المشهد من نافذتي في غزة (مترجم)
«قبل يومين من تصعيد إسرائيل هجماتها في قطاع غزَّة، اشترت عائلتي بضع أرغفةٍ من الخبز، وبعد أن أُخلِينا، عدتُ إلى بيتنا بالدراجة؛ لأستعيدها».
مصعب أبو توهة 20/10/2023
في يوم الخميس، الثاني عشر من أكتوبر، تساقطت من سماء بيت لاهيا -الواقع شمال غزة- حيث منزل عائلتي؛ أوراقٌ تحمل شعار الجيش الإسرائيلي، وبداخلها كُتب التحذير: ابتعدوا عن مواقع حماس العسكريَّة ومُسلَّحيها، وغادروا منازلكم فورًا.
وعندما توجَّهت إلى الطابق السفليّ، وجدت والديَّ وإخوتي يحزمون حقائبهم، بينما اكتظَّت المدارس المحليَّة -والتي تدير العديد منها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- بالعائلات النازحة، إلَّا أنَّ خالي قد اتَّصل بوالدتي وأخبرها أنَّ بإمكاننا الانتقال إلى منزل عائلة زوجته في مخيَّم جباليا؛ أكبر مخيمات اللاجئين في غزة، والذي ويسكنه عشرات الآلاف.
فاستقلَّت زوجتي السيارة إلى مخيَّم جباليا، ومعها أختها ووالدتي وأخواتي والأطفال، أمَّا أنا وأخي الأكبر وصهري فركبنا درَّاجتنا إلى هناك، لنشهد نزوح عشرات العائلات، تسير بكلِّ ما أمكنها حمله، وذلك قبيل أن تطلب إسرائيل من أكثر من مليون نسمة تعيش شمال غزَّة بأن يخلوا منازلهم على الفور، الأمر الذي وصفته الأمم المتحدة لاحقًا “بالطلب المستحيل”.
وفي تلك الليلة، ومع اقتراب الساعة من الثامنة والنصف، أُضيأت الشقة التي لجأنا إليها بانفجارٍ قريب، فملأ الغبار كلَّ ركنٍ منها، وسمعتُ صرخاتٍ دوت عاليًا كدويِّ الانفجار، خرجتُ بصعوبة لامتلاء الممرَّات بالحجارة وقضبان الحديد، لأجد سيارة صهري مشتعلةً بالنيران، وقد كانت تبعد عنَّا حواليّ خمسين مترًا، وبالقرب منها منزلٌ يحترق، رأيتُ في طابقه الثاني الذي سقطت جدرانه امرأةً جريحةً معلَّقةً على الحافَّة؛ تحمل طفلًا ساكنًا بلا حراك.
اعتدنا على بيوت مخيَّم جباليا الصغيرة لدرجة أنَّك يمكن أن تعدَّ الشارع غرفة معيشتك، فتسمع أحاديث جيرانك وتصلك روائح ما يطهونه من طعام، أمَّا الممرات بينها فلا يتجاوز عرضها المتر الواحد.
بعد يومين من لجوئنا إلى المخيَّم، وصباح يوم السبت، نفد الخبز من عائلتي، ومنعت إسرائيل عن غزَّة الكهرباء والغذاء والماء والوقود والدواء. رحتُ أبحث عن مخابز، لأجد المئات يتكدَّسون خارجها، فتذكَّرتُ أننا اشترينا خبز البيتا (الكماج) قبل يومين من تصعيد الحرب، وأننا وضعناه في ثلاجة منزلنا في بيت لاهيا.
فقررت العودة إلى المنزل، دون إخبار زوجتي أو والدتي، لعلمي بمعارضتهما ذلك، أمَّا الرحلة فلم تستغرقني أكثر من عشر دقائق. شهدتُ فيها جموعًا من الناس تسير في الاتجاه المعاكس لي؛ يحملون الثياب والبطانيات والأطعمة، تملَّكني الخوف لعدم رؤيتي أطفال الحيِّ يلعبون بالكرات الزجاجية (الغلول\ البنانير) أو كرة القدم، وكأنَّ الحيَّ بات غريبًا عنِّي، هذا ما حدَّثت به نفسي.
وعند وصولي إلى الشارع الرئيس المفضي إلى منزلي، توقفتُ أمام أولى المشاهد الصادمة، لأرى المتجر الذي اعتدتُ اصطحاب أطفالي إليه لشراء العصير والبسكويت وقد غدا حطامًا، تلك الثلاجة التي امتلأت بالمثلجات يومًا؛ غدت آنذاك مليئة بالركام، شممتُ رائحة المتفجرات، وربَّما اللحم البشريّ المحترق، قدتُ دراجتي أسرع من ذي قبل، واتجهتُ يسارًا إلى حيث منزلي.
ولدت في مخيم الشاطئ لللاجئين، أحد المخيمات الثمانية في قطاع غزة، وفي عام ٢٠٠٠، ومع بدء الانتفاضة الفلسطينيَّة الثانية؛ قرَّر والداي الانتقال إلى بيت لاهيا. أذكر أنَّنا وصلنا إلى منزلنا الجديد هناك، لنجده بلا نوافذ ولا بلاط، بينما كانت أنابيب المياه في المطبخ والحمام مكشوفة.
وفي عام 2010 حصل والدي على قرضٍ لشراء الأرض المجاورة لمنزلنا؛ فزرع ووالدتي أشجار الفاكهة، كالجوافة والليمون والبرتقال والخوخ والمانجا، والعديد من الخضراوات، كما بدأ والدي في تربية الدجاج والبطِّ والأرانب والحمام في حديقة المنزل، كهوايةٍ يُحبُّها.
وبعد زواجي عام 2015، بنيتُ منزلي فوق منزل والداي، وكنتُ وزوجتي نشاهد حدود بلادنا مع إسرائيل من نافذة غرفة النوم، أمَّا أطفالنا فكانت نوافذهم تطلُّ على أشجار الزيتون والليمون لدى جيراننا.
وفي عام 2021، وعندما عدتُ من الولايات المتحدة لحصولي على منحة الزمالة فيها، وجدتُ والداي وقد جدَّدا مقتنيات منزلي، كالأطباق والكؤوس والسجاد، كما اشتريا مكتبًا جديدًا، وثبَّتا رفوفًا جديدةً لتحمل الكتب التي أحضرتها معي، ودهنَّا السقف ليغدو كما أحببتُ يوماً: في المنتصف نجمةٌ كبيرةٌ باللونين الأصفر والبني، حولها مثلثاتٌ صغيرةٌ ودوائر وقوس قزح. بدت الأشكال والألوان متعانقةً سويًّا؛ متعايشةً مع بعضها؛ كغرباءٍ تشاركوا الطابق ذاته من المبنى، أذكر أنَّني عندما رأيتُ السقف؛ أدركتُ محبَّة والداي العظيمة لي.
توقَّعتُ أن أكون الوحيد الذي يعود إلى الشارع الذي أسكن فيه، ولكنَّني عندما اقتربتُ من منزلي تفاجأت بوجود جاري جليل، كان يحمل سيجارة في يد؛ وإبريقًا في الأخرى، ويسقي الفراولة المزروعة. قال لي إنَّ زوجته وأختها في الداخل، تغسلان الملابس وتملآن الزجاجات بالمياه وتغلفان الأطعمة بأكياس بلاستيكيَّة. أخبرني أنَّ أسرته لجأت إلى إحدى المدارس، حيث لا مياه نظيفة، والحمَّامات قذرة، إلَّا أنَّهم لا يملكون خيارًا آخر.
تنفَّستُ الصعداء لرؤيتي المبنى قائمًا، صعدتُ الدرج إلى منزلي في الطابق الثالث، وتوقَّفتُ أوَّلًا في المطبخ، حيث وجدت أبواب الثلَّاجة والفريزر مفتوحة، تمامًا كما تركناها، لم تكن الكهرباء كافيةً للتبريد؛ لدرجة أنَّ كل طعامٍ قابل للتلف بدأ في التعفُّن، أمَّا الخبز فوجدته سليمًا.
توجَّهتُ إلى مكتبتي، حيث أعمل في العادة على قصائدي وقصصي ومقالاتي، لطالما قضيتُ الساعات هناك أقرأ لخليل جبران ونعومي شهاب ناي وماري كار ومحمود درويش. وجدتُ الغبار يعمُّ المكان، وقد سقطت بعضُ كتبي من مكانها على الرفوف، والنافذة قد كُسِرَت. حملتُ بعض الحلوى من درج مكتبي، لأقدِّمها للأطفال لاحقًا.
توجَّهتُ أخيرًا إلى غرفة المعيشة؛ فوجدت نوافذها مفتوحةً كالعادة، لطالما تمنيتُ إغلاقها، خاصَّةً في أيام الشتاء القارسة، إلَّا أنَّ موجات الصدمة التي تتبع الانفجارات ستحطِّم النوافذ بطبيعة الحال، ومن يملك المال في غزة لإصلاح نوافذ منزله؟ أمَّا الستائر؛ والتي كانت تنتفخ إلى الداخل في حركة جنونية أثناء القصف؛ فوجدتها ترفرف مع النسائم.
جلستُ على الأريكة أحدِّق في الأشكال الملوَّنة على السقف، والتي لا زالت تلمع بفضل الدهان الجديد. تدلَّت ثلاثة مصابيح فوق رأسي: اثنان منها يعملان بالكهرباء، والثالث بالبطاريَّة للاستعانة به عند انقطاع الكهرباء، وآنذاك، كانت المصابيح الثلاثة معطَّلةً تمامًا.
عادةً ما يكون الظهر حارًا في غزَّة، فنسمع الأصوات التي تصلنا من الخارج، ما بين الدراجات النارية وشاحنات المثلجات، ولكنَّني آنذاك سمعتُ أزيز الطائرات التي تحلِّق دون طيَّار. لم يكن هناك طلبةٌ يعودون من المدارس إلى منازلهم، ولا سيَّاراتٌ تقلُّ عائلاتهم إلى الشاطئ، ولا عصافير تزقزق بين أشجار حديقتنا. لقد حلَّت محل ذلك كله أصوات سيَّارات الإسعاف والإطفاء، أخبار الراديو والانفجارات المتفرِّقة التي تعود أحيانًا إلى الاتصال. كان ذلك كلُّه ممتزجًا بموسيقى تصويرية جديدة وغريبة.
وجدتُ ذبابةً عالقةً في غرفة المعيشة، ولم أجد أيَّ نفعٍ من ضربها، بل نهضتُ لأفتح النافذة على وسعها، وأسحب الستائر جانبًا، وفقط أثناء ذلك، دفعني انفجارٌ إلى الخلف، فاهتزَّت الأرض وارتجَّ المنزل واضطرب قلبي، وهوت الكتب أرضًا من أماكنها على الرفوف.
تناولتُ هاتفي والتقطتُ بعض الصور، وعلمتُ بسقوط قنبلتين على بُعد خمسين مترًا من بعضهما، بعدتا عني قرابة الكيلومترين، أقَصَفوا بذلك مزرعةً أم شجرةً أم منزلًا أم عائلة؟ لا تقتلنا الانفجارات فقط، بل تحطِّم المنازل التي تحمينا من آثارها. رأيتُ الطيور تحلِّق في السماء فجأة، قبل أن يسقط أحدها عاجزًا عن الارتفاع، لعلَّ حجرًا أصاب ظهره، تساءلت: من الذي سيضمِّد جراحه؟ إنَّنا بالكاد نملك أطباء للبشر.
عدت إلى الأريكة، فوجدتُ الإشعارات على هاتفي؛ تنقل لي الأخبار العاجلة “انفجاران مدوِّيان في بيت لاهيا، المزيد من التفاصيل بعد قليل” فأتساءل ما حدث للذبابة، لعلَّ ذلك كان تحذيراً لكلينا؛ بألَّا نتحرَّك من أماكننا.
طاردتني فكرةٌ واحدةٌ وتملَّكت عقلي، لم أستطع التخلص منها: هل سأغدو -أنا أيضًا- رقمًا في إحصائيَّةٍ على إحدى قنوات الأخبار؟ تخيلَّتُ نفسي أموت؛ مستمعًا إلى اسمي تسرده قنوات الراديو.
أذكر يوماً من عام 2020 عندما واجهتُ أنا وزوجتي عاصفةً ثلجيَّةً في سيراكيوز \نيويورك. رأينا الناس يخرجون من منازلهم، وترتفع أصواتهم بالسؤال، إن كانت الكهرباء قد قطعت أم لا. أذكر أنَّني وزوجتي ابتسمنا لبعضنا، قلتُ لها: “لو كانوا في غزة لظلوا في الخارج طويلاً يتساءلون.”
كنتُ أتأمَّل السقف فوقي، دون أثرٍ لأيَّة ذبابة، صنعتُ الشاي ولكن نسيتُ احتساءه، لقد بات الغبار يغطي الأرائك والسجادة والطاولة، أغلقت النوافذ قليلًا تاركًا مساحةً لدخول الهواء.
نسيتُ ذِكر نباح الكلاب، والذي لم أعتد سماعه من قبل، ولكن منذ تصاعد الهجمات الإسرائيليَّة، علا ضجيجها، بدت لي تنبح في الليل باكية.
رأيتُ السقف يحدِّق بي بدوره، أغمضتُ عيناي، وعندما فتحتهما مجدَّدًا، وجدتُ كل الرسومات في مكانها: النجمة الكبيرة والدوائر والمثلثات وقوس القزح. ذكَّرني تشبُّثها بالسقف بتشبُّث الطفل بصدر أمه، وللحظة تمنيتُ لو كنتُ طفلًا.
سمعتُ انفجارًا آخر، ولكنّي لم أرَ الدخان متصاعدًا، كان الذعر يملأ جنبات المكان من حولي، وعندما لا ترى الانفجار بعينيك، تشعر وكأنَّك بتَّ أعمى. فكَّرتُ في مخيَّم اللاجئين الذي تركتُ فيه عائلتي، تذكرتُ ابنتي يافا، والتي لم تسألني يومًا: “من الذي يقصفنا يا أبي؟” بل كانت تبكي وتُردِّد على مسامعي: “إنها قنبلة يا أبي! إنِّي خائفة! أريد الاختباء بعيداً.”
اتَّصلتُ بزوجتي مرام، فطمأنتني بأنَّ أطفالنا “بخير، يشاهدون الفيديوهات على اليوتيوب”، الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تلهيهم عمَّا يحصل حولهم من انفجارات.
تناولتُ من المطبخ اثنتي عشرة بيضة، لحم البقر والدجاج والخبز، لم أحمل أيَّة مقلاةٍ أو قِدر خوفاً أن تظن مُشغلات الطائرات الإسرائيليَّة بأنَّها بنادق أو صواريخ، أحضرتُ شاحناً إضافياً من مكتبتي، ولاحظتُ، قبل مغادرتي، كومةً من الكتب على مكتبي، بدت لي تنتظرني هناك، لأتناول منها كتابًا، وأحمله معي إلى الحديقة عصرًا؛ فأجلس لقراءته بين أشجار الفاكهة. كم تمنَّيت عصير الليمون أو الجوافة في تلك اللحظة!
وصلتني المزيد من الإشعارات على هاتفي، أقول في نفسي أحيانًا: “لن أتابع الأخبار، فنحن جزءٌ منها على أية حال.”
عدتُ إلى الأريكة مجدَّدًا، ألتقطتُ أنفاسي، لم أستطع كفَّ ناظريَّ عن التحديق في السقف، تخيلته ينهال فوقي، كما انهالت سقوفٌ عديدةٌ فوق ساكنيها؛ في الأيام السبعة الماضية؛ فقتلتهم تحت أنقاض غرفهم. تساءلتُ: “وأنا، ما الذي سيقتلني؟ تلك المثلثات الصغيرة؟ جزءٌ من قوس القزح ذاك؟ أم النجمة بلونيها البني والأصفر؟”
عدتُ إلى مخيَّم جباليا، أشعر بأعين المارة ملتصقةً بأكياس الطعام البلاستيكية التي أحملها، قرأت في أعينهم رغبتهم الشديدة في العودة إلى منازلهم، وجلب ما يحتاجونه من هناك.
وفي اقترابي من “منزلنا”، تجوَّلتُ في الشوارع المليئة بالحجارة والشظايا، قدتُ دراجتي ببطءٍ وحذر، آملاً ألا ينفجر إطارٌ منها؛ تحت وطأة الوزن الذي بحوزتي. رأيتُ العائلات تتجوَّل حولي، والأطفال يلعبون الحجلة في الممرَّات، ولا أستطيع إلا أن أتخيَّل في ذهني الذعر الذي أصابهم، عند سماع صوت انفجار إطار الدراجة.
رابط المقال: