونيسي، كانت الطريقة الخبيثة التي سعت من خلالها إلى وضع نفسها بيني وبين والديّ، يتطلب الأمر ثقة هائلة بالنفس للقيام بفعل كهذا. لكن في حالتها، كان ذلك مرخصًا لها بمقتضى مفهوم «النقل- transference» ، أحد مفاهيم التحليل النفسي الأساسية؛ في عملية النقل يُعتقد أن العميل يشحن المعالج بمشاعره المكبوتة من الطفولة. وفقًا لذلك، تزعم أوشونيسي بأنني كثيرًا ما رأيتها كأمي. كتبت أنَّ ليون أرادها أن ”تبتعد عن الأب، وتقترب من ليون لتحاوره بالأسئلة، ليس فقط عندما يكون قلقًا ويحتاجني في ذلك، بل أيضًا حينما يكون عدائيًا ويرفض التواصل معي“. هاتان الحالتان المتضادتان – توقي المزعوم إلى القرب ورغبتي في الابتعاد – كلتاهما مقدمتان كدليل دامغ يدعم مسار عملها.

لقد قادها إحساسها العارم بأهميتها الخاصة إلى تجريد حياتي من أي معنى يتجاوز التحليل النفسي، حيث تعلن أن: ”الفجوة بين الجلسات أو في عطلات نهاية الأسبوع لم تكن موجودة بالنسبة إلى ليون“. في أحد المواضع تصفني بأني قد صُعقت من احتمالية قضاء عطلة نهاية الأسبوع بعيدًا عنها لدرجة أنني وجهت ركلة عنيفة نحوها وقمت بإشارة وقحة. وبحسب شرحها لهذا الانفعال، فقد كان في حقيقته هجوما على ”الأم الحامل“: كما لو أتوقع طفلًا آخر قد يسرق الانتباه مني.

لكن عطلات نهاية الأسبوع كانت مهمة بالنسبة لي، تحديدًا لأنها تُعد وقتًا بعيدًا عن هذه المهووسة، وإشارتي الوقحة – رغم أنني لست فخورًا بها – كانت موجهةً لها.

قد يُنظر إلى علاقتها معي على أنها حالة من حالات ما يطلق عليه المحللون النفسيون «النقل المضاد –

countertransference»، لكن من الأفضل اعتبارها وهمًا بالأهمية. للتأكيد على عدم اهتمامي بالعالم الخارجي، تصر أوشونيسي على أني ”لم أعبأ بالبيت أو بالمدرسة“. بيد أنني فعلت، كما يمكن أن يستخلص المرء من مقالاتها، والتي تحتوي على إشارات إلى قيامي بالواجبات المدرسية أثناء الجلسات. رغم ذلك، تصر بعناد على رؤية ذلك فقط كوسيلة لجذب انتباهها، عكس ما كان عليه الأمر في الواقع! محاولة مني لإبقاء نفسي في العالم الحقيقي خارج جلساتها، والذي كان بالنسبة لي أهمَّ بكثير مما تتخيله يحدث في غرفة لعبها.

إن كنت شغوفًا باهتمام أوشونيسي، فلماذا انتهت الجلسات إذًا؟ إنها تُقر بأنني قد أنهيت العلاج من جانبي في سن الثالثة عشرة، لكن يتعذر عليها التوفيق بين هذه الحقيقة وبين اعتقادها بأنَّ حياتي لم تكن ذات معنى بعيدًا عنها. وتختلق قصة معقدة عن طفل يائس من مواصلة العلاج.

وفق حسابها، قبل الجلسة الأخيرة بخمس عشرة جلسة، أحضر ليون علبة عصير مطبوع عليها ”خمس عشرة إضافية مجانًا“ بأحرف كبيرة. تزعم أنه كان شديد القلق من فقدان معالجته، ويائسًا للحصول على المزيد، على ”شيء إضافي“ منها، ويفرغ هذه المشاعر على علبة الكرتون. وبعد أن يمتص القطرات الأخيرة منها، يقذفها ليون عبر الغرفة نحو سلة المهملات، قبل أن ينهار في غفوة لا تصدق: ”إنه ينقل إليّ ألمًا وقلقًا يمزقانني تمامًا، وفجأة يغفو.. أمر لا يُحتمل“.

إن لم يكن هذا كله مُلفق من جانب أوشونيسي، فذرة الحقيقة الوحيدة في ذلك هي أنني كنت في حالة من السخطّ الشديد، ومستعدًا لرمي الأشياء.

قد يعجبك أيضًا

النقطة الوحيدة التي نتفق عليها أنا وأوشونيسي هي ضآلة ما أنجزه التحليل النفسي. في مقال «ما هي الحقيقة السريرية؟» تعلق على أحد الجلسات:

”الآن، وبينما أكتب هذه الأوراق، أرى أن إحساسي باليأس حينما واجهت حالة ليون الدفاعية والمنقسمة، وبأني مضطرة إلى تحملها فحسب،  نابع على الأرجح من شعوري بالفشل كمحللة مع ليون. نتائج العلاج كانت محدودة للغاية“.

لكنها، وبعد أن لاحظت فقر النتائج، لا تهتم سوى بكيف أثر ذلك سلبًا عليها، اليأس الذي أحسته، والصبر الذي احتاجته للاستمرار. لا يعنيها ما يتعلق بي، أنا، الذي قضيت معها وقتًا طويلًا وغير سارّ، وبشكل عام، هي تكاد تكون غير مهتمة ولا يساورها أي فضول تقريبًا حول ما جنيته أنا من تلك السنوات الكئيبة. مقالاتها لا تقدم أية إشارة إلى ما أرادت مني تحقيقه خلال الجلسات، وسؤالها عما إذا كنت قد تجاوزت عقدة أوديب الخفية ظلَّ غير مُجابٍ في أوراقها.

تعبير أوشونيسي الوحيد عن فضولها بشأني يظهر في جزء موجز من ورقة بحثية بعنوان «عن الامتنان – On Gratitude » (2008) تقدم فيها وصفًا دقيقًا لجلستنا الأولى. تتذكر عودتي بعد نهايتها لأقول: ”شكرًا. شكرًا. شكرًا لكِ“. وتتساءل: ”ما الذي كان ليون يشكرني عليه؟“ والجواب بسيط؛ كنت طفلًا مهذبًا في الحادية عشرة من عمره تربى على شكر الكبار. لكن أوشونيسي تفضل على جري العادة، اختلاق تفسير يخدم مصلحتها: ”أعتقد أنه كان يشكرني على العناية بواقعه النفسي، وعلى الاهتمام والتحليل“. لقد كنت، كما كتبت:

”ممتنًا أيضًا لأنه في هذه الظروف الجديدة لجلسة العلاج، عندما سمح لي برؤية كآبته وخوفه وتوسله الخافت للعون، تمكنت من فهم مشاعره والتحدث عنها بوضوح. أعتقد أنه كان ممتنًا لي لقيامي بعملي“.

كل ذلك عارٍ عن الصحة. السؤال الأفضل – الذي كان من الممكن أن يخترق درعها الهائل – هو لماذا لم أشكرها مرة أخرى؟

لم تستطع رؤيتي إلَّا كأداة لتطبيق أفكار معدة سلفًا.

عند قراءة رواية أوشونيسي عن الوقت الذي قضيناه معًا بعد مرور كل هذه السنوات، يدهشني كم كانت تكرهني. في العديد من المرات تصف ما أقوله وما أفعله بأنه إما بغيض وإما قاسٍ، وتصفني بأنني مشفق على ذاتي ومتلاعب – وبشكل غريب – بليد. هذا مجرد تخمين من جانبي؛ يبدو أن أحد أسباب استيائها هو عدم اعتيادها على النقد. رسائل التأبين التي كتبها زملاؤها بعد وفاتها ودودة بطبيعة الحال، بيد أنها تشير أيضًا إلى أنها لم تلقَ الكثير من المعارضة أو المقاومة. ومع ذلك، كنت منذ سن الحادية عشرة، أظهر لها كلا السلوكين، بوتيرة متزايدة، على مدار ثلاث سنوات. أوشونيسي انتقائية جدًا بشأن مقدار ما تكشفه في مقالاتها، لكنها بالطبع عرفت ذلك، ولم يرق لها الأمر.

كيف أشعر بعد أن صادفت هذا التشويه الجامح لشخصيتي المبكرة؟ أقضي جزءًا من حياتي المهنية في مطالعة المقالات الصحفية، العثور على وصف أوشونيسي لي في ثلاثة منهم كان مفاجأة فريدة من نوعها. مفاجأة بثت في نفسي تدريجيًا شعورًا بالانتهاك، نابعًا من إصرار المحللة على إحساسها بأنها تمتلك جزءًا من حياتي، يحق لها مشاركته مع الآخرين كما يحلو لها.

بينما كنت أكتب هذا المقال، وجدت مقابلة مصورة لها سُجلت عام 2015 تقريبًا، ذكرت بشكل عابر عبارة ”صغيري ليون“، هذا التعليق الامتلاكي – الذي نطقته بعد ربع قرن منذ آخر مرة رأتني فيها – يبدو لي كمحاولة اختطاف. يحوي في كل من مضمونه وتأثيره جوهر علاقتنا.

مقالات أوشونيسي خير مثال على القابلية البشرية للتلقين، وإمكانية طغيان العقيدة على الأفكار المنطقية حول علاقاتنا مع الآخرين، بما في ذلك الأطفال طبعًا. كما توضح نزوع المجتمعات المنغلقة على نفسها، والمنظمة ذاتيًا  إلى الوقوع في الخطأ وإلحاق الضرر.

إنَّ منظومة معتقدات «ميلاني كلاين – Melanie Klein» – التي علمتهم أن الرُّضع ”المصابين بجنون الارتياب“ عند الرضاعة يهدفون إلى قضم الفضلات، والرضع الآخرين، والقضيب الأبوي المفترض وجوده داخل الثدي – طبيعي أن تُثمر عن هذيان علاجي.

مع ذلك، الأزمة تتجاوز أية مجموعة بعينها من المبادئ. العلاج النفسي الناجح يتطلب، قبل أي شيء، أن يتناغم المعالج النفسي مع الشخص الآخر في الغرفة. وأية مجموعة من الافتراضات المسبقة تمثل عقبة أمام المهمة. إذا كانت أوشونيسي قد أهدرت من طفولتي ثلاث سنوات مخيبة للآمال، فليس لأنها تعمدت ذلك، بل لأنها لم تستطع رؤيتي إلا كأداة لتطبيق أفكار معدة سلفًا. وبطريقة ما، استشعرتُ هذه النقطة منذ البداية، وقاومتُها، وهكذا نجوت من المزيد من الضرر الدائم.


مصدر المقال:

https://aeon.co/essays/my-dismal-years-in-psychoanalysis-with-melanie-kleins-disciple

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ريم حاتم محمد

ترجمة: أحمد وفدي الديب

اترك تعليقا